تاريخ الاندماج والتعايش عند المسلمين
في العهد النبوي والخلفاء الراشدين والأندلس (الجزء الأول)
فائز شبيل
الوحدة الشرعية-مركز المجدد
أولا: صور من التعايش في الزمن النبوي: 6
الصورة الأولى: إنصاف اليهودي في منع المفاضلة بين الأنبياء لتماسك المجتمع: 6
الصورة الثانية: الحكم بالعدل لليهودي في قضاء الدين عند الأجل: 7
ثانيا: صور من التعايش في زمن الخلفاء الراشدين: 9
الصورة الأولى: إسقاط الجزية عن العاجز غير القادر على التكسب في زمن الصديق: 9
الصورة الثانية: العهدة العمرية لأهل القدس: 11
ثالثا: صور من التعايش في زمن الأمويين (الأندلس): 14
الصورة الأولى: الاستقلالية لأهل الأديان في الأندلس: 15
الصورة الثانية: الآثار الاجتماعية في الأندلس بعد دخول المسلمين: 15
المقدمة:
إن الإسلام جاء في بداياته داعيا الناس إلى قبول الحق وترك الباطل وأهله، ودعا الإسلام في بداية دعوته قبيلة قريش إلى قبول ما جاء به من علوم وقضايا، وكان الرسول صلى الله عليه وسلم ينادي قريشا بأن خلو بيني وبين الناس حتى يصلهم الحق ووحي الله، ولكن ما كان من قريش إلا أن منعت تلك الدعوات لما فيه من معارضة مصالحها الدنيوية وجاهها وسلطانها ومكانتها بين القبائل، وكل تلك التصورات كانت خاطئة، ثم اتجه المسلمون بعد ذلك إلى الهجرة والسياحة في الأرض والهرب بالدين والنفس والمال، وكانت الهجرة هي الانطلاقة المثلى ليتعايش المسلمون مع غيرهم في أصقاع الأرض.
ففي هذه الورقة البحثية بيان صور الاندماج عند المسلمين عبر التاريخ وتكيفهم مع المجتمعات التي هاجروا إليها من نقطة الانطلاق في جزيرة العرب حتى وصولهم شرقا وغربا شمالا وجنوبا، وما ذلك إلا لأن الإسلام دين السلام والتعايش، والهدف منه هو وصول المبادئ الإسلامية إلى المجتمعات كافة بشتى الوسائل، وأما الجهاد فهو وسيلة أخيرة يلجأ إليها المسلمون إن تعذر عليهم الوصول إلى الناس، وليس الغرض في الإسلام سفك دم ولا أكل مال ولا احتلال أرض، وبالمقارنة بين الفتوحات الإسلامية والحروب الصليبية وغيرها من الحروب القديمة والحديثة يظهر للمنصف تأثير الإسلام إيجابا على الناس في شتى المجلات وبقاؤه في تلك المناطق إلى يومنا هذا، بخلاف دول الاحتلال التي تركت الأوجاع والآلام في ديار أهلها، وسرقت المال والثروات منها، وخلفت وراءها الحقد والكراهية والشقاق والدمار.
فالتعايش عبر التاريخ عند المسلمين هو موضوع شاسع ومتعدد الأبعاد وله الصور الكثيرة الظاهرة والتي يشهد بها أهل الديانات الأخرى على الإسلام والمسلمين، فهناك العديد من الأمثلة على التعايش السلمي والتعايش الإيجابي بين المسلمين والمجتمعات الأخرى في مختلف الفترات التاريخية.
ففي فترة النبوة أولاً ثم في زمن الخلافة الراشدة (632-661 م)، كان التعايش السلمي بين المسلمين وغير المسلمين متميزًا بشكل خاص. ففي ذلك الوقت، وبمجرد انتصار الإسلام في الجزيرة العربية استطاع النبي صلى الله عليه وسلم إقامة العلاقات المتينة مع كل المخالفين له في العقائد والأديان واستطاع أن يتعايش مع كل المجتمعات وعقد التحالفات مع الكثير من المشركين ومع الكثير من أهل الأديان، بل وأرسل الصحابة في بداية الأمر إلى الحبشة البلد الذي كان يقطنه النصارى، وإنما أرسلهم إليها لما علم من أن فيها رجلا وإماما عادلا لا يظلم عنده أحد، أرسلهم مع علمه صلى الله عليه وسلم بأنه يخالفهم في الدين ويخالفهم في العرق والعادات وغيرها، ولكنهم يعلم أن دين الإسلام ومبادءه تدعو للاندماج والتعايش وأن كل من يسمع دعوات الإسلام يذعن ويسلم له ذلك التوازن، ولكن ما كان من النجاشي إلا أن يُسلم ويكون من الصالحين ويصلى عليه النبي صلى الله عليه وسلم في المدينة ويدعو له، ثم بعد النبي صلى الله عليه وسلم قام الخلفاء الراشدون بإبرام معاهدات مع الدول والممالك الأخرى، وضمنت هذه المعاهدات حماية المواطنين المسلمين وغير المسلمين على حد سواء، وكانوا يتمتعون بحرية العقيدة، وعند ذكر الصور سيتبين كل ذلك ويظهر هذا المبدأ العظيم في الإسلام. ثم جاء الخلفاء المسلمون بعد ذلك سواء في ذلك الدولة الأموية أو العباسية ومن بعدهم، وقد أجمع العلماء على الحفاظ على حقوق أولئك المستأمنين والمعاهدين من أهل الكتاب وغيرهم ممن دخلوا وعاشوا في البلاد الإسلامية، أو من عقدت الدولة الإسلامية معهم المواثيق والعهود من الدول الأخرى ورعاياها، فقد قال السرخسي فيهم: “أموالهم صارت مضمونة بحكم الأمان فلا يمكن أخذها بحكم الإباحة وأن ماله الذي اكتسبه في دار الإسلام يبقى على ملكه، ولا تزول عنه ملكيته ولو عاد إلى دار الحرب، وقال أيضاً: “يجب على إمام المسلمين أن ينصر المستأمنين ما داموا في دارنا، وأن ينصفهم ممن يظلمهم، كما يجب عليه ذلك في حق أهل الذمة، لأنهم تحت ولايتنا”([1])، وقال الموصلي: “لا يجوز لأحد التعرض له – أي للمستأمن- بقتل، ولا أخذ مال كما لو أمنه الإمام”([2])، وقال العدوي المالكي: “واعلم أن ثمرة الأمان العائدة على المؤمن حرمة قتله واسترقاقه وعدم ضرب الجزية عليه”([3]).
وبناء على ما سبق من هذه الإطلالة السريعة يمكن أن تكون هذه الورقة مقسمة على ثالثة محاور تبين صور التعايش وهي:
- صور من التعايش في الزمن النبوي.
- صور من التعايش في زمن الخلفاء الراشدين.
- صور من التعايش في زمن الأمويين.
أولا: صور من التعايش في الزمن النبوي:
يعد التعايش في التاريخ الإسلامي من القضايا الهامة التي اهتم بها المسلمون على مر العصور. فقد كانت الحضارة الإسلامية تتسم بالتسامح والتعايش بين مختلف الأديان والثقافات. وقد قام المسلمون ببناء حضارة تعتمد على التعايش والتسامح، حيث كان النبي صلى الله عليه وسلم أول من حمى حقوق الجميع دون تمييز بين قبيلة وقبيلة أو عربي وأعجمي أو أبيض وأسود، أو مسلم وغير مسلم، بل قال فيمن قتل رجلاً من أهل الكتاب المعاهدين: «من قتل معاهدا لم يرح رائحة الجنة، وإن ريحها توجد من مسيرة أربعين عاما»([4])، المقصود بالمعاهد هنا كل من له عهد مع المسلمين، وهو من له عهد مع المسلمين سواء كان بعقد جزية أو هدنة من سلطان أو أمان من مسلم»([5])، وهذا التشديد فائدته حتى لا يظن ظان أن دماء غير المسلمين مهدورة ومباحة، فقد يُحرم من الجنة من يعتدي على أصحاب العهد من غير المسلمين، ولذا قال العلماء: «الكافر الذمي الذي له عهد بيننا وبينه أو صلح أو دخل إلى البلاد بذمة أو عهد وما أشبه ذلك فهؤلاء لا يجوز قتلهم ولا أخذ أموالهم، بل إن ذلك فيه الوعيد الشديد»([6]).
فمن هنا كان النبي صلى الله عليه وسلم حريصا كل الحرص على تأكيد التساوي بين رعايا الدولة الإسلامية، وكان حريصا على إقامة العدل والإنصاف وحماية الدولة من الشقاق والانهيار والعنصرية وغيرها، ومما يؤكد هذا المبدأ ما يلي:
الصورة الأولى: إنصاف اليهودي في منع المفاضلة بين الأنبياء لتماسك المجتمع:
حدث أن اختلف يهودي ورجل من الأنصار وحصل بينهما تساب وخلاف شديد، فقال المسلم: والذي اصطفى محمدا على العالمين، فقال اليهودي: والذي اصطفى موسى على العالمين. قال: فغضب المسلم عند ذلك فلطم وجه اليهودي، فذهب اليهودي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخبره بما كان من أمره وأمر المسلم، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لا تخيروني على موسى، فإن الناس يصعقون يوم القيامة فأكون في أول من يفيق، فإذا موسى باطش بجانب العرش، فلا أدري أكان موسى فيمن صعق فأفاق قبلي أو كان ممن استثنى الله»، وفي بعض الروايات أن النبي صلى الله عليه وسلم غضب غضبا شديدا([7]).
قال ابن الملك: «وإنما نهى عليه الصلاة والسلام عن تفضيله عليه من تلقاء أنفسهم؛ تواضعا منه – صلى الله عليه وسلم -، وزجرا للأمة عن تفضيل بعض الأنبياء على بعض من عند أنفسهم؛ لأداء ذلك إلى العصبية وإلى الإفراط في محبة نبي، والتفريط في محبة آخر، أو الإزراء به، وهو كفر»([8]).
إن الذي يسمع هذا الحديث يظهر له كيف كانت اليهود تعلم أن النبي صلى الله عليه وسلم سيعدل لهم في الحكم، فمجرد ما اعتُدي عليه هرع إلى النبي صلى الله عليه وسلم ليشكو له ويأخذ منه حقه.
وأيضا يظهر أن الاعتداء على أصحاب الديانات الأخرى في المدينة كان أمرا غير مقبول وأمرا يغضب النبي صلى الله عليه وسلم.
ويؤخذ من الحديث أن كل فعل أو قول يسبب تعصبا أو تمييزا عنصريا بين المجتمع الواحد من المسلمين وغيرهم فإنه يمنع، لما في ذلك من تأليف القلوب وتخفيف الخلاف ونشر المحبة بين الناس. ويراعى هذا المبدأ النبوي في كل البلدان الإسلامية التي فيها أديان أو فيها مذاهب فقهية فكل ما يسبب فتنة أو فرقة أو نزاعاً فإنه يمنع ويغلق بابه.
الصورة الثانية: الحكم بالعدل لليهودي في قضاء الدين عند الأجل:
عن ابن أبي حدرد الأسلمي، أنه قال: كان ليهودي عليه أربعة دراهم، فاستعدى عليه، فقال: يا محمد، إن لي على هذا أربعة دراهم، وقد غلبني عليها، فقال: ” أعطه حقه “، قال: والذي بعثك بالحق ما أقدر عليها! قال: ” أعطه حقه “، قال: والذي نفسي بيده ما أقدر عليها، قد أخبرته أنك تبعثنا إلى خيبر، فأرجوا أن تغنمنا شيئا فأرجع فأقضيه، قال: ” فأعطه حقه “، قال: وكان النبي صلى الله عليه وسلم إذا قال ثلاثا لا يراجع، فخرج به ابن أبي حدرد إلى السوق وعلى رأسه عصابة، وهو متزر ببردة، فنزع العمامة من رأسه فاتزر بها، ونزع البردة، فقال: اشتر مني هذه البردة، فباعها منه بأربعة دراهم، فمرت عجوز، فقالت: مالك يا صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخبرها، فقالت: هادونك هذا، لبرد عليها، فطرحته عليه”([9]).
وهذا في الواقع موقف رائع حقًّا من رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ فهو لا يُحابي أحدًا -مهما كان- على حساب الحقِّ، والحقُّ هنا ليهودي، ويأبى الرسول صلى الله عليه وسلم كلَّ ما ذكره الصحابي من أسبابٍ لعدم السداد؛ هي في حقيقة الأمر واقعية وصادقة، لكن لا بُدَّ من وصول الحقِّ إلى صاحبه، مهما كلَّف هذا الأمر مَنْ عليه الحقُّ، ولم يتعدَّ الرسول صلى الله عليه وسلم كلمتين اثنين فيهما الأمر بالسداد: «أَعْطِهِ حَقَّهُ». وكرَّر ذلك ثلاث مرات؛ ليقطع الجدال في الأمر، ولم يكن أمام الصحابي الفقير الذي لا يجد ما يسدُّ دَيْنَهُ إلاَّ أن اضطُرَّ إلى بيع بعض ما يلبسه، فباع بُردته التي يرتديها سدادًا للدين، وردًّا للحقِّ إلى صاحبه اليهودي([10]).
وجود العدل وعدم التمييز بين الناس مهما كانت ديانتهم أو كانوا مختلفين في المذهب يجعل البلد بلد تعايش وسلام، ويحقق الغاية المنشودة من الأمن والأمان والسكنية والطمأنينة وهو بدوره يتسبب في ازدهار واتساع التجارات وعمارة الأرض وغيرها من الفوائد العظيمة، ومن خلال هاتين الصورتين يظهر أهمية تحقيق مبدأ التعايش في العصر الأول من عصور الإسلام وهو عصر النبوة الأول. ونكتفي بهذه الصور فإن الغرض سوق بعض النماذج التي تظهر أهمية التعايش والاندماج بين أهل الأديان في الإسلام على مر العصور في التاريخ.
ثانيا: صور من التعايش في زمن الخلفاء الراشدين:
تميزت الخلافة الراشدة بعد النبي صلى الله عليه وسلم بعدة مزايا وسمات جعلت منها معلماً ونبراساً يقاس عليه، ونموذجا مثالياً عالي المستوى يصعب تطبيقه في الأزمان التالية له، وما ذلك إلا لأن من أهم أركان الدول المجتمع الذي فيها، فمتى كان المجتمع مثالياً متميزا كانت الدولة متميزة ومثالية ولذلك وصفها النبي صلى الله عليه وسلم بالراشدة، الراشدة التي تقيم العدل وتبث السلام وتنشر القسط بين الناس، فلا يظلم فيها أحد.
وفي هذه القسم نستعرض بعضا من الصور التي تؤكد مبدأ التعايش والاندماج مع أهل الأديان الأخرى في ظل الخلافة الراشدة:
الصورة الأولى: إسقاط الجزية عن العاجز غير القادر على التكسب في زمن الصديق:
في زمن الصديق انتشرت الفتوحات قبل الشام والعراق وكانت البشائر تتوالى، وكان النصارى منتشرين بكثرة في تلك البقاع، فما كان من خالد إلا أن يمثل توجيه أبي بكر الصديق في مراعاة حقوق أهل الأديان وأعطائهم حقوقهم والالتزام بها، فالتزم ذلك خالد بن الوليد وأبرم اتفاقيهم مع النصارى، وكان من تلك المعاهدات معاهدة نصارى أهل الحيرة وكان فيها اتفاق واضح في الحقوق والواجبات والالتزام بالعهود والمواثيق كتب فيها خالد بن الوليد فقال: الخراج لأبي يوسف (ص157):
«بسم الله الرحمن الرحيم. هذا كتاب من خالد بن الوليد لأهل الحيرة، أن خليفة رسول الله صلى الله عليه وسلم أبا بكر الصديق رضي الله تعالى عنه أمرني أن أسير بعد منصرفي من أهل اليمامة إلى أهل العراق من العرب والعجم بأن أدعوهم إلى الله جل ثناؤه، وإلى رسوله عليه الصلاة والسلام وأبشرهم بالجنة وأنذرهم من النار؛ فإن أجابوا فلهم ما للمسلمين وعليهم ما على المسلمين، وإني انتهيت إلى الحيرة فخرج إلي إياس بن قبيصة الطائي في أناس من أهل الحيرة من رؤسائهم، وإني دعوتهم إلى الله وإلى رسوله فأبوا أن يجيبوا فعرضت عليهم الجزية أو الحرب فقالوا: لا حاجة لنا بحربك؛ ولكن صالحنا على ما صالحت عليه غيرنا من أهل الكتاب في إعطاء الجزية، وإني نظرت في عدتهم فوجدت عدتهم سبعة آلاف رجل، ثم ميزتهم فوجدت من كانت به زمانة ألف رجل فأخرجتهم من العدة؛ فصار من وقعت عليه الجزية ستة آلاف؛ فصالحوني على ستين ألفا، وشرطت عليهم أن عليهم عهد الله وميثاقه الذي أخذ على أهل التوراة والإنجيل: أن لا يخالفوا ولا يعينوا كافرا على مسلم من العرب ولا من العجم، ولا يدلوهم على عورات المسلمين، عليهم بذلك عهد الله وميثاقه الذي أخذه أشد ما أخذه على نبي من عهد أو ميثاق أو ذمة؛ فإن هم خالفوا فلا ذمة لهم ولا أمان، وإن هم حفظوا ذلك ورعوه وأدوه إلى المسلمين؛ فلهم ما للمعاهد وعلينا المنع لهم؛ فإن فتح الله علينا فهم على ذمته من؛ فلهم بذلك عهد الله أشد ما أخذ على نبي من عهد أو ميثاق، وعليهم مثل ذلك لا يخالفوا؛ فإن غلبوا فهم في سعة يسعهم ما وسع أهل الذمة. ولا يحل فيما أمروا به أن يخالفوا وجعلت لهم أيما شيخ ضعف عن العمل أو أصابته آفة من الآفات أو كان غنيا فافتقر وصار أهل دينه يتصدقون عليه طرحت جزيته وعيل من بيت مال المسلمين»([11]).
يبرز في هذه العهدة من سيف الله عدة قضايا عظيمة وهي:
- عرض الإسلام على أهل الكتب السابقة.
- عدم الإكراه على الإسلام.
- حرية الاعتقاد والعبادة.
- الأمان والحماية داخليا وخارجيا ما داموا ملتزمين بالعهود.
- التأكيد على الالتزام بالمواثيق المتفق عليها.
- مراعاة حالهم عند العجز عن الالتزام لأسباب خارجة عن إرادتهم.
- إسقاط الالتزامات المالية التي تجب عليهم للدولة في حال شاخ الشخص أو عجز لمرض أو نحوه.
- كفالة العاجز والمريض من أهل الأديان من بيت مال المسلمين.
فهذه الوثيقة من الحري بنا أن ننشرها ونبين للمسلمين أولا ثم غيرهم بأن الإسلام من بداياته لم يقصد الحرب بل دعا للاندماج والتعايش وتقبل الآراء والمعتقدات ويمنع الخيانة يدعو للتماسك المجتمعي عبر العصور.
الصورة الثانية: العهدة العمرية لأهل القدس:
كان عمر بن الخطاب صاحب المدة الزمنية الأكبر في الحكم والأكثر استقرارا وتمكناً، وكان انتشار الإسلام في زمنه على عدة محاور مهمة، منها فتح بيت المقدس التي بشر النبي صلى الله عليه وسلم بفتحها بعد موته، فكانت في زمن عمر بن الخطاب رضي الله عنه.
وكان عمر بن الخطاب متبعا لنهج النبي صلى الله عليه وسلم في التعايش والإنصاف مع أهل الأديان، ولذا من مقولاته العظيمة: “أوصيكم بذمة الله وذمة رسوله صلى الله عليه وسلم أن يوفى لهم عهدهم، وأن يقاتل من ورائهم، وأن لا يكلفوا إلا طاقتهم.
وعندما صارت بيت المقدس تحت ظل الحكم الإسلامي أصدر عمر بن الخطاب مرسوماً عظيماً اشتهر باسم “العهدة العمرية”، وكان فيها من الأصول والقواعد العظيمة التي تظهر حق العيش والكرامة والأمان والاستقرار، وأن الإسلام دين رحمة ودعوة إلى الحق.
وكان نص العهدة العمرية ما يلي: «بسم الله الرحمن الرحيم هذا ما أعطى عبد الله عمر أمير المؤمنين أهل إيلياء من الأمان، أعطاهم أمانا لأنفسهم وأموالهم، ولكنائسهم وصلبانهم، وسقيمها وبريئها وسائر ملتها، أنه لا تسكن كنائسهم ولا تهدم، ولا ينتقص منها ولا من حيزها، ولا من صليبهم، ولا من شيء من أموالهم، ولا يكرهون على دينهم، ولا يضار أحد منهم، ولا يسكن بإيلياء معهم أحد من اليهود، وعلى أهل إيلياء أن يعطوا الجزية كما يعطي أهل المدائن، وعليهم أن يخرجوا منها الروم واللصوت، فمن خرج منهم فإنه آمن على نفسه وماله حتى يبلغوا مأمنهم، ومن أقام منهم فهو آمن، وعليه مثل ما على أهل إيلياء من الجزية، ومن أحب من أهل إيلياء أن يسير بنفسه وماله مع الروم ويخلي بيعهم وصلبهم فإنهم آمنون على أنفسهم وعلى بيعهم وصلبهم، حتى يبلغوا مأمنهم، ومن كان بها من أهل الأرض قبل مقتل فلان، فمن شاء منهم قعدوا عليه مثل ما على أهل إيلياء من الجزية، ومن شاء سار مع الروم، ومن شاء رجع إلى أهله فإنه لا يؤخذ منهم شيء حتى يحصد حصادهم، وعلى ما في هذا الكتاب عهد الله وذمة رسوله وذمة الخلفاء وذمة المؤمنين إذا أعطوا الذي عليهم من الجزية شهد على ذلك خالد بن الوليد، وعمرو بن العاص، وعبد الرحمن بن عوف، ومعاوية بن أبي سفيان وكتب وحضر سنة خمس عشرة»([12]).
وهؤلاء يعتبرون من أهل الذمة حيث إنهم صاروا من ساكني الدولة الإسلامية، مقيمين فيها لا يريدون أن يتركوا أرضهم وأموالهم، ولهم عهد وعقد وميثاق، وعقد الذمة عقد مؤبد يتضمن إقرار غير المسلمين على دينهم، وتمتعهم بحماية الجماعة الإسلامية ورعايتها بشرط بذلهم الجزية، والتزامهم أحكام القانون الإسلامي في غير الشئون الدينية، وبهذا يصيرون من أهل دار الإسلام، فهذا العقد ينشئ حقوقا متبادلة لكل من الطرفين المسلمين وأهل ذمتهم بإزاء ما عليه من واجبات.
فمن خلال عهدة عمر يظهر الرُشد في التعامل معهم في ظل الخلافة الراشدة، ففي هذه الوثيقة عدة أمور:
- الأمان الشخصي على المال والنفس والأهل والمسكن.
- الأمان الديني على دور العبادات.
- حرية التنقل والسفر أو البقاء والاستقرار.
- حرية العبادة.
- منع إذائهم أو التعرض عليهم.
- حرية التجارة والتعليم وغيرها.
ثالثا: صور من التعايش في زمن الأمويين (الأندلس):
من أفضل الحقب التي مرت على الدولة الأموية في التعايش والاندماج بين الأديان حقبة الأندلس في ذروتها وازدهارها وما تعرف بربيع الأندلس وأساسها قرطبة الجميلة والعظيمة، ففي الأندلس الإسلامية، كان التعايش بين الأديان يتميز بالتسامح والتعايش السلمي بين الجميع. كان اليهود والمسيحيون واليهود والرومان والأمازيغ وغيرهم يعيشون بجوار المسلمين في بيئة متعايشة وسلمية، وكانوا يتمتعون بالحرية في ممارسة شعائرهم الدينية وممارسة حرفهم وتجارتهم. وكانت هناك المدارس والجامعات التي كانت تضم طلابًا من مختلف الأديان والأعراق والشعوب([13]).
كانت الأندلس مركزًا للحضارة الإسلامية، حيث عاش اليهود والمسيحيون بجوار المسلمين في بيئة سلمية ومتعايشة. وقد استفاد المسلمون من مساهمات الأقليات الدينية في العلوم والفلسفة والأدب.
يمكن للنموذج الأندلسي حاليًا أن يلعب عدة أدوار، منها: إعداد إطار نظري وعملي للحوار وقواعد التعايش ، لأنه على المدى القصير يتجلى في جو التسامح والتعايش السلمي الذي يميز التجربة الأندلسية السياسية والاجتماعية. البشر والحضارات التي لم تفقد أصالتها وطاقاتها الرمزية والعملية لأنها تمثل دافعًا جديدًا لغرس دروس الماضي في واقعنا المعاصر وكذلك في المستقبل المنظور.
يفرض الوضع الفريد للبلد الأندلسي، بسبب طبيعته ، طرقًا مختلفة للتعايش والتعامل مع أهل الذمة اليهود والمسيحيين. هذه العوامل ، بالإضافة إلى التهديد المستمر للجيوش المسيحية والوضع الخلافي على المستوى السياسي ، ساهمت في تشكيل الإطار المألوف للنهضة اليهودية. والسبب في ذلك أنه بسبب انشغال الدولة بالتهديد المسيحي على الشمال ، سرعان ما تحولت الاسترضاء الداخلي إلى تسامح مبالغ فيه مع الجميع خاصة لليهود.
والأمثلة التي تدل على أن ولاة الأندلس، وملوك بني أمية، قد أحسنوا إلى النصارى، ومتعوهم بحقوقهم، ولم يسيئوا إليهم، كثيرة معلومة، وقد تحدثت عنها، وعن مظاهر التطور الحضاري الكبير والرائع، الذي عرفته الأندلس في ظل الحكم الإسلامي لها، كتب التاريخ باستفاضة، وأشاد بكل ذلك أيضا، المؤرخون الأوربيون، أنفسهم.
الصورة الأولى: الاستقلالية لأهل الأديان في الأندلس:
يقول المستشرق سيمونيت، بالرغم من كونه من أشد العلماء الإسبان تحاملا: “إنه فيما يتعلق بالقوانين المدنية والسياسية، فإن النصارى الإسبان احتفظوا في ظل حكم الإسلامي بنوع من الحكومة الخاصة، واحتفظ الناس بأحوالهم القديمة دون تغيير كبير؛ وفيما يتعلق بالتشريع، فإنهم قد احتفظوا في باب النظم الكهنوتية بقوانين الكنيسة الإسبانية القديمة، واحتفظوا في الناحية المدنية بالقوانين القوطية أو قانون التقاضي ” Fuero Juzgo “، يخضعون لها في كل ما له علاقة بحكومتهم. وهي حكومة بلدية محلية، وما لم يكن يتعارض مع القوانين والسياسة الإسلامية”([14]).
من خلال هذا النص الذي يظهر السماحة الإسلامية تجاه النصارى، وأهم ما يبين أن الإسلام دين تعايش واندماج ولا إكراه فيه.
الصورة الثانية: الآثار الاجتماعية في الأندلس بعد دخول المسلمين:
استطاع المسلمون عند دخولهم الأندلس إزالة الطبقية، وإزالة العنصرية والتمييز، وإقامة العدل في الثروات وتحرير العبودية وغير ذلك من المزايا ومن شاهدة المؤرخين شهادة الأستاذ دوزي عن آثار الفتح الاجتماعية: “كان الفتح العربي من بعض الوجوه نعمة لإسبانيا. فقد أحدث فيها ثورة اجتماعية هامة، وقضى على كثير من الأدواء التي كانت تعانيها البلاد منذ قرون .. وحطمت سلطة الأشراف والطبقات الممتازة أو كادت تمحى، ووزعت الأراضي توزيعا كبيرا، فكان ذلك حسنة سابغة، وعاملا في ازدهار الزراعة إبان الحكم العربي. ثم كان الفتح عاملا في تحسين أحوال الطبقات المستعبدة إذ كان الإسلام أكثر تعضيدا لتحرير الرقيق من النصرانية، كما فهمها أحبار المملكة القوطية. وكذا حسنت أحوال أرقاء الضياع، إذ غدوا من الزراع تقريبا، وتمتعوا بشيء من الاستقلال والحرية “([15]).
«فإذا ذكرنا أن هذا التسامح الذي أبداه الإسلام نحو الأمم المغلوبة، وهذا الاحترام لضمائر الناس وعقائدهم، وهذه الحرية التي تركها لهم في إقامة شعائرهم، إنما جاءت بعد عصور طويلة من الاضطهاد الديني، اتخذت فيها مطاردة الضمائر والعقائد أشنع الأساليب والصور، استطعنا أن نقدر ما كان لذلك الانقلاب من أثر عميق في نفسية الشعوب المغلوبة وعواطفها، وما كانت تحبو به حكم الإسلام من التأييد والرضى.
ويبدي كثير من العلماء الإسبان أنفسهم مثل هذا التقدير، والإشادة باعتدال السياسية الإسلامية وآثار مسلكها المستنير. ذلك أن العرب تركوا الشعب المغلوب دون مضايقة، يحيا حياته الخاصة في نظمه وتقاليده»([16]).
المراجع والمصادر:
([1]) المبسوط 10/119، وشرح السير الكبير 4/108،109.
([4]) صحيح البخاري (4/ 99 ط السلطانية)، برقم: (3166).
([5]) فتح الباري لابن حجر (12/ 259).
([6]) شرح كتاب الإيمان لأبي عبيد – الراجحي (14/ 7).
([7]) صحيح البخاري (8/ 108 ط السلطانية)، برقم: (6517).
([8]) شرح المصابيح لابن الملك (6/ 160).
([9]) مسند أحمد (24/ 241 ط الرسالة)، برقم: «15489»
([10]) من موقع قصة الإسلام، مقال عدل الرسول مع اليهود، على الرابط: https://cutt.us/Gv6Iq
([11]) الخراج لأبي يوسف (ص158).
([12]) تاريخ الطبري = تاريخ الرسل والملوك، وصلة تاريخ الطبري (3/ 609).
([13]) كانت الأندلس، حين فتحها المُسلمون، عامِرة بالسكّان الذين ينتمي أغلبهم إلى الدّيانة الـمسيحيّة. وكان بعضهم من العناصر الإيبيريّة (Iberos) التي هاجرتْ إليها من قديم الزَّمان من الـمغرب، فيما كان بعضها الآخر ينتمي إلى العناصر الكلتيّة (Celtos). وإلى جانب المسيحيّين اشتملت الأندلس على اليهود والقوط والرُّومان، فضلاً عن العناصر العربيّة الـمُصاحبة للفتح الإسلامي والبربر/ الأمازيغ، الذين سرعان ما اختلطوا بالعناصر الأصليّة، فنتج عن ذلك عنصر جديد عُرف في ما بعد باسم “الـمُولَّدين”. ينظر: https://cutt.us/XKatz مقال بعنوان: في نموذج العَيش الأندلسيّ د. محمَّد حلمي عبد الوهَّاب.
([14]) D. Francisco J. Simonet: Historia de los Mozarabes de EspanaV. I. p. 106 (Madrid 1897)
What¦s Going down i am new to this, I stumbled upon this I have discovered It absolutely helpful and it has aided me out loads. I hope to give a contribution & aid different customers like its helped me. Good job.
Merely wanna admit that this is extremely helpful, Thanks for taking your time to write this.
Lovely site! I am loving it!! Will be back later to read some more. I am bookmarking your feeds also
Hi there! This post couldn’t be written any better! Reading this post reminds me of my previous room mate! He always kept chatting about this. I will forward this page to him. Pretty sure he will have a good read. Thank you for sharing!
Nice post. I learn something more challenging on different blogs everyday. It will always be stimulating to read content from other writers and practice a little something from their store. I’d prefer to use some with the content on my blog whether you don’t mind. Natually I’ll give you a link on your web blog. Thanks for sharing.
Hello. remarkable job. I did not anticipate this. This is a impressive story. Thanks!