العدوان الإسرائيلي على قطاع غزة: قراءة في أبرز معطيات النزاع وقواعد الاشتباك
جارش عادل
باحث دكتوراه علاقات دولية في جامعة مرمرة، تركيا
يُعد العدوان الإسرائيلي الجديد على قطاع غزة الرابع من نوعه منذ عام 2008، ولقد شهد عدة تطورات وأنماط مستحدثة من المواجهة على المستوى الميداني والعسكري خاصة مع تطور صواريخ المقاومة، والتي تعتبر السلاح الاستراتيجي المركزي لها في معركتها مع الكيان الصهيوني. وفي سياق المواجهة بين الطرفين خلال الأيام السابقة، فإن الملاحظة الأولى تتمثل في “من بدأ الحرب؟” Who Started The War ?؛ أي من كان المبادر للحرب؟، فخلافاً للحروب السابقة بين الطرفين فإن فصائل المقاومة الإسلامية هي من بدأت المواجهة لدعم أولئك المعتكفين والمدافعين عن القدس، وضد الاعتداءات الاسرائيلية السافرة على أهالي الشيخ جراح بالقدس إثر القرار الذي اتخذته المحكمة الإسرائيلية بشأن إخلاء عائلات فلسطينية من منازلها لصالح إسكان مستوطنين إسرائيليين، وربما تعتبر المبادرة هنا –أي من بدأ المواجهة- نقطة لصالح المقاومة لعدة اعتبارات، ومن بينها التأكيد على أن المقاومة الإسلامية لا تقتصر على قطاع غزة فقط، وإنما هي مقاومة وطنية، فالمساس بالقدس أو أحد المدن الفلسطينية وإيذاء سكانها هو بمثابة المساس بغزة، وهي جزء لا يتجزأ من فلسطين، وما ميز هذه المبادرة أنها لقت الدعم الشعبي والسياسي لها لا سيما مع انتفاضة السكان الفلسطينيين في عدة مناطق بالقدس وعكا والضفة الغربية، ولقد امتد هذا الدعم ليشمل وقفات تضامنية وتصريحات ومواقف سياسية في عدة عواصم ودول إقليمية وعالمية تؤيد الحق الفلسطيني وتنبذ الإجرام والقصف الصهيوني لقطاع غزة.
أما على المستوى العملياتي في فن الاشتباك فيمكن القول بأن المبادرة بالحرب يعني تحقيق عنصر المفاجأة، والتأكيد على أن الطرف المهاجم لديه القدرة الكافية واللازمة لتهديد الطرف الآخر، وهو ما يعني وجود ثقة بالنفس في القدرة الهجومية لشل وإحداث تأثيرات جد وخيمة لدى الكيان الصهيوني. وعند قراءة في متغيرات القوة بين الطرفين، فلا بد أولاً من التأكيد بأنه لا يمكن المقارنة بينهما باعتبار أن الكيان الصهيوني هو الأقوى نظراً لامتلاكه ترسانة ضخمة من الأسلحة وتفوقه في عدة مجالات، غير أن الميزة التي أبرزتها هذه الحرب هو “التكيف” Adaptation الذي أبدته المقاومة الإسلامية خاصة مع ابتداعها أساليب وقدرات مكنتها من مجاراة القوة الإسرائيلية نسبياً وتهديدها في عدة مدن ونقاط استراتيجية مهمة في القدس وتل أبيب ومطارها الدولي بن غوريون وعسقلان وبئر السبع وأسدود.
تلجأ المقاومة المسلحة إلى استراتيجية ردع الضعيف للقوي؛ بمعنى أن يكون لها عدد متاح من الخيارات المهمة والحيوية لاستهدافها لدى الكيان الصهيوني، كمنشآت التصنيع والقواعد العسكرية والمطارات
ويعود الفضل في ذلك إلى تطوير الصناعة الصاروخية للمقاومة، فلقد كيفت قدراتها مع دواعي وظروف الصراع، وعملت على حفر شبكة من الأنفاق في قطاع غزة تحت الأرض لتخزين أسلحتها وإطلاقها منها أيضاً، الأمر الذي قلل بشكل كبير من القدرة الإسرائيلية على اكتشافها وقصفها، وحتى لو اُكتشفت فإن تدميرها يحتاج إلى قنابل ذات قدرة تفجيرية عالية مقارنة بوجودها وتخزينها على سطح الأرض، وهو أمر مُكلف للغاية بالنسبة للعدو، بالإضافة إلى ذلك فإن هناك تراجع نسبي لأداء منظومة القبة الحديدية لاكتشاف المقاومة ثغرات يمكن من خلالها تجاوز هذه القبة، ومن بينها مثلاً عدم فعالية القبة الحديدة بشكل كبير أمام صواريخ كتائب القسام إذا أُطلقت من مسافات قريبة منها، أو عند إطلاق فصائل المقاومة رشقات صاروخية كثيفة ومتتالية كتكتيك يهدف إلى تفادي التصدي لها بشكل شامل، فعلى سبيل المثال إذا حاولت كتائب القسام أو سرايا القدس إطلاق حوالي 300 أو 250 صاروخ بصورة متتالية ومكثفة فإن الأمر سيكون جِدَّ معقد لرصدها والتصدي لها من طرف العدو في ظرف وجيز، وبالتالي فإن احتمال مرور بعضها وارد، لكن ما يُعاب على هذا التكتيك أنه مكلف للطرفين، وأنه قد يستهلك القدرة الصاروخية للمقاومة في وقت وجيز، وبالتالي التأثير على أمد الحرب.
ومن ناحية أخرى فإن تطور صواريخ المقاومة من حيث المدى والنوع –السرعة والقدرة التفجيرية- جعلها تفرض نوعاً من الذعر الرسمي والشعبي في إسرائيل، وأدخلها في حالة تشبه الشلل في عدة قطاعات أبرزها الطيران والطاقة وهجرة السكان من المدن الأخرى إلى تل أبيب، وجعل مناطق مثل تل أبيب وعسقلان وأسدود تعيش في حالة رعب وحصار كبير.
النقطة الأخرة المهمة أنه في حالة استمرار الحرب لفترة أطول فإنه من المحتمل أن تلجأ المقاومة إلى استراتيجية “ردع الضعيف للقوي” Deterring the weak to the strong، بمعنى أن يكون لها عدد متاح من الخيارات المهمة والحيوية لاستهدافها لدى الكيان الصهيوني كمنشآت التصنيع والقواعد العسكرية والمطارات والأبراج، وتعتمد هذه الاستراتيجية على الصواريخ بنوعيها الطويل أو القصير المدى أو باستخدام طائرات دون طيار مفخخة يصعب رصدها، بحيث يتم من خلالها استهداف الخيارات المتاحة لدى المقاومة، ولنجاح هذه الاستراتيجية أيضاً فإنها تعتمد على مدى يقظة العدو.
تعتمد إسرائيل في عدوانها على قطاع غزة على الآلة الجوية بشكل كبير “اسلوب المطرقة” وذلك عبر شن وضرب عدة اهداف استراتيجية للمقاومة الاسلامية بغرض استنزاف قدراتها.
أما عن الجانب الآخر – الطرف الإسرائيلي- فيبدو أنها تعتمد على الآلة الجوية بشكل كبير، وهو ما يسميه المفكر الأمريكي نعوم تشومسكي بــ: “أسلوب المطرقة” Hammer style، وذلك عبر شن وضرب عدة أهداف استراتيجية للمقاومة الإسلامية بغرض استنزاف قدراتها، كما تحاول أيضاً استهداف قيادات الفصائل الفلسطينية – استراتيجية قطع الرأس- ظناً منها بأن القضاء على القائد يعني القضاء والتغلب على المقاومة، وهو نفس الأسلوب الذي كانت تعتمده إدارة أوباما بكثيرة في حربها ضد تنظيم القاعدة وداعش في كل من أفغانستان والعراق وسوريا.
الشيء الآخر المهم هنا هو “حرب البنايات” التي يقوم بها العدو الصهيوني من خلال استهداف أبراج عالية كبرج هنادي بغزة، والهدف منها هنا هو تقديم العقاب الجماعي كسياسة انتقامية منها لا تفرق بين كبير أو صغير ولا تراعي المبادئ الإنسانية في هجماتها، لأنه من المنطقي عند استهداف برج يتواجد فيه عناصر المقاومة، فإن ذلك لا يحتاج لإنذار إسرائيلي من أجل إخراج ساكنيها قبل القصف، بل يتطلب تحقيق عنصر المفاجأة وقصفهم مباشرة، وبالتالي فإن حرب البنايات هدفها هو انتقامي من السكان أولاً.
وتسعى إسرائيل عموماً في هذه الحرب كغيرها من الحروب الأخرى إلى شل القدرة الهجومية للمقاومة من خلال تحديدها لبنك أهداف معينة، لكن كوجهة نظر أعتقد أنه في الحروب السابقة فشلت إسرائيل فشلاً ذريعاً في ذلك، وسيتكرر نفس الأمر في هذه الحرب، لأن القضاء على المقاومة أمر صعب ومعقد جداً ويتطلب تدخلاً ومواجهة بريةً، وهو ما تحاول إسرائيل تجنبه لأن المواجهة البرية وحرب الشوارع والعصابات سترهقها مادياً وبشرياً، وتحتاج إلى أمد ووقت طويل.
وكخلاصة نستطيع القول أنه في قواعد الاشتباك مع العدو والمحتل لا بد من أخد ما أُخذ بالقوة باستخدام القوة وعدة أجنحة أخرى مساندة لها كالعمل السياسي والنشاط الاقتصادي والثقافي، حتى يتم طرد العدو وفرض معادلة القوة التي تأتي من بعدها طاولة الحوار، وهذا ما أثبتته تجارب تاريخية عديدة لحروب التحرير ضد الاستعمار كحرب التحرير الجزائرية ضد المستعمر.