تحديات العلاقة بين المنهج الغربي والمنهج الإسلامي في دراسة الظاهرة الدولية
دحمان عبد الحق
مركز المجدد للدراسات والبحوث
إن الدارس لتخصص العلاقات الدولية في مختلف جوانبها الابستمولوجية والأنطولوجية والمنهجية سيلاحظ بأن تأثير السياقات الغربية سواء كانت مؤسسية أو تاريخية أو نظرية، وبمختلف دينامياتها الحالية يهيمن عليها الغرب حتى أن البعض أصبح يسميها بــ: “علم العلاقات الدولية الأمريكي”[1]، وهو ما فتح نقاش كبير حول مدى جدوى هذه المناهج في تفسير الظاهرة الدولية التي تختلف سياقاتها زماكانياً، لذلك يعتبر العديد من الباحثين في العلاقات الدولية بأنه لا يمكن دراسة كل التدفقات والتفاعلات الإقليمية والدولية من خلال أطر تفسيرية غربية تكون عاجزة في الكثير من الأحيان على إيجاد حلول و تقديم تبريرات قوية كون العالم لا يتعلق فقط بأمريكا أو الدول الأوروبية أو الفلسفة الغربية، فهناك العديد من البيئات والثقافات المختلفة التي لا تنطبق عليها، كما أن هذه الأطروحات الغربية في حد ذاتها لا تقدم في بعض الأحيان تفسيرات جيدة حتى للظاهرة الدولية في بيئتها لوجود عجز في تحقيق التكيف مع دينامية الظاهرة الدولية على أرض الواقع.
ويطرح بعض الباحثين كذلك مشكل آخر يتعلق بممارسة الضغط وتأطير البحث الذي لا يخدم الحرية الفكرية، فمثلاً هناك مؤسسات أكاديمية رائدة عالمياً تمارس ضغوطاً على الباحثين عبر التحكم في التمويل لتقديم أطر فكرية موجهة أو مؤدلجة بما تخدم السياسات خصوصاً إذا تعلق الأمر بالباحثين الذين لا ينتمون إلى بيئة غربية، ولكن يعملون في مراكز فكر وجامعات غربية، كما أن ارتباط القوة بالمعرفة والمنهج في العلاقات الدولية جانب لا يمكن إنكاره، فمن يمتلك القوة يسطر ويهندس سياقات الفكر التي تخدم سياساته، فمثلا باعتبار أن الولايات المتحدة الأمريكية هي الدولة المهيمنة والمسيطرة في العالم منذ الحرب العالمية الأولى فلقد أسست وطورت أطر نظرية تبرر سياساتها في العالم الخارجي، مثل : النظرية الواقعية والمثالية والليبرالية الجديدة، وغير ذلك.
في خضم هذا النقاش يتساءل “مارثن وايت” قبل 4 عقود في مقال له مثير في المجلة الدولية لآسيا والمحيط الهادي حول ” لماذا لا توجد نظرية غير غربية لتفسير الظاهرة الدولية ؟” بعدما طرح بأن هناك العديد من الأفكار والنظريات في هذا المجال تم صاغتها من أجل الغرب وفقاً للطروح الكوكسي –روبرت كوكس- عندما قال بأن النظرية هي دائماً لشخص ولغرض ما، وعموماً فإضافة إلى النقاط السالفة الذكر فإن الانصياغ والتبعية الفكرية للتنظير الغربي يرجع لعدة أسباب متفاعلة أبرزها الآتية:
- مسألة الاعتراف: تحتاج كل نظرية إلى اعتراف المجتمع الأكاديمي من حيث توفر المفاهيم، ومتغيرات النظرية، والافتراضات، وكذلك مدى نجاعتها في تفسير الواقع الدولي للوصول إلى تأويلات وتبريرات مقبولة لدى الأكاديميين والباحثين، وفي حالة توفر هذا الشرط، فقد يساهم ذلك في صناعة براديغم جديد يكون سائد في مرحلة زمنية معينة لتنطلق منه مختلف تحليلات الأكاديميين لتحليل الظاهرة الدولية، ومن بين الأمثلة على ذلك البراديغم الواقعي الذي برز خلال نهاية الحرب العالمية الثانية، ونجح أنصاره في جلب الاعتراف الأكاديمي له نظراً لقوة حججه وتأويلاته في تفسير الكثير من الأحداث الدولية الحاصلة آنذاك لا سيما إذا تعلق الأمر بالحروب والتنافس الحاصل بين الاتحاد السوفياتي، والولايات المتحدة الأمريكية.
- التسويق: مدى قدرة المفكرين على تسويق أفكارهم، ويرتبط ذلك بقيمة المفكر لدى مجتمعه ومكانته، وأيضاً بالتمويل، فإذا كان المفكر ذوا قيمة علمية يحظى بالاحترام، ولديه جهة ممولة تسوق أفكاره بما يخدم النظرية وتوجهات الجهة الممولة سيجعل النظرية تحظى بالاعتراف والقبول، وتنطبق هذه الحالة على بعض المفكرين الأمريكيين الواقعيين، حيث تقوم مجلات علمية مرموقة ومراكز رائدة [2] تمتلك المال بتسويق أفكارهم لدى المجتمع الأكاديمي، وفي وسائل الإعلام مما يجعلها مع مرور الوقت تحظى بالقبول.
- البحث عن سياق ما وراء النظرية: أي ما يمكن تسميته عناصر التفكير المتعلقة بالنظرية، حيث أن توفرها يمثل توفر نقاط انطلاق لها ، ويلبي معايير المجتمع الأكاديمي كالبحث عن إرهاصات النظرية وفلسفتها [3].
وإذا تم الحديث عن المساهمات غير الغربية المخفية، فما من شك بأن هناك الكثير منها الذي انتج من أجل تفسير الظاهرة الدولية ، لكنها مغيبة من الخطاب الغربي نظراً للحواجز اللغوية، والتهميش المقصود، والرغبة في استمرار الهيمنة الغربية بإقصائها من النشر في المجلات المشهورة، والمراكز الرائدة، رغم أن بعضها يتضمن تأويلات رصينة ودقيقة، وينطبق هذا على المنهج الإسلامي[4] الذي يجمع بين التأصيل الشرعي والحضاري والواقعي لتحليل الظاهرة الدولية، فالمنهج الإسلامي ينطلق من مصادر مختلفة هي الأصول (القرآن والسنة)، والفقه وتاريخ العهد النبوي والخلافة الرشيدة، وكذلك المداخل المنهجية لدراسة التاريخ فكراً وممارسةً باعتبارها مصادر مكملة للمصادر التتأسيسية ، فهي مصادر اختبارية وبنائية، والجمع بينهما يقدم توجها أكثر اتساعاً باستطاعته تفسير الظواهر السياسية وتأويلها وفقاً للمقاربة الإسلامية في العالم الإسلامي، كما أن الفكر والتاريخ الإسلامي فيه الكثير من الضوابط والقواعد التي من شأنها أن تمثل قاعدة تأصيلية نظرية لتقديم أفكار حول السلم والحرب وتفسيرهما، فضلاً عن قواعد التعامل مع الشعوب الأخرى في إطار دار السلم والحرب والعهد.
ويبقى التحدي الأساسي للمنهج الإسلامي هو تصادمه مع المنهج الغربي، فهذا الأخير لا يراه مقاربة تفسيرية يمكن الاعتماد عليها لتفسير الواقع والبيئة الإسلامية، وإنما يراها تحدي يتجاوز البعد التاريخي والحضاري إلى ثنايا ومضامين أخرى، لذلك فتهميشه يرجع بالدرجة الأولى إلى الرغبة المقصودة في إقصاءه، وإلى طبيعة الظروف التي يعيشها العالم العربي والإسلامي لتأسيس وإبراز منهج ونظرية إسلامية يمكن لها تفسير الواقع الدولي دون التركيز فقط على ثنايا البعد الحضاري، بالرغم من أن هناك بعض المحاولات المحتشمة بهذا الجانب في كل مصر وتركيا والمملكة العربية السعودية وإيران، إلا أنها تحتاج إلى تمويل وتسويق حتى يكون لها صدى واعتراف من المجتمع الأكاديمي في البيئة الإسلامية والغربية[5].
خاتمة
إن اختلاف البيئات في النظام العالمي يفرض المزج بين النظريات الكلية والجزئية ، وبعض النظريات التي تراعي خصوصيات الاقاليم وتنوعها، فلا يمكن فقط الاعتماد على المناهج والفلسفة الغربية لدراسة أي ظاهرة موجودة في النظام العالمي، وهذا ما يسعى إليه المنهج الإسلامي الذي يحاول تقديم مفاهيم وافتراضات وفلسفة تتوافق مع طبيعة المجتمعات المسلمة التي تنتمي إلى حضارته باعتباره يرتبط بالمكونات الأساسية للمجتمع خصوصاً إذا تحدثنا عن المصادر التأسيسية والنيابية، ولذلك وجب على المسلمين عدم الانصياغ فقط وراء التصورات والفلسفة الغربية، وإنما يجب الرجوع إلى المنظور الحضاري والإسلامي وتاريخه للاستفادة منه في معالجة وفهم مسائل الحرب والسلم، كما أن هذا لا يعني إقصاء النظريات الغربية، بل يجب الاستفادة من بعض أفكارها التي قد تثري مجال العلاقات الدولية من حيث القيمة التفسيرية والمنهجية.
قائمة المراجع
- باري بوزان، أميتاف أشاريا، لماذا لا توجد نظريات غير غربية للعلاقات الدولية، ترجمة عبد الحق دحمان، مركز المجدد للبحوث والدراسات، 2022، ص 10-16.
- نادية مصطفى، العلاقات الدولية في الإسلام: نحو تأصيل من منظور فقه حضاري، مركز الحضارة للدراسات والبحوث، انظر الرابط الالكتروني الآتي:
https://2u.pw/YYaX0Mp. 12-07-2023.
[1] منذ تأسيس أول مقعد للعلاقات الدولية في أبرستويث بويلز بعد الحرب العالمية الأولى صبغ على هذا العلم الرؤية والتصورات الغربية خصوصاً الأمريكية، ورغم ذلك فإن هناك عدة محاولات للخروج من الهيمنة الأمريكية الفكرية في هذا الجانب في عدة دول في العالم، ففي أوروبا ظهرت مدارس عديدة تفسر دينامية الظاهرة الدولية بعد الحرب الباردة بعد أن فشلت الوضعية في التننبؤ بنهاية الحرب الباردة، وهي حدث جد مهم، ومفصلي أحدث عدة تغيرات هيكلية وقيمية في الواقع الدولي، ومن بينها مدرسة فرانكفورت الجديدة أو ما يعرف بالنقدية الجديدة، وما بعد الحداثة، ونظرية الجندر، وما إذا تحدثنا عن العالم الشرقي، فهناك التيار الماركسي بتفرعاته المختلفة، الذي يتميز نوعاً ما بالإطار الأستيتيكي في التحليل، وهو تيار يحتاج إلى إعادة النظر، وتجديد أفكاره بما يتوافق مع دينامية الظاهرة الدولية، فلا يمكن تفسير كل الظواهر انطلاقاً من البعد الاقتصادي ومتغير الطبقية .
[2] من بين الأمثلة على ذلك مركز RAND الأمريكية التي تحظى بدعم حكومي وعسكري كبير من أجل القيام بدراسات وتحسين عملية البحث والتحليل، وتبرير السياسات الخارجية الأمريكية عبر اللجوء إلى مفكرين بارزين لتسويق أفكارهم بما يخدم التوجهات الأمريكية في العالم أمثال جوزيف ناي وستيفن سميث، وغيرهم.
[3] باري بوزان، أميتاف أشاريا، لماذا لا توجد نظريات غير غربية للعلاقات الدولية، ترجمة عبد الحق دحمان، مركز المجدد للبحوث والدراسات، 2022، ص 10-16.
[4] هناك من يرى بأن مشروع العلاقات الدولية في الإسلام يمكن دمجه في حقل الدرسات الحضارية الدولية، وهو حقل تساهم فيه فروع معرفية عديدة إلى جانب فروع علم السياسة، ولكن من منظور إسلامي حضاري، ومن أنصار هذا الطرح نجد الدكتورة نادية مصطفى، وهي أحد أبرز الباحثين الذين تحدثوا عن العلاقات الدولية من منظور إسلامي.
[5]نادية مصطفى، العلاقات الدولية في الإسلام: نحو تأصيل من منظور فقه حضاري، مركز الحضارة للدراسات والبحوث، انظر الرابط الالكتروني الآتي:
https://2u.pw/YYaX0Mp. 12-07-2023.
Hi! Do you know if they make any plugins to safeguard against hackers? I’m kinda paranoid about losing everything I’ve worked hard on. Any recommendations?
I went over this website and I think you have a lot of wonderful info , saved to favorites (:.
This blog is definitely rather handy since I’m at the moment creating an internet floral website – although I am only starting out therefore it’s really fairly small, nothing like this site. Can link to a few of the posts here as they are quite. Thanks much. Zoey Olsen
Great post. I was checking continuously this blog and I am impressed! Very useful info particularly the last part 🙂 I care for such information a lot. I was seeking this certain information for a very long time. Thank you and good luck.
This is really interesting, You’re a very skilled blogger. I’ve joined your feed and look forward to seeking more of your fantastic post. Also, I’ve shared your website in my social networks!
Rattling nice design and excellent subject material, nothing else we want : D.