التغيير عبر الممارسات اليومية: الإسلاموية ونظرية الحركات الاجتماعية
Transforming everyday life: Islamism and social movement theory
المؤلف: جيهان توجال
ترجمة: عبد الحق دحمان
ملخص: بدلا من مواجهة التحديات العامة ضد الدولة كجزء مركزي من استراتيجيتها التعبوية، فقد تأسست الحركة الإسلامية في تركيا استراتيجيتها على تغيير الممارسات اليومية. في هذا الصدد، توفر نظرية الحركة الاجتماعية الجديدة بعض الأدوات لتحليل هذا الخيار الاستراتيجي غير التقليدي. ومع ذلك، بينما تسعى التعبئة الإسلامية أيضًا إلى إعادة تشكيل مجال الدولة على المدى الطويل، تحتاج نظرية الحركة الاجتماعية الجديدة (بتركيزها على الثقافة والمجتمع وتجاهلها النسبي للدولة) إلى أن تُستكمل بمزيد من التحليلات المؤسسية. يتم تقديم وصف الهيمنة لأجل التعبئة الذي يتضمن أدوات من نظريات الممارسة اليومية وتشكيل الهوية، وكذلك من المقاربات المتمحورة حول الدولة، كوسيلة لفهم تعقيد الإسلاموية.
كيف تنشأ الحركات السلطة؟ هل يمكن الحديث عن حركة اجتماعية في ظل غياب الاستراتيجيات النزاعية؟ كيف يمكن للحركة أن تستقطب عواطف وعقول الناس بدون تحدي السلطات؟ عندما نستدعي التفكير في الحركات الاجتماعية، فإننا نميل إلى استدعاء صور التجمعات والمظاهرات والإضرابات وأعمال الشغب التي تتحدى الدولة ( McAdam 1988; Piven and Cloward 1977; Tilly 1978). من هنا، أود لفت التركيز إلى نوع جديد من نشاط الحركة.
في تركيا، تتجنب الحركات الإسلامية عمومًا تحدي الدولة بشكل مباشر كما تتجنب احتجاجات الشوارع عادةً. لماذا لا يتحدى الإسلاميون في تركيا السلطات العلمانية بشكل مباشر؟ في نفس الوقت كيف يحافظون على التعبئة العامة في ظروف غير مناسبة؟
على عكس المنظورات التقليدية في دراسة الحركات الاجتماعية، فقد وضعت أدبيات الحركة الاجتماعية الجديدة تحول الهويات كأحد أدوات التحليل المركزية (Melucci 1996). فبدلاً من التركيز على الدولة كمحرك أو هدف للتعبئة، توضح هذه الأدبيات أن الحركات يمكن أن تؤدي إلى تغيير اجتماعي من خلال التركيز على الثقافة والمجتمع (Cohen 1985).على الرغم من أن هذه المقاربة مفيدة لفهم حالات مثل الإسلاموية التركية ، إلا أنها قد تقودنا إلى عدم التركيز في بقاء الدولة كفاعل في عملية التعبئة، حتى عندما لا يتم تحديها علانية.
لم ينفي الإسلاميون اشتباكهم بالدولة، او سعيهم لإعادة تشكيل الهوية كهدف أساسي، وهو نفي محصور في تعريف “الحركات الاجتماعية الجديدة” من قبل ألبرتو ميلوتشي (1989) وآخرين، ولكنهم كانوا وثيقي الصلة بالرغبة في إعادة هيكلة الدولة والاقتصاد في تركيا. لذلك اتسمت التعبئة الإسلامية بالتركيز العرضي على الممارسات اليومية قبل أن تصبح مهيئة في الأخير للاشتباك مع الدولة.
على الرغم من محاولات دمج الثقافة في نهج العملي المتمحور حول التعبئة ضد الدولة، إلا أن بعض النقاش النظري لا يزال يلقي بضلاله على طريقة تفكيرنا في الحركات الاجتماعية. فبينما ركز البعض في دراسته في تناوله للحركة الاجتماعية من خلال مدى قدرتها على انتاج التعبئة المستهدفة للدولة ، ركز الآخر على تركيز الانتباه من خلال العمل على المجتمع المدني. لذا الهدف الأساسي هنا هذه الدراسة هو التشكيك في هاذين المنظورين. على الرغم من أن بعض التناقضات السابقة في الأدبيات التي تناولت الحركات الاجتماعية (من قبيل تلك التي تربط بين الثقافة والبنية، أو بين الهوية والاستراتيجية، وغيرها) قد تم التشكيك فيها مؤخرًا، إلا أن ثنائية واحدة تظل مركزية في التحليل، وهي التمييز بين المجتمع والدولة. حيث يميل التركيز على الدولة أو المجتمع إلى أن يكون أحد نقاط التمييز الرئيسية بين حسابات عملية التعبئة وهويتها. قد يسمح لنا عدم وضوح هذا التمييز بالنظر إلى الفصل بين البنية والثقافة من زاوية مختلفة أيضًا. في هذه الدراسة، أقدم منظورًا للهيمنة لمساعدتنا على إعادة التفكير في مثل هذه الثنائيات من خلال دمج ما توصلت اليه أدبيات الحركات الاجتماعية الجديدة مع رؤى والنماذج العملية.
النماذج المختلفة في دراسة الحركات الاجتماعية
سيتم، التأكيد في هذا المبحث علي كيفية تركيز أدبيات الحركات الاجتماعية الجديدة الضوء على أهمية تغيير نمط الممارسات اليومية للحركات الاجتماعية وتوليد السلطة. بعد ذلك، أستخدم نموذج العملية السياسية للإشارة إلى ما تفتقده: هياكل الدولة ومؤسساتها ومواردها الضرورية في تشكيل الحركة واستراتيجياتها. أخيرًا، أقدم الهيمنة كإطار يأخذ في الاعتبار كل من الممارسات اليومية وضرورة التركيز على الدولة (كموضوع للتحليل وكهدف لبعض الحركات)
الحركات الاجتماعية الجديدة
أشارت أعمال العلماء في أوربا، وخاصة جان كوهين (1985) ، ويورغن هابرماس (1987) ، وميلوتشي (1989)، وآلان تورين (1981)، إلى أنه مع نهاية القرن العشرين، تحولت اهتمامات دراسة الحركات الاجتماعية من استهداف الدولة إلى استهداف المجتمع والممارسات اليومية. مؤكدين في ذلك أن هذه الحركات لم تعد تركز على الاقتصاد والسياسة المؤسسية: إنها تتطور داخل المجتمع المدني. بينما كانت الحركات الاجتماعية التقليدية إما موجهة ضد الدولة أو تطالب بسلطة داخلها (Offe 1985)، في حين لم تعد الحركات الاجتماعية الجديدة “مسيسة” بهذا المعنى. ووجدت بدلا من ذلك مسالك أخرى للربط بين ماهو شخصي ووطني وعالمي عبر تجاوز الدولة.
أصبح الاهتمام المركزي للحركات الاجتماعية وفقًا لهذه الأدبيات، هو انشاء هوية. والتي كما يراها هؤلاء العلماء، التحديد الذاتي للمجموعة المتنافسة، وهو التحديد الذي يختاره الفاعلون أنفسهم. فوفقاً لميلوتشي، فإن هدف هذه الحركات، هو أسئلة محددة تتعلق بالحدود والوعي، وليس إصلاح المؤسسات أو اخضاعها: من نحن؟ ما هي أهدافنا ووسائلنا؟ (Melucci 1989, 1996).
تكمن قوة هذا النهج في دراسة الحركات الاجتماعية في أنه يشير إلى انتقال مهم في بؤرة تركيز الحركات الاجتماعية، التي تبدو بعيدة عن الدولة والاقتصاد وأكثر ميلاً إلى المجتمع المدني وسياسات الهوية. هذا التحول في التركيز من المواجهات النزاعية العامة مع السلطات إلى تحدي القوانين السائدة وخلق معاني جديدة (Melucci 1996, PP. 202-203) أمر بالغ الأهمية إذا أردنا تناول الإسلاموية.
ومع ذلك، فإن افتراض هذه الأدبيات بأن الاستقلالية الاجتماعية قد تتوسع كثيرًا لتسمح بالجهات الفاعلة أن تخلق هوية اجتماعية ذاتية من دون تدخل من الأحزاب القوية الفاعلة يمكن أن يكون موضع تساؤل حتى في أوروبا الغربية؛ عندما يتعلق الأمر بالإسلاموية، فإن هذا الافتراض المسبق أكثر إشكالية. في جميع البلدان ذات الغالبية المسلمة، شاركت الدول (إلى جانب القوى المهيمنة عالمياً كالولايات المتحدة) في تشكيل مجال الفاعلين الإسلاميين. بالتالي لم تكن هناك مواضيع حركة اجتماعية ذاتية التأسيس، كما في نماذج ميلوتشي وتورين وكوهين.
إشكال آخر، هو أن هذا النهج قد ينقص من أهمية أن عمل بعض الحركات المعاصرة قائم على استهداف الدولة بطرق ملتوية حتى وان كانت لا تتحداها علانية. لذلك، لا تزال نظريات الحركة الاجتماعية المتمحورة حول الدولة، إلى جانب النظريات السياسية الأخرى التي تستهدف الدولة، ذات صلة بحالات مثل الإسلاموية.
أخيرًا، يميل نموذج سياسة الهوية إلى التقييد الشديد في تأكيده على النهج الديمقراطي في عمل الحركات الاجتماعية. على سبيل المثال، يُفرِّق كوهين (1985، ص 707-710) بين حجج ما قبل الحداثة ذات النمط التقليدي للحياة (التي كانت تحمي المجتمعات التقليدية القائمة) وبين الحركات الاجتماعية الجديدة التي تدافع عن الترابط، الانعكاسية، الدمقرطة، وعوالم ذاتية التحديد وضد تجاوزت السوق والقانون. أقترح أن الإسلاموية تشبه الى حد ما حركة اجتماعية جديدة لأنها تنتج هوية جماعية بطريقة انعكاسية ومن خلال الأنشطة الترابطية (بدلاً من الاعتماد على التصورات الدينية المتعارف عليها وكذا المجتمعات القائمة)، بينما لا ترقى إلى مستوى النموذج المثالي لأنه ليست مشروعًا ديمقراطي وذاتي التحديد. لذلك، عند تحليل الإسلاموية، يمكننا دمج جوانب من منهج الحركة الاجتماعية الجديدة، لكن لا يمكننا تبنيها بالكامل.
إذا أردنا عولمة إطار عمل للحركات الاجتماعية الجديدة ونقله إلى ما وراء السياقات المكانية في أوروبا الغربية وأمريكا الشمالية، فعلينا أن نكون أكثر مرونة بشأن القضايا الثلاث المتمثلة في (الدولة كأحد صانعي الهويات؛ الدولة كأحد الأهداف؛ طرق عمل الحركات). مع بدأ العلماء في معالجة “التحيز الأساسي للديمقراطية” في نموذجهم (McAdam et al. 2001). فإنه يجب عليهم القيام بنفس العمل مع نهج الحركات الاجتماعية الجديدة لجعله أكثر ملاءمة عالميًا.
نظرية الفرص السياسية وتعبئة الموارد
يرى تشارلز تيلي (1978) ودوغ ماك آدم (1982) وسيدني تارو ([1994] 1998) أن براديغم الدولة يبقى مركز العملية السياسية. في حين أن ظهور الحركات الاجتماعية في القرن التاسع عشر واتخاذها من الولايات كأهداف لها حسب تيلي (1995) وتارو (1993) كان نتيجة لمركزية الدول. في هذا الصدد تم تعريف الحركات الاجتماعية آنذاك بأنها “تحد منظم ومستمر وعقلاني للسلطة القائمة”. من هنا تركز هذه الادبيات على كيفية قيام الفاعلين في الحركات الاجتماعية من الناحية الاستراتيجية (وفي معظم الحالات بشكل عقلاني ، انظر ماك آدم [1982 ، ص 37 ، 39] وتارو [1998 ، ص 24]) على الاستفادة من هيكل الفرص السياسية (Political Opportunity Structures-POS) وخاصة نظام الدولة.
استكمالًا لنموذج هيكل الفرص السياسية، يؤكد نموذج تعبئة الموارد (Resource Mobilization- RM) على أن توافر الهيكل تنظيمي، الخبرة، الزمن، الموارد المالية، ورعاية النخب أمر أساسي في تشكيل التعبئة (Gamson 1975 ؛ Jenkins & Perrow 1977 ؛ McCarthy and Zald 1977 ؛ Oberschall 1973). هذا التركيز على الاستخدام الاستراتيجي للموارد، والمفقود في نهج الهوية، لا ينبغي استبعاده من تحليلاتنا للحركات الاجتماعية. ومع ذلك، فإن نموذج تعبئة الموارد ونموذج هيكل الفرص السياسية يتجاهلان ما تؤكده سياسة الهوية. وبدلا من ذلك فإنهم يتعاملان مع الجهات الفاعلة على أساس أنها استراتيجية وعقلانية بشكل حصري. يفترض أن الحركات تضع الموارد المحددة بالفعل في خدمة أهدافها الحركية موضع التنفيذ. ويتعامل نموذج تعبئة الموارد مع الهوية والممارسات اليومية بطريقة مفيدة: هذه لا تشكل النقاط الأساسية لنشاط الحركة، ولكن انتشارها الواسع قد تشكل أدوات للتأثير على الناس (Morris 1984 ; Zald 1996). لهذا نحن بحاجة الى نهج يعترف بالهدف من نشأة الحركات الاجتماعية، في كونها مفيدة في حالة تحويل الممارسات اليومية في اتجاه استهداف الدولة.
على الرغم من أن نموذج هيكل الفرص السياسية وتعبئة الموارد قد عالج بشكل متزايد إشكالات الثقافة (Auyero 2004، ص. 420-421)، إلا ان العلماء الذين تناولوا هذا الاشكال قد تجاهلوا في أغلب الأوقات دور الثقافة والممارسات اليومية في تشكيل الهوية والعادات. متناسين دور الموارد الوسائل وجوانب أخرى من المجتمع التي تتشكل نتيجة للتعبئة التي تركز على نشاط الحركة. لذا كانت الاستجابة المتكررة على مثل هذه الانتقادات هو التقليل من الحركات والتفسيرات الموجهة نحو سياسات الهوية. على سبيل المثال، تحسر تارو (1998، ص 204) على حقيقة أن حركة الحقوق المدنية كانت عالمية، في حين أن روادها المعاصرون صاروا اكثر توجهاً نحو المحلية. بالتالي ” فالحركات التي تمنح الامتياز للهوية غالباً ما تتجاهل الفرص”، كما يأسف كذلك، توجه الحركات في تركيزها نحو أقسام اللغة الإنجليزية في حين تولى اليمين البيت الأبيض. بالتالي فمثل هذا الرفض لسياسات الهوية قد يزيد عن غير قصد الانقسامات المعتادة بين تشكيل الهوية من جهة وبين السياسة العليا من جهة أخرى. متناسين أن اليمين الذي كان يتولى البيت الأبيض كانت له سياسة هوياتية خاصة به، عبر حشد الكنائس والجمعيات ومراكز الفكر، إن لم يكن من خلال الأقسام الإنجليزية ذاتها. ومع ذلك، فإن الابتعاد عن البيت الابيض بداعي التركيز الحصري على “قسم اللغة الإنجليزية” (كون ميدان لتشكيل الهوية واللغة والمجتمع المدني والممارسة اليومية) سيكون قاتلا للحركات وكذلك لتحليلات الحركات.
دمج الثقافة داخل المؤسسات
دعا العديد من العلماء إلى دمج بين مناهج الحركات الاجتماعية الجديدة وهيكل الفرص السياسية من جهة وبين المناهج الثقافية من جهة أخرى (Goodwin & Jasper 1999 ; Meyer & al. 2002 ; Mueller 1992 ; Voss 1996). من هنا، تمثل هذه الدراسة مساهمة في هذا التحول التكاملي (النظر الى الممارسات اليومية كميدان للصراع) عبر محاولة فهم محاولة الحركات الاجتماعية في تغيير المجتمع والدولة على السواء. لذا سيتم مناقشة بعض المساهمات الرئيسية التي كان لها دور أيضا في عملية الدمج ولكن أيضا محاولة الإشارة الى ما يمكن تطويره في هذا الصدد.
ناقش الكتابين ذوي تأثير واسع (Goodwin &Jasper 2004 ; Johnston &klandermans) دور مكونات الثقافة في عملية التعبئة، والتي تشمل؛ الرموز، الشيفرات، الهوية، السرديات، الخطاب، الأيديولوجيا، والهياكل. مقابل ذلك تقترح هذه الدراسة منظور مشابه نوعا ما، مفاده أنه في حالة بعض الحركات، تكون الممارسات اليومية أكثر مركزية من تلك المكونات آنفة الذكر. يقترب الكتابين من نفس المنظور الذي تم تطويره في هذه الدراسة عندما ناقشوا مسألة ممارسة الشعائر (Fine 1995, p. 131 ; Swidler 1995, pp. 27-29 ; Taylor &whittier 1995, pp. 175-180)). إلا ان تايلور وويتير (ص ص. 174-173-164( ذهبوا أبعد من ذلك في تسليط الضوء على ما يسمي بتسييس الروتين اليومي، وخاصة في الحركات النسوية. من هنا تتوسع الدراسة قليلاً في رؤى تايلور وويتير عبر اللذين ركزا على الممارسات.
مؤخراً ، أظهرت فرانشيسكا بوليتا (2006) أن الجوانب الثقافية للحركات تنشأ أيضا مصالح بدلا من تعزيزها. وقد أظهرت أيضا كيف يمكن أن يكون الشكل الثقافي هدفاً وليس مجرد مورد للحركات (بوليتا 2002). من هنا، سوف تأخذ الدراسة وجهة النظر هذه ومحاولة توسيعها الى مجال الممارسات اليومية. وكما اشارت بوليتا (10-07 ,P .2002) أنه لا يوجد مجال للمقايضة بين الأخلاق السياسية والاستراتيجية السياسية، والأمر نفسه ينطبق على استراتيجية عمل الإسلاميين، فلطالما اظهروا طوال تاريخهم انه لا وجود للمقايضة بين استهداف الروتين اليومي أو استهداف الدولة (كما سيتم الحديث عنه فيما يخص الحركات الاجتماعية الجديدة).
جنبًا إلى جنب مع هذه التطورات الحديثة، يوفر العمل الذي قدمه كوهين أحد أكثر التوليفات شمولاً فيما يخص الأساليب الموجهة نحو الهوية. أشار كوهين (1985، ص 708 ، 715-716) إلى أن معظم الحركات المعاصرة تضمنت عنصرًا لتكوين الهوية وآخر للحسابات الاستراتيجية / العقلانية. يجادل كوهين بأن المقاربتين الرئيسيتين للعمل الجماعي طالما كانت تهمل أحد هذه الجوانب وفي مقابل الإفراط في التأكيد على الجانب الآخر. بالتالي، في هذه الدراسة أيضا سوف يتم الاعتماد على رؤى كوهين عبر السعي إلى تحليل مكونات إنشاء الهوية جنباً الى جنب مع المكونات الإستراتيجية فيما يخص التعبئة الإسلامية.
ومع ذلك، تم التنويه أيضًا إلى أن تحليل كوهين فيما يخص الحركات الاجتماعية الجديدة، قد أعاد إنتاج التمايز بين هذه الأساليب من خلال التمييز بين الحركات القديمة التي استهدفت الدولة والحركات الجديدة التي اتخذت من المجتمع المدني هدفاً لها. ذكر كوهين (1985، ص 667) أن الحركات الاجتماعية الجديدة “تستهدف المجال الاجتماعي لـ ” المجتمع المدني “بدلاً من الاقتصاد أو الدولة، واثارة قضايا المتعلقة بإضفاء الطابع الديمقراطي على هياكل الممارسات اليومية والتركيز على أشكال الاتصال والهوية الجماعية. تحاول هذه الدراسة، تجاوز رؤية كوهين بالإشارة إلى أن بعض الحركات تستهدف المجتمع والدولة معاً.
انطلاقا من نظرة الأخرى، فإن العلماء الذين تساءلوا بشأن توسيع نهج العملية السياسية قد شككوا في العديد من أوجه الفصل المفاهيمي في هذا المجال. من بين هؤلاء، جيمس جاسبر (2004) الذي رفض التمييز بين الهوية والاستراتيجية، كذلك الحال بالنسبة لكوهين الذي جادل أيضا بأن هذه جوانب متشابكة أصلا في عمل الحركات الاجتماعية. شكك أيضًا كل من جودوين وجاسبر (2004 ب ، ص 88-91)، بوليتا (2004)، ومارك شتاينبرغ (2004 ، ص 124-129 ، 132) في التعارض الثنائي بين الثقافة والبنية. رغم ذلك تظل ثنائية المجتمع المدني/ الدولة قائمة في أغلب أطوار البحث. من هنا تتأسس دراستنا على المحاولات التكاملية من زعم بأن الدولة هي الهدف الأساسي للحركات، ويكون ذلك عبر العمليات السياسية المتمثلة في “الاستراتيجيات المناسبة” من جهة (إستهداف الدول، البلديات، والمؤسسات السياسية الأخرى بوضوح) و ” استراتيجيات الهوية” (والتي تشير إليه هذه الدراسة، باستراتيجيات الممارسة اليومية).
تحليل الهيمنة
أنا افترض أنه في حالة بعض الحركات، يمكن التعامل مع التعبئة بغرض اجتماعي سياسي على أنها تمثل هيمنة بديلة. ومن خلال التصور المعدل لمفهوم ” الهيمنة” الذي اقترحه أنطونيو غرامشي Antonio Gramsci (1971)، فإنها تعني تنظيم السلطة داخل المجتمع والدولة من خلال دستور يعمل على توطين الممارسات اليومية (انظر أيضا Laitin1986). اعتبر الدولة مجموعة مترابطة من المؤسسات (وتشمل أيضا، الحكومة، الجماعات المحلية، الجيش، الشرطة والمحاكم… إلخ) التي تنظم الهيمنة داخل نظام الحكم من خلال صنع السياسات، الإكراه، التنظيم والتوافق. اما بالنسبة للمجتمع فإنه يمثل مجموعة النقابات التي تتوسط الدولة والاقتصاد (بما في ذلك شبكات الاسرة، الأقارب، المنظمات الغير حكومية، والشبكات غير الرسمية، المؤسسات الدينية والتعليمية … إلخ). مقابل ذلك تسعى الحركات الى الاشتباك بهدف الهيمنة وإعادة تنظيم الممارسات اليومية تماشيا مع تحول الدولة. لذلك تستهدف بعض الحركات الاجتماعية كلا من المجتمع والدولة على السواء من خلال نزع الصفة الروتينية عن الحياة اليومية وتشكيل روتين يومي بديل عنها.
استخدم علماء الاجتماع سابقاً مفهوم الهيمنة بمعنى التعمية الثقافية التي تحول دون ظهور اشكال من الوعي النقدي المتماسك (Gaventa 1982, PP 19-20 ; Gramsci 1971). بالتالي الهيمنة وفقاً لهذا الطرح، تمنع ” ظهور قضايا من قبيل التظلمات حول حرية التعبير، والاعتراف بالمصالح” وخاصة من خلال التأثير على تصورات المسيطرين ومنظورهم لهذه القضايا (Gaventa 1982, PP. VII, 1, 12-13, 63, 114). هنا أرى من الضروري تحويل انتباه وعي الناس وعقولهم نحو توطين مثل هذه القضايا.
يركز مفهوم الهيمنة على كيفية تشكيل السلطة في كل من الدولة والمجتمع، علماً انهما متشابكتان ضمن هذه العملية وليس منفصلين. مما يترتب على ذلك ان التعبئة المهيمنة تعيد تشكيل الدولة والمجتمع عبر مسار طويل يركز من خلاله على المناقشات اليومية الشفوية والمكتوبة (الصحف والكتب والنشرات) وكذا، التعليم والشعائر وغيرها من الممارسات الروتينية الأخرى. هذا البعد “التفصيلي” للتعبئة نادراً ما يتم التعرف عليه نظراً لتجاهله بسهولة بسبب تركيزنا على نشاط الشارع. بالتالي ففي الكثير من الحالات، يقتضي العمل في الشارع تكوين جماعات تعمل على ترسيخ سلوكيات معينة، فكون ان المظالم ليست منتشرة في كل مكان كما يفترض منظرو العملية السياسية (Hafez 2003 ; McCarthy & Zald 1977; Tilly 1987)، بالتالي تقوم الحركات المهيكلة بهذا الدور (Schurman & Munro 2006).
إن التعبئة التي تستهدف الهيمنة هي نتيجة لعمل الفاعلين، إلا انها تقتضي توفر الموارد اللازمة التي تسمح للحركات بإقامة ممارسات يومية بديلة. ومع ذلك، فإن تنظيم الهيمنة، التي هي عملية تشكيل هوية في حد ذاتها، بل تتجاوز خلق الهوية أحيانا (كما شرحه باحثي (NSM هي صراعات تشمل الدولة والمجتمع معاً. في هذا الصدد يوضح الجدول الأول، مقاربة الهيمنة للتعبئة فيما يتعلق بنهج الفرص السياسية (POS) وكذا نموذج تعبئة الموارد(NSM)
نظراً لضعف المحتمل في نظرية غرامشي فيما يتعلق بالهيمنة الجمع بين رؤيته ورؤى بيير بورديوPierre Bourdieu. ففي الوقت الذي يتعامل غرامشي مع تثملات الهيمنة من حيث الوعي والإدراك ، فإن العادات الممارسات اليومية (الواعية أو شبه الواعية أو حتى الغير الواعية) ضرورية أيضًا في تكوين جماعة مهيمنة. يتم غرسها لدى الجهات الفاعلة من خلال (توجيه سياسي معين) التنئشة الاجتماعية كسلوكيات جماعية. ومثل الوعي، الذي يتشكل من خلال النزاعات داخل الدولة والمجتمع، والذي يتشكل من خلال علاقة الفاعلين بالمجتمع وكذلك بالدولة بعبارة أخرى، يقودنا تنظير بورديو إلى التركيز على اتجاهات الممثلين لتقسيم البعد الزمني والمكاني واداركهما بطرق محددة. تؤدي اتجاهات الإدراك والانقسام هذه بدورها الى ظهور مجموعة محدودة من النشاطات الروتينية (والتي اصطلح عليها بالممارسات اليومية). تتضمن المواقف بشكل عام، اتجاهات داخلية للتصرف بطرق معينة بدلاً من غيرها (قراءة القرآن ليلاً بدلاً من مشاهدة التلفاز، والخوف من الله وطاعته بدلا من السلطان، تجنب الاتصال بالجنس الآخر، المشاركة في الأنشطة السياسية مع شخص آخر بدلا من قضاء عطلة نهاية الأسبوع مع العائلة، مقاطعة العمل عند سماع الآذان… إلخ).
جدول (01): مقاربات التعبئة
التركيز التجريبي | تفسير ظهور الحركة | استهداف الحركة تحت الدراسة | دور العمل الثقافي | |
مقاربة العملية السياسية
|
أمثلة تعبر عن للتعبئة / الإصلاح أو السيطرة على المؤسسات | التغيرات في هيكل الدولة مع ضرورة توافر الموارد |
الدولة |
دور الأدوات (الهوية والأطر كموارد) |
مقاربة الحركات الاجتماعية الجديدة | تشكيل الهوية/ تبني كل الممارسات
|
نجاح هوية المجتمع من الأعلى ومن الأسفل |
المجتمع |
تشكيل الجهات الفاعلة في الحركة |
مقاربة الهيمنة | إصلاح أو السيطرة على المؤسسات غبر تحويل الممارسات
|
تكامل عفوي بين الدولة والحركة الفاعلين المنظمين للأنشطة
|
المجتمع، الدولة، الاقتصاد |
التشكيل التزامني مع الاستراتيجية |
كما سيتم توضيحه أدناه، بمجرد تنظيم تدفق الممارسات اليومية حول مواقيت الصلاة، فإن الأمر يتطلب أيضا إقناعاً أيديولوجيا أقل وضوحاً لجعل الناس يذهبون للصلاة، لأنه ستصبح عاداتهم ذاتية الاستدامة. ومع ذلك، فإن الاستدامة الذاتية تعمل بشكل أفضل عندما يتم تنظيمها (وان لم تكن بالضرورة مفروضة ايديولوجيا) من قبل مؤسسات كالبلديات والحكومات المحلية. لذا، فإن أي نظرية للهيمنة تسعى لفهم الحركات الاجتماعية، لا يجب عليها ان تتجاهل مناقشة الممارسات والطقوس اليومية.
الضوابط والأساليب
تمثل بلدية سلطان بيلي Sultanbeyli المكان الذي تناولت فيه الحركة الإسلامية، وهي منطقة تمثل أعل نسبة لأصوات ألأحزاب الإسلامية في إسطنبول (تمثل أكبر مركز حضري في تركيا). كان عدد سكان سلطان بيلي 3700 نسمة قبل عام 1985، ثم اصبحت تضم 80 ألف نسمة بحلول عام 1989. وكان هذا في الغالب عبارة عن عشوائيات، كون ان معظم المباني لا تزال غير مقيدة بشكل رسمي. وفي نفس الوقت استقبلت وافدين من الريف من جميع أنحاء تركيا، والقادمين أساساً من منطقة البحر الأسود والمحافظات الكردية في الشرق، مضافاً إليهم الجيل الثاني من المهاجرين إلى المدينة من نفس المناطق. تتكون غالبية المنطقة من خريجي المدارس الابتدائية (يتركز الكثير منهم في قطاعات البناء) وسكانها أصغر سناً مقارنة ببقية إسطنبول (Pınarcıoğlu 2001, pp. 286, 288-289, 318-319 & Işik) جنباً الى جنب مع الانتماء السياسي، جعلها هدفاً متكرراً لانتقادات العلمانيين.
تمثل مدينة سلطان بيلي التي تقع على مشارف ولاية اسطنبول ( بالقرب من مدينة إزميت الصناعية الى الشرق بإسطنبول) أول منطقة حضرية بها بلدية إسلامية منتخبة. حيث انه قبل أواخر الثمانينات، لم يكن لسلطان بيلي أي طابع سياسي او ديني مهيمن. وكغيرها من المناطق الحضرية الأخرى، تنافس على السلطة كل من يسار الوسط (الحزب الاشتراكي الديمقراطي الشعبوي) ويمين الوسط (حزب الوطن الأم). في حين ان التسييس الحاسم بدأ بعد منتصف الثمانينات عندما سمع أصحاب التوجه الديني في المدن والمحافظات المختلفة من تركيا عن الأنشطة التربوية الإسلامية الموجودة في سلطان بيلي مما دفعهم الى الهجرة في شكل شبكات، عائلات، أقارب عبر شراء عقارات ليشكلوا بدورهم مجتمعات دينية ناشئة. كما لعبت النساء المهاجرات أيضا (القادمين من ألمانيا) دوراً في جذب الأقارب الى المنطقة، واخبارهم بأن منطقة سلطان بيلي ستكون الموقع الرئيسي المستقبلي للصحوة الدينية في تركيا. بعبارة أخرى، كان التفاعل بين السياسة وشبكات الأقارب (الدينية) مركزياً في انشاء منطقة إسلامية.
سيطر على بلدية سلطان بيلي حزب الرفاه (المحسوب على الاسلاميين) منذ 1989 الى غاية الانقلاب العلماني عام 1997. وفي خضم ذلك كانت هناك معارضة حزبية لحكمهم طوال التسعينات (من قبل حزب الطريق الصحيح – يمين وسط- وحزب الشعب الجمهوري – يسار وسط- ولاحقا حزب اليسار الديمقراطي)، إلا أنها ظلت ضعيفة مقارنة بمعارضة الجيش والحكومة المحلية. وكانت أبزر نقاط الخلاف الشديدة آنذاك بين حزب الرفاه وبين الجيش حول مكانة تمثال أتاتورك، المتواجد في كل الساحات العامة والحدائق والمباني الرسمية في تركيا. والذي يذكر المواطنين دائما بالالتزام الرسمي للدولة تجاه القومية العلمانية للزعيم المؤسس كمال أتاتورك. في عام 1996 أزال رئيس بلدية سلطان بيلي كوجاك تمثال أتاتورك من الشارع الرئيسي الى حديقة البلدية، ورد الجيش على هذه الخطوة باقتحام المدينة بالدبابات ليرجع التمثال الى مكانه الأصلي. وبعد هذه الحادثة قرر مسؤولي حزب الرفاه تجنب الدخول في مواجهات مباشرة مع الدولة.
تراجعت أنشطة الأسلمة في البلدية بعد تدخل العسكري العلماني عام 1997، واعقبه فرض قيوداً على المدارس الإسلامية التجمعات الدينية في جميع انحاء تركيا، بالإضافة الى اغلاق حزب الرفاه والتنظيمات الشبابية وما يترتبط بها من نوادي دينية. وبعد التدخل، انتظم الإسلاميون في حزب الفضيلة، هذا الأخير تبني استراتيجية قائمة على تجنب انتقاد المؤسسات العلمانية. وعلى الرغم من هذا الاعتدال، فقد صعد النظام من ضغطه على الإسلاميين، وفي خضمه كان حزب الفضيلة يمر بمرحلة انقسام خلال المراحل الأخيرة هذه الدراسة. احتفظ حزب الفضيلة بالسلطة البلدية سلطان بيلي حتى تم اغلاقه من قبل المحاكم العلمانية سنة 2002.
يدفع التسييس المكثف بشكل استثنائي في بلدية سلطان بيلي حالة مناسبة لدراسة تأثير السياسة على الروتين اليومي. ومع ذلك، فإنه يعطي فكرة عن حدود مثل هذه الحالة وإمكانية تعميم وتكرار نتائجها: بالتالي تركز نتائج هذه الدراسة أكثر على الحالات التي يكون فيها للحركات قدرة كبيرة على التعبئة لدرجة انها تجعل أساسيات النظام الحالي محل شكوك.
يمكن القول ان ملاحظات المشاركين تعتبر الآلية الأفضل لإجراء دراسات ميدانية حول ممارسات النشطاء (Lichterman 1998)، خاصة حول الممارسات اليومية الروتينية والسلوكيات التي غالباً ما تكون عفوية. ولا يمكن اجراء هذه الترتيبات دائما من خلال الاستطلاعات والمقابلات التي تعتمد على حسابات الجهات الفاعلة. وعليه فمن خلال تتبع ملاحظات المشاركين في عدة مواقع من سلطان بيلي من صيف 2000، قمت بجمع مواد عن التفاعلات بين الدين والسياسة وديناميكيات الحركة. كانت هذه المواقع- لا سيما البلدية والمساجد وأماكن العمل والمؤتمرات والمقاهي الدينية- من بين الآليات الرئيسية للتعبئة الإسلامية في المنطقة.
ركزت في دراستي على مساجد المتواجدة في المنطقة والاحياء المحيطة بها، كما ركزت بشكل دوري على تتبع رواد المساجد من خلال حضور خطب الجمعة والصلوات التي تقام خمسة مرات في اليوم. ركزت أيضا على المقاهي والنوادي الدينية، حيث يرتادها العاطلون عن العمل، كما يرتادها الموظفون أيضا بعد رجوعهم من العمل. في البلدية ومقر الحزب الإسلامي الذي تم حله، درست كيفية تفاعل الموظفين المحسوبين على التيار الإسلام مع مطالب الشعبية. قمت بالتدريس أيضا في مدرسة عامة محسوبة على العلمانية داخل المدينة، وفي نفس الوقت قمت بتحليل وملاحظة مؤسسات التعليم الديني مثل المدراس الدينية التي ترعاها الدولة، ومدارس القرآن. كان حضوري في المؤتمرات الشعبية عاملاً رئيسياً في فهمي للظاهرة الاسلاموية، والتي يحضرها مئات الأشخاص في مدينة سلطان بيلي. وقد انسحبت المناقشات الدينية التي أثيرت داخل هذه المؤتمرات إلى أماكن العمل والمقاهي، لتنظم بالتالي سلوكيات اليومية للمواطنين.
قمت بإجراء خمسين مقابلة شبه منظمة ومتعمقة، استغرقت كل واحدة منها ما بين ساعة وساعة ونصف، سألت من خلالها الأشخاص الساكنين في المنطقة حول حياتهم هناك، وتفسيرهم للدين، وكذا آرائهم حول السلطات المحلية بشكل خاص والسياسة الوطنية بشكل عام. نظراً لغياب الاختلاط بين السكان المتدينين، كان تركيزي بشكل اكبر الى شريحة الذكور مقارنة بالإناث. حيث تمكنت من إجراء مقابلات رسمية مع ثلاث نساء فقط. على الرغم من التفاعلات العديدة مع أمهات طلابي وزوجات عدد قليل من جهات الاتصال الخاصة بي. تم اختيار الأشخاص الذين تمت مقابلتهم من خلال عينة كرة الثلج. حيث تم اجراء مقابلات فردية وجماعية؛ تضمنت المقابلات الفردية (ما مجموعه 47) ومحادثات مع 11 من التجار الصغار وأصحاب المحلات التجارية، و16 عاملاً، وعاملان متقاعدان، وثلاث من ربات البيوت، وإمام مسجد، واثنين من مدرسي قرآن، وثلاثة أساتذة من الطور الابتدائي، ثلاث من تجار العقارات، ثلاثة سياسيين، وثلاثة موظفي في البلدية. ومن بين المقابلات الجماعية الثلاث، كانت اثنين مع عمال البناء (تكونت من اثنين الى ثلاث افراد) والأخرى مع أربعة من خريجي الجدد من الثانوية الدينية في سلطان بيلي.
وقد اطلعت على الأشخاص الذين تقابلت معهم صراحة انني أقوم بهذا العمل لأجل غرض بحثي لا أكثر. إلا ان انتمائي لجامعة أمريكية قد أثار بعض الشكوك في البداية. ومع ذلك، سمح لي العمل بالمنطقة كمدرس في بناء ثقة. وعندما استأجرت سكن بالقرب من المدرسة التي كنت اشتغلت بها، بدأت انتقل تدريجياً تكوين شبكة علاقات أبعد من معارفي الأولية.
تم استخدام البيانات التي تم تحصيلها من خلال هذه المقابلات للتفكير في النظريات الموجودة وتقييمها وتوسيع نتائجها، لتشمل حالات أخرى مشابهة (Burawoy & all, 1991)، لذلك لا يمكن اعتبار بلدية سلطان بيلي كصورة مصغرة للعالم الإسلامي (بناء على ما يمكن للمرء ان يستخلصه من استنتاجات قد تعني جميع المسلمين)، ولكن كحالة ذات خصوصية يمكن للباحث ان يوسع نتائجها الى أسئلة نظرية كبرى. لهذا سيتم استخدام قضية سلطان بيلي لإعادة التفكير في بعض التناقضات المفاهيمية في مجال الحركات الاجتماعية ومناقشة كيف يمكن للرؤى في إطار مهيمن ان تساهم في التشكيك فيها.
في القسم الموالي، سأقوم بالحديث عن دور كل من الدولة والتغيرات السوسيو-اقتصادية في تشكيل خارطة الإسلام السياسي. بعدها سيتم تحليل دور الإسلاميون في الحياة اليومية وايقاعاتها في خلال مجموعة من الضوابط. ثم ألقي نظرة على كيفية ارتباط تشكيل الحياة اليومية بالمؤسسات العامة.
المحددات الكلية للاستراتيجيات الدينية
يميل الباحثين الذين استخدموا نماذج العملية السياسية لشرح ديناميكيات الإسلام السياسي إلى اختزال تحركاتهم ضمن استجابات عقلانية التي تفرضها الظروف السياسية الراهنة، أو في أفضل الأحوال استخدام حكيم للأطر الإسلامية التي يضمنها الإنفتاح وكذا توفر الموارد السياسية (Alexander2000). نتيجة ذلك تم اهمال النشاطات الدينية اليومية التي يمكن ان تقوم بها الاسلاموية، مقارنة بأسئلة التأطير او الشبكات أو الموارد او الفرص السياسية (e.g.; Singerman 2004, p 151 ; Clark 2004). في نفس السياق، قامت أعمال أخرى بتحليل الثقافة والدين من منظور أكثر شمولي نوعاً ما، مع محافظة على الأنشطة الموجهة نحو الدولة، بدلاً من السعي إلى التغيير عبر التعبئة الإسلامية للحياة اليومية (Wickham 2002; Wiktorowicz 2004).
هؤلاء الآخرون الذين تناولوا الموضوع بنزعة تورينية قد استكشفوا البعد اليومي لعمل الحركات، في مقابل ذلك لم ينظّروا بشكل كافٍ إلى الدور التأسيسي للدولة في صنع الإسلاموية (Göle 1996). تحليلات أخرى موجهة للمجتمع المدني – مثل تحليل جيني وايت (2002) للإسلاموية من خلال تناولها لإحدى ولايات اسطنبول – وذلك بالتركيز على امتيازات التي توفرها الشبكات والثقافة والتعرف على دواليب السياسة والدولة، إلا انها تجاهلت كيف يتم بناء كل هذه الأمور سياسيًا (وإلى حد ما بواسطة الولاية).
تؤكد مقاربة الهيمنة على أن صعود الإسلاموية كان له محددات اجتماعية واقتصادية وسياسية ومؤسسية. أدى التفكيك الليبرالي الجديد لهياكل الدعم الزراعي الى ترييف المدن نتيجة لتدفق المهاجرين القادمين من الريف في مقابل تراجع النشاطات الصناعية بالفعل مع الثمانينات والتسعينات (Keyder 1999). أصبح الوافدون الجدد نتيجة ذلك أكثر تديناً وورعاً نوعاً ما نتيجة استجابة الحزب الإسلامي لاحتياجاتهم الاقتصادية في مقابل قمع اليسار الذي كان يمكن أن يلبي احتياجات الوافدين أيضاً. حصد الحزب الإسلامي على أقل من%10 من الأصوات الناخبين قبل عام 1980، وتركز اغلبهم في المحافظات. إلا انه بعد ان قام بتغيير اجندته فيما يخص استقطاب المهاجرين الوافدين من الريف، زادت اصواته الى حوالي %20 بحلول منتصف التسعينات. وإن كانت هذه النسبة ليست مرتفعة نوعا ما. إلا انه نظراً لانقسام الشديد في أحزاب الوسط، وكذا الفساد المنتشر على نطاق واسع، والفشل في حل الصراع العرقي، ذلك ارتفاع معدلات الفقر والتفكك الناجم عن برامج إعادة الهيكلة، والتي كلها أضرت بأحزاب يمين وسط ويسار وسط، مما فتح المجال أمام صعود الإسلاميين في الانتخابات على المستوى الوطني، اكتسب لحزب الرفاه بموجبه سلطات واسعة في البلدية والحكومة.
على سبيل المثال، في إسطنبول، كانت الضربة الأخيرة التي وجهت إلى الحزب الشعبوي الديمقراطي الاجتماعي هي الاستثمار الشعبي في ادارته الغير الكفؤة للبلدية (1989-1994). نتج عن ذلك أكبر الانتصارات رمزية للإسلاموية في التاريخ التركي، وهو الاستيلاء على بلدية إسطنبول الكبرى في عام 1994. وبالتزامن مع هذه خسارة وصعود الاسلاموية، بدأت أحزاب يسار الوسط تميل نحو الكمالية حصراً (أي الدفاع الصارم عن مبادئ أتاتورك)، ومبتعدة تدريجياً عن الايديولوجية اليسارية الشعبوية والديمقراطية الاجتماعية التي تبنتها مع بداية الستينات. والذي وجدته الأحزاب الإسلامية فرصة ومنفذاً لتبني سياسات العدالة الاجتماعية في الأحياء الفقيرة كسلطان بيلي.
علاوة على ذلك، مع الثمانينات والتسعينات القرن الماضي، بدأت المساجد الرسمية وأئمتها يشتكوا من عدم كفاية الأئمة الذين تم تعيين انفسهم بأنفسهم بطرق غير رسمية في المدارس الدينية المنتشرة (الصوفية) التي تقوم بالتدريب، فإنتشرت نتيجة ذلك المساجد الغير المسجلة رسيماً والتي أنشأت بفضل تبرعات السكان في جميع أنحاء المدن الرئيسية في تركيا.
اصطفت بعض الطرق الصوفية وشيوخ المدارس الدينية، إلى جانب العديد من خريجي المدارس الدينية ذوي التعليم المحدود، والذين لم يرتقوا إلى مناصب بارزة في المؤسسات الرسمية الدينية العليا (أي مديرية الشؤون الدينية ومدارس اللاهوت)، وراء الإسلاموية ضد سيطرة الدولة، أي ضد الإسلام “الرسمي”. كان هذا نتيجة لسياسات الدولة العلمانية الى حد ما، كونها أحدثت تضخماً في خريجي المدارس الدينية لهدف رئيسي فقط وهو مواجهة التيارات اليسارية، في نفس الوقت لم توفر مناصب جديدة للخريجين من المدارس الدينية مما يتناسب ومكانتهم المجتمعية، وتماشياً مع الانفتاح الأيديولوجي للدولة على تسييس الإسلام والسماح بانتشاره في المجال العام بعد عام 1980 (يمكن القول انها” فرصة سياسية”)، ساهم هذا التحول الهيكلي في صعود الإسلام السياسي. لذا سيكون مثل هذا الانخراط للدولة في إنشاء حركة غير واضحة من وجهة نظر الحركات الاجتماعية الجديدة (NSM) الحصرية، الأمر الذي يتطلب منا تقديم رؤى أخرى من وجهة نظر مقاربة الفرص السياسية ونماذج الهوية عبر التركيز على الدولة باعتبارها واحدة من صانعي الهوية (Meyer 2002).
من بين الفواعل الرئيسية التي ساهمت في انتشار الاسلمة في سلطان بيلي هي الحزب الإسلامي والأئمة وكذا المثقفون والتجار. كما شكلت الاسلاموية موضوعاً رئيسياً لدى كتاب الاعمدة ومحرري الصحف في مختلف الجرائد (Akit, Milli Gazete, Yeni Şafak). يتبنى أئمة المساجد المعينين رسمياً الإسلام الرسمي في خطبهم. في حين ان التيارات الأكثر تشدداً في الاسلاموية فانحصرت لدى الشباب المتخرجين من مدارس اللاهوت والمدارس الدينية. وأغلبهم أصبحوا خريجين في مدارس عامة؛ والبعض منهم اشتغل في البلدية؛ أما الباقي منهم فهم عاطلين عن العمل. وقد تكونت لدى هؤلاء علاقات كأعضاء في مجموعات هامشية، او خلال سنوات دراستهم.
على الرغم من أن الحزب الإسلامي والمنظمات الحركية المرتبطة به انضوت تحته ملايين الأعضاء في بداية التسعينات، إلا انهم استخدموا نضالات الشوارع بإعتدال، بعد تعرض الحريات الدينية (الحجاب في المدارس) والمؤسسات (المدارس الدينية القرآنية) لتحديات جدية. ويرجع سبب هذا الاعتدال إلى حد كبير إلى الدروس المستفادة من فشل اليساريين بعد عشر سنوات من تعبئتهم للشوارع في الستينات والسبعينات. حيث رأي الإسلاميون من هذه التجربة ان الدخول في صدامات مباشر مع الجيش والشرطة وكذا الجماعات القومية الشبه العسكرية يعتبر بمثابة مباراة صفرية، وبالتالي كان لابد من اتخاذ مسار آخر غير الصدام مع الدولة. وعليه اقتضى استنزاف المواطنين العاديين، الذي أحبطت معنوياتهم بسبب مقتل الآلاف خلال التعبئة اليسارية، استراتيجية تعبئة مغايرة. في هذا السياق، شكل الإطار المؤثر الذي استخدمه الإسلاميون ” السلام (في السلام)” صدى واسع. فتضاءل حراك الشارع الإسلامي أكثر بعد التدخل العسكري العلماني في عام 1997، بل أصبح شبه معدوم خلال 27 شهراً قضيتها في الميدان. بالتالي، فإن استراتيجيات التعبئة البديلة للإسلاميين التي ركزت على تغيير الحياة اليومية بدلاً من مواجهة السلطة، قد مكنت الحركة من الاستمرار حتى في ظل الظروف السياسية الغير المواتية وخاصة بعد عام 1997. والذي نتج عنه الأسلمة التدريجية لتركيا في العقدين ونصف العقد الماضيين، والتي مهدت الطريق نحو هرم السطة.
التسييس الديني للروتين اليومي
تتأسس الهيمنة عبر التغيير الاستراتيجي للعادات اليومية ضمن السياقات المختلفة كالشارع وأماكن الشغل والمقاهي وقاعات المؤتمرات. وسأقدم مثالاً لكل واحدة منها فيما سيأتي. فبين عامي 2000 و2002، كان العامل الرئيسي لهذا التحول هو حزب الفضيلة (الإسلامي) والجهات الفاعلة المرتبطة به، على سبيل المثال شكلت شخصية » متين « Metin أحد الأمثلة المهمة لبائع متجول اشتغل سابقاً كبناء في أحد المنشآت، وعقب تقاعده بدأ في بيع الملابس الرخيصة في سيارته البسيطة. نظرة متين الى عمله لم تكن من زاوية تجارية بحتة، ولكن كعبادة. نتيجة ذلك كان يدخل في نقاشات دينية وسياسية مع معظم زبائنه. وكلما أذن المؤذن للصلاة (محافظ على صلاة الجماعة) اعتذر عن زبائنه وأسرع الى المسجد بحجة ان العبادة بالنسبة له تأتي قبل العمل. كان عضوا في جمعيات دينية راسخة مثل ( İskenderpaşa cemaati جماعة إسكندر باشا ) والحزب الإسلامي، مما جعله شديد الولاء سياسياً ودينيا لهماً، و أكسبه نوعاً من الشعور بالتميز والتمكين بين أقرانه، وهذا ما تؤكده الملصات والشعارات الرمزية لحزبه وجمعيته المتواجدة على سيارته البسيطة التي كان يستخدمها في بيع الألبسة ومختلف البضائع.
يمتلك متين مستوى ابتدائي فقط، لكنه حاول بإصرار تجاوز حدود درجته الرسمية؛ حيث كان لديه جدول زمني طموح يتكون من ورد للقرآن، وكتب عن السيرة النبوية، ونصوص تتعلق بتاريخ الدولة العثمانية. وقد اقتبس بعض الرسائل سياسية للغاية من قراءاته من بينها:
نحن أمة نبيلة [الشعب] قادمة من ماضٍ مجيد. تحاول بعض بؤر الشر تدمير هذا المجد وافساده. إن القوى الإمبريالية والصهيونية تتلاعب بالشعب التركي. نحن أمة تواجه مخاطر كبيرة مثل تراجع نسبة التدين، بل وإنكاره جوهرنا، والاستخفاف بالمشاعر الدينية للإسلام. إذا قرأ المؤمنون القرآن واستوعبوه جيداً، فبإمكانهم التغلب على هذه المخاطر. والطريقة الوحيدة لمواجهة مخاطر الحياة وغياب الاخلاق التي تدعمها التيارات المفسدة، وتدمرهم، وتستنزف روحهم، وتدفعهم إلى الدعارة، هي أن تتعلم من معتقداتها التي تؤمن بها … أي العودة إلى الأصول [ضمنيًا مصادر دينية كلاسيكية].
وفي خلال حواري مع “متين”، أكد أنه يجب على الدولة ان تشجع العودة الى ” الأصول”، والتي حسبه هي ما تميزت به الدولة العثمانية سابقاً عن الدولة التركية الحديثة، حيث ان هذه الأخيرة لم تقدم دعم رسمي للنقاشات والممارسات الدينية، مما تسبب في تراجع قوة تركيا على المستوى الدولي بشكل ملفت. لذا يرى أن “العودة الى الأصول” تعتبر الطريق الوحيد الذي يؤدي الى النجاة بالنفس وفي نفس الوقت يقوي تركيا حالياً.
ما يمكن ان نستنتجه من حياة “متين” اليومية هو أنه جمع بين العبادة والتجارة والسياسة، وعلى هذا المنوال، شجع زبائنه على تطوير نموذج الحياة الذي يحياه؛ أي روتينه اليومي. والذي يعتبر كذلك روتين سياسي كون ممارساته مستنبطة من الحركة الإسلامية. وكما انه لا يفرق بين الممارسة الاقتصادية والممارسة الدينية، من حيث اعتماده على الإسلام في توجيه حياته، فهو كذلك روتين الاقتصادي أيضاً. ويعتقد بهذا المنهج أنه سوف يتم تنشأ دولة ومجتمع أكثر تمجيداً وازدهاراً وأخلاقية. بعبارة أخرى تؤدي ممارساته اليومية حسب رأيه (خطابه المنتظم للزبائن وحثهم للذهاب إلى الصلاة) إلى انتشار الفاعلين الإسلاميين في مختلف المجالات مستقبلا وخاصة في الناحية الاجتماعية والسياسية.
يأخذ تشكيل الروتين اليومي، سواء الخاص بالشخص نفسه او بالآخرين، أشكالا أكثر اثارة للجدل وأحيانا ًشمولاً وصدامية بين الإسلاميين الغير المعتدلين. كما تصبح أيضا أكثر ميلاً للتدخل في الحياة الدينية والدنيوية للمؤمنين العاديين. وأكثر تجسيدا لهذا النوع من الروتين، هو “فكرتFikret ” وأصدقاؤه. فكثيراً ما أمضيت وقتاً مع فكرت في مكتبه العقاري مع صديقه ” هدايت Hidayet ” (كلاهما في عمر الأربعون) وأصدقائه وزبائنه بشكل دوري عن الإسلام والإسلام السياسي والسياسة بصفة عامة. كان فكرت ومعظم أصدقائه وزواره الدائمين منتمين للحزب الإسلامي (رغم انهم كانوا ينتقدونه عقائدياً بسبب براغماتية الحزب). لذا شكل مكتبه العقاري كأحد المواقع المهمة في تشكيل الرأي لدى الإسلاميين وفي نفس الوقت أحد الموارد الرئيسية للهيمنة الإسلامية كونها تدفع نحو روتين يومي بديل .
في احد الأيام، تناقش فكرت ومسعود (اشتغل عامل بناء وتقاعد وهو أحد اقرب الأصدقاء لفكرت) عن مدى انخراط المسلمين الاتقياء في العمل الخيري، وبرر فكرت بأن ذلك راجع جزئياً الى الهجومات التي تبنتها وسائل الاعلام العلمانية ضد صناديق التمويل الضخمة التي أرسلها العديد من المتدينين الى البوسنة. بالقول ان هذه المبالغ انتهى بها المطاف إلى خزينة الحزب الإسلامي وقادته، فأدت وسائل الاعلام الى إحباط معنويات المسلمين، الذين أصبحوا الآن أقل استعداداً ومبادرة للانخراط مرة أخرى في مثل هذه الحملات. بعدها تنهد هدايت لبعض الوقت، وقال ان المشاكل كانت أكثر عمقاً من ذلك:
لم يعد أحد منا مثل مسلمي عصور الازهار، حيث نمتلك العديد من الممتلكات والكثير من البيوت. فالناس في وقتنا الراهن الذين يسعون نحو التملك لا يستطيعون التضحية بأنفسهم من أجل الإسلام. يبدو ان بعض الناس يضحون بأنفسهم ويذهبون الى الحرب. إلا انه في الواقع، لا يفعلون ذلك عن وعي كما يقوم به أوميت [المجتمع الإسلامي]. باستثناء بعض العاطلين عن العمل الذين يذهبون إلى الجبهة فقط لأن بعض الأغنياء المسلمين يدعمونهم بالمال.
يقصد هدايت بعصر الازدهار، بزمن النبي محمد صلى الله عليه وسلم والخلفاء الأربعة الذين جاؤوا بعده، والتي مثلت فيه العقيدة المبدأ الاساسي وقبل كل شيء بما فيها الممتلكات، لذا كان توزيع هذه الاخيرة قائم على مبدأ المساواة. بالتالي اعتقد الكثيرين ان عصر الازدهار المشار إليه يعتبر النموذج المثالي في التاريخ الإسلامي. نتيجة ذلك رأى الكثير من الإسلاميين (الراديكاليين) بأن عصر الازدهار كان مجتمعاً غير طبقي، لذا يجب على المسلمين المعاصرين تقليده من خلال من خلال مبدأ المساوة في الانفاق و توزيع الممتلكات وذلك لأجل هدف الدين الإسلامي. في منظور هدايت، يرتبط الافتقار الى وعي آوميت – أي الوعي الذي يدفع بالمرء إلى إعطاء الأولوية للايمان على الكسب المادي والزهد في التوسع في الكثير من الممتلكات- ارتباطاً وثيقاً بتجربة معينة للإسلام كدين:
يتلقى اغلب الناس الإسلام من آبائهم وأمهاتهم عن معاني الإسلام التقليدي. نتيجة ذلك يعتقد المسلمون التقليديون الذي لا يجيدون مبادئ الإسلام الحقة أنهم بإمكانهم النجاة من النار لمجرد الصلاة بانتظام. إلا ان اغلبهم يقع في الشرك بوعي او بدونه (أي يشركون مخلوقات أخرى بالله)، وبالتالي يقعن في أكبر خطيئة التي لن يغفرها الله. يمكن لله ان يغفر القتل والسرقة، ولكن لن يغفر لمن يشرك به. نتيجة ذلك أصبح الناس يطيعون القوانين الوضعية بالضبط بدلا من شريعة الله؛ فصاروا يخشون شرطة المرور أكثر مما يخشون الله، والبعض منهم يقع في حب زوجته أكثر من حبه لله. لهذا يعتبر هذا شركاً بالله (يمكن للمرء ان ينزلق بسهولة الى مثل هكذا تصرفات). لذا دعا علماء الأمة في خلال التاريخ الإسلامي إلى عدم ادانتهم بالخلود في النار، لكونهم وقعوا ولو مرة في أحد أنواع هذا الشرك الأصغر.
يتضمن المصطلح القرآني معانى الشرك، وهو أمر محوري جدًا في الإسلام الراديكالي، فبالاعتماد التراجم والتفاسير المختلفة، القصد بالشرك أنه ربط مخلوقات أخرى بالله، أو الإيحاء بأن لله شركاء، أو إقامة شركاء في العبادة مع الله – (أحيانًا) وفقا لعلماء المسلمين غير الإسلاميين، فإن الشرك يحدث عندما يعامل الشخص بشكل صريح شخصًا آخر مثل معاملته لله (كما قد يحدث في العلاقات بين سيد صوفي وأتباعه). ومع ذلك، فإن الإسلاميين أشد قسوة في معاييرهم ويرون ان الخضوع لأي شخص ماعاد الله هو في الواقع يندرج ضمن مفهوم الشرك.
هذا الخطاب الطويل كان موجهاً إلي بشكل أساسي وإلى كل من فكرت ومسعود، حتى نفهم ما يتطلبه المرء ليكون مسلمًا – ونتصرف وفقًا لذلك. بالنسبة للإسلاميين مثل هدايت، فإن الهدف من التفاعل اليومي هو خلق أتباع لا يخشون الدولة ويتبعون (ويدعون ويقاتلون من أجل تطبيق) التعاليم الإسلامية. يجب تعلم هذه المبادئ من خلال قراءة المصادر المكتوبة، بدلاً من المصادر الشفوية عن الوالدين – الأمر الذي من شأنه أن يكسر سلطة الأب ويؤسس لسلطة الفاعلين الإسلاميين. ولا يكفي لدى هدايت أن تتميز حياة المسلم اليومية بالصلاة خمس مرات في اليوم. بل أن الممارسة الإسلامية تتضمن بالضرورة اتباع جميع سبل الله وتشريعاته، حتى عندما (ربما على وجه الخصوص) تتعارض مع قوانين الدولة أو إخلاص الرجل لعائلته. إن إعادة تشكيل الممارسة اليومية هذه تجرد التصرفات العادية للمسلمين العاديين – اهتمامهم بعائلاتهم، والحفاظ على الصلوات، وللمعرفة الدينية المكتسبة من آبائهم. إن هذا الهجوم الانعكاسي ضد الأنماط المعتادة للروتين اليومي (المترسخة بشكل كبير في أدبيات الحركات الاجتماعية الجديدة) هو ما يجعل الحركة الإسلامية على ما هي عليه. ومع ذلك، على عكس الروايات التي تفصل الثقافة بدقة عن الاقتصاد والدولة، فإن انخراط هدايت في الحركة الإسلامية يجعله يرى أن دينه وروتينه اليومي مرتبطان ارتباطًا وثيقًا بنظام الملكية. يؤدي تغيير تدفق الحياة اليومية إلى تغيير طريقة هيكلة المجتمع (وعلاقته بالدولة والاقتصاد). وهكذا، فإن تدخلات هدايت الدينية تسعى إلى نشر الهيمنة الإسلامية في العلاقات الأسرية والاقتصاد، وإضعاف الولاء للدولة العلمانية.
في سن العشرينات من العمر، اشتغل فكرت وهدايت لسنوات في المملكة العربية السعودية. ولقد أتيح تواجدهم هناك رؤية الحياة الاجتماعية الأكثر تقوى في السعودية، فتشكلت لديهم خبرة عملية. وبعد عودتهم الى تركيا استفادوا أيضا من خبرة الاسلاميين الذين كانوا يقوموا بأعمال موسمية في سلطان بيلي، فلم يدمجوا جوانب هذه الخبرة ضمن روتينهم اليومي فحسب بل سعوا الى نشرها إلى بقية المجتمع. ويمكن رؤية نسخة مشابهة أيضا بالنسبة للذين تلقوا تدريب تعليمي في المدارس الباكستانية ومدارس الازهر. إلا انه بخلاف القادمين من السعودية كفكرت وهدايت، فإن القادمين من باكستان ومصر احتفظوا بروابط فكرية واستراتيجية شبكية مع الحركات الإسلامية المتواجدة في هذه البلدان، والذي انعكس على التعبئة العامة في سلطان بيلي. وقد عززت المراجع المترجمة عن الحركات الإسلامية القادمة من باكستان ومصر وايران ( الى جانب الشبكات العابرة للحدود) من الطابع الديني للمنطقة.
في السياق الأوسع للحركة الإسلامية، يقترن التأسيس الهوياتي غير الرسمي للسكان كالذي يقوم به كل من فكرت وهدايت باستراتيجيات أخرى أكثر مؤسسية، مثل التحرك في المجال العام عبر التركيز على الممارسات اليومية التي تنفذها الصحف والمجلات والندوات. ويمكن رؤية ذلك في الخطاب الذي وجهه عبد الله يلدز للجمهور في سلطان بيلي. حيث كان من بين أحد المتحدثين الرئيسيين في مؤتمر الذي نظمه مجموعة من المثقفون الإسلاميون في المنطقة. وهو أحد المفكرين الإسلاميين المشهورين في تركيا، والمؤلف الرئيسي لمجلة عمران، وهي مجلة تعني بالشأن الديني والسياسي الإسلامي. وفي السنوات الأخيرة كانت مجلة عمران ومن خلفها يلدز من بين أولئك الذين فتحوا طريق للمناقشات الفكرية بشأن الاسلاموية في تركيا وفي سلطان بيلي، حيث جادل يلدز بأن الطريق نحو محاربة الامبريالية هي تطوير وتقوية أسلوب نمط حياة إسلامي:
إن نمط الحياة الإسلامي القائم على الحياء، الاقتصاد، القناعة، العدالة، التوازن، والمشاركة قد يقلق الغرب المنافي لهذه القيم. وهذا ما يفسر عدوانيته تجاه المسلمين. بالنسبة للعبادة فهي تحتل مكانة خاصة كأسلوب للحياة. كذلك هو الحال بالنسبة للصلاة التي تغرس الرهبة في النفوس. اما الصيام فإنه يعلم الشخص الصبر على الجوع اذا اقتضى ذلك. مع التأكيد ان هذا النمط من الحياة الإسلامي لم ينتشر عبر القوة. على سبيل المثال، لم تقم الدعوة النبوية على استخدام العنف، لكن أخلاقه وسلوكياته جعلت الناس تقتاد به. بالتالي اذا اقتضى تقديم على النموذج الى غير المسلمين، فيجب على المرء أولا ان يجاهد نفسه أولا، غير لذك لا يمكن الانتصار ضد قوى الشر (التلفزيون، إلخ). اذا قمنا الى الصلاة ونحن مدركين لمعانيها جيداً، عندها يمكننا هزيمة الامبريالية. وقد سبق الى هذا القول جودت سعيد [مفكر إسلامي سوري] الذي أكد على انه يجب نبحث عن الخطأ في أنفسنا، وليس لدى الغرب، والتغلب على هذا الأخير يكون من خلال مجاهدة النفس أولا.
من خلال ما سبق، لوحظ أن يلدز لم يدعو السكان القاطنين في سلطان بيلي الى مقاطعة “الامبرياليين” أو مهاجمتهم او الاحتجاج ضدهم. بل أمرهم بالعودة الى الدين واتقان معانيه. إلا ان هذه الدعوة كانت ذات معنى قبل هجمات الحادي عشر من سبتمبر، حيث تم تحريفها بعد الهجمات الموجهة للغرب في الآونة الاخيرة (بعض المؤسسات والقطاعات). على الرغم من أن معظم المسلمين (ومن ضمنهم الإسلاميين) يحرمون اعمال العنف المسلحة ضد الغرب. ومع ذلك فغالبا ما يشار الى الممارسات الدينية اليومية الإسلاميين على انهم مثيرة للجدل، مما يطمس الجدل بين ما هو مقبول وغير مقبول. في حين نميل الى رؤية نشاط الشارع الى انه يمثل “تعبئة”، فإن ” تعبئة” الإسلامية تتضمن التغيير في أنماط وايقاع الحياة اليومية. استنباطاً من التجربة النبوية، فإن الإسلاميين يعتقدون أن النموذج النبوي في حياته لم يسعى إلى الفوز والاستيلاء على قلوب (و “هوية”) منافسيه فقط ولكن أيضا على واقعهم اليومي. نتيجة ذلك فإن مقاربة الهيمنة الإسلامية في هذه الحالة ترى أن المواجهة مع الغرب تكون عبر تصحيح الذاتي أولا. مما يسمح بالفاعلين المتدينين بممارسة السلطة على غير المتدينين- ليس بالقوة ولكن عبر القبول.
تقسيم وإعادة تنظيم المجال العام
سيساعدنا تحليل كيفية قيام الحركات الإسلامية بإعادة صياغة استخدام الفضاء الاجتماعي وذلك للتساؤل عن بعض التناقضات الثنائية في دراسة الحركات الاجتماعية. فحسب 1996 Nilüfer Göleتكمن ميزة الثقافة الإسلامية في تركيز عملها على الفضاءات المغلقة التي تجعل هدف الوصول الى المرأة أمر معقد نوعاً ما من حيث امكانية الوصول إليها، هذا من شأنه أن يحافظ على الاخلاق المجتمعية (من خلال ضبط سلوكيات المرأة ونشاطها). نتيجة ذلك، قام سكان منطقة سلطان بيلي بأخذ هذا المبدأ في عين الاعتبار عندما قاوموا ببناء شققهم وحدائقهم عبر احاطتها بجدران عالية، مما وفر للمرأة فضاء للتنشئة الاجتماعية بطريقة لا يمكن ملاحظته من الخارج. أما بالنسبة للذين لم يسعفهم الحظ في توفير بيوت وفق هذه الشروط نظراً لضعف مواردهم المالية، فقد عوضوا ذلك ببناء منازل ذات نوافذ لا تسمح برؤية مافي الداخل، وهناك ميزة معمارية أخرى في بعض هذه المنازل وهي تصميم الغرف، بحيث لا تظهر أبوابها على الفور بالنسبة للوافد من الخارج. نتيجة لهذا التصميم المعماري، فلا يمكن لأي ضيف أجنبي عند زيارة أي عائلة محافظة بمقابلة أحد الأفراد هذه الأسرة من الإناث. هذا النمط المعماري وسلوكيات افراده ميز مدينة سلطان بيلي عن غيرها من مدن إسطنبول الأخرى. في حين ان موقفي كباحث قد فرض علي مجموعة من القيود، رغم ذلك سمح لي موقعي كمدرس في المنطقة بزيارة أولياء أمور الطلبة، مما أدى تجاوز الحاجز المعماري ولو مؤقتا وضمن حدود معينة.
هذا التمايز المكاني هو أحد غايات الاسلمة، من حيث انه يخلق فضاءات جغرافية لمزيد من التعبئة النسوية، حيث تقوم طبقات مختلفة من الممارسات النسائية في المنطقة بإعادة انتاج هذا التكوين المكاني والتفاوض بشأنه. بشكل عام، لا يتجولن نساء العوائل في الشوارع بدون شبكة واسعة من الأقارب. كما ان زياراتهم المنزلية مقيدة، وبالكاد لا يعرف الجيران بعضهم بعض، نظرا لغياب التجول إلا للضرورة، لأنهم يرون في المدينة مكان غير لائق، مما يحول دون الخروج بأنفسهم.
من ناحية أخرى، تقوم النساء اللواتي لديهن شبكات واسعة من الأقارب بزيارات منزلية بشكل متكرر، نظرا لوجود أقارب لهم في جميع انحاء المنطقة. ومن خلال استغلال وجود السوق الأسبوعي في أحيائهم، يلتقي الجيران والاقارب مع بعضهم هناك، كما يقوموا بزيارات قصيرة الى منازل بعضم البعض مع انتهائهم من التسوق.
رغم ذلك، هذه الشبكة من العلاقات لها عيوبها الخاصة، نظرا لأن آليات ضبط النساء تزداد حدة بالنظر إلى بنية المجتمع الواسعة جدا، فعلى النساء الذين يمتلكن شبكة واسعة من العلاقات أن يأخذوا في عين الاعتبار نوايا جيرانهم، من حيث الحفاظ على نظافة بيوتهم لتكون مهيئة لأي زيارة طارئة، فالتفاعل اليومي مع الآخرين يجعل احتمالية زيارة اليومية لأي شخص واردة جدا. و نظرا لأن اغلب المساحات المنزل مهيئة للاستخدام المجتمعي، نتيجة ذلك، من النادر جدا وجود ما نسميه مساحة شخصية في المنزل .
في حين تشعر النساء اللواتي يعشن في شبكات مجتمعية ضيقة بضغوط هذه الشبكات. مما يحول دون الاستمتاع بفوائد الحياة المجتمعية، كما هو الحال بالنسبة لحالة حليمة التي تعيش في مبنى سكني من ثلاثة طوابق. تركها زوجها الذي يشتغل في ورشة صغيرة دون طلاق وتزوج بفتاة أخرى. وفي حين استقر هو في حي آخر، ترك حليمة مع أشقائه وعائلاتهم في عمارتين متقابلتين، مما يفرض عليها مراقبة لصيقة في بيتها وفي الشارع من قبل أقارب الزوج، هذا ما يقيد اتصالاتها وتحركاتها في الشارع في حال تواصلها مع الأجانب. وقد عبرت حليمة عن القيود المفروضة عليها لأنها اخبرتني وعن سبب حثها لولدها (يدرس صف ثامن) بمتابعة دراسته وقالت:
عندما كنت في قريتي سابقا كنت اتجول بكل حرية، لكن منذ قدومي الى هنا لم أستطيع فعل ذلك، نظراً لأنني لم أذهب الى المدرسة، لا يمكنني التجول في المدينة. لا أعرف سوى شارعين فقط من أمام منزلي. أريد ابني أن يتعلم حتى يتمكن من التجول.
نظرًا لوجود تركيز ثابت في الخطاب العام التركي على التأثير الحضاري والتحرير للتعليم، يلوم المهاجرون الريفيون أحيانًا أنفسهم و “جهلهم” على افتقارهم إلى الحرية. غير أن النظام الأبوي ليس هدفًا شرعيًا في الأحياء المحافظة، مما يمنع حليمة من انتقاد القيود التي تفرضها شبكة أقاربها، ناهيك عن التشكيك في الهيكل المكاني العام للمنطقة.
بالنسبة للنساء من العائلات المحافظة، تتمثل احدى استراتيجيات توسيع مساحة الافراد ضمن هذه الضوابط والقيود الى دفع بالتفكير الديني الى استنتاجات منطقية متمثلة في أن الجميع وبغض النظر إذا كان رجل أو امرأة، يجب ان يعملوا لأجل اعلاء كلمة الله. عند تبني هذه الاستراتيجية، فإن المشاركة السياسية للمرأة يتم تمكينها بشكل خاص من خلال التصاميم المعمارية للمنطقة. لتصبح المساحة التي تنتجها الحركة الإسلامية موردا للتعبئة الدينية النسوية. في ظل نظام قائم على التمييز بين الجنسين، لا ينظر إلى مشاركة المرأة في الحياة السياسية العامة على انها تهديد للأخلاق او دعوة الى الفجور. اخبرتني فاطمة الناشطة الشابة في حزب الفضيلة، انها استمتعت بالمنطقة كثيراً كونها تستطيع الذهاب الى كل مكان دون أن يلاحظها الرجال كثيراً، وقد أضافت:
سنختنق لو كنا في مناطق مثل كاديكوي Kadıköy (احد المناطق المركزية في اسطنبول) سنكون مسجونين داخل أربعة جدران. اما هنا فيمكننا الترويح بفضل الأنشطة والسهرات التي يقيمها الحزب (الاسلامي)، يمكننا دائما الخروج والتجول، وقد زرت العديد من المنازل بفضل هذه الأنشطة.
كما اضافت فاطمة أنها اصبحت أكثر انخراطاً في الشأن السياسي بعد ان سمح لها بالتطوع، حيث سمح للمرأة بالخروج والتفاعل مع الآخرين (حتى مع من هم خارج شبكة الاسرة)عبر تنظيم بعض النشاطات الدينية في المجال العام دون وجود أي قيد مكاني أو قانوني يمنع ذلك.
ألقى إعادة تنظيم الإسلامي للفضاء العام في المنطقة بظلال من الشك حول الضوابط المفاهيمية بين تشكيل الهوية والاستراتيجية وبين الثقافة والبنية. بالنسبة لهذه الحالة، يعد التصميم المحدد الذي صاغته التعبئة الإسلامية جزءاً من تكوين للهوية، ولكنه (كما في حالة العديد من الناشطات) يعمل أيضا كمورد لمزيد من التعبئة. وباعتباره انه جزء من الثقافة الإسلامية للمنطقة، فإن الأنماط المكانية التي تم تحليلها أعلاه تشكل أيضا هيكلاً يمكن ويقيد العمل بطرق مختلفة.
تقسيم الوقت وإعادة ضبطه
يقتضي تنظيم الحياة اليومية بالضرورة التحكم في ايقاعها. ففي سلطان بيلي، هناك عامل زمني يميل الى تطبيع هيمنة الإسلاميين وابطال مفعول الدولة العلمانية، على سبيل المثال، تعتبر المقاهي التي يرتادها عمال البناء كأحد الأمثلة في هذا الصدد، حيث يأتي هؤلاء العمال في الصباح الباكر ويتجمعون في شكل حلقات كبيرة حول المقهى، وكلما يعبر صديق معين عليهم يستدعونه ويكرمونه بالقوة او الشاي. وأحياناً يواصلون حديثهم على الأرصفة وبجوار الحائط. وعندما يسمعون الآذان، يذهبون في شكل مجموعات الى المسجد، ويستمر هذا النشاط الى غاية صلاة العشاء، وبعدها يعودون الى بيوتهم. وخلال شهر رمضان، يتأخرون إلى الليل بسبب صلاة التراويح.
بالنسبة لعمال البناء، فإن الوقت بين الصلوات مرهق بالنسبة لهم، وخلال فترة تواجدي هناك، كان قطاع البناء يمر بأزمة حادة في تركيا، نظراً للزلزال الكبير الذي ضرب هذا المجال عام 1999 (بسبب تشديد لوائح تقسيم المناطق)، ثم الأزمة المالية التي تلتها على مستوى البلاد عام 2001. لذا لم يكن التفاعل والنشاط آنذاك موجود في معظم الأوقات. إلا ان الصلاة في المسجد ما بين ثلاث الى أربع مرات في اليوم، جعلت العمال يعبرون عن راحتهم لارتياد المسجد. وقد عبر دورسون Dursun العامل البناء الأربعيني عن امتنانه حول طبيعة الروتين اليومي في المدينة والذي اعطى ايقاعا حسن للحياة وزودهم بشيئ كانوا يريدونه:
كيف يتراجع الدين داخل المجتمع؟ هناك انحراف في المعتقدات خلال السنوات الأربع الماضية، حيث صارت تصرفات الناس تتصرف ونقاشاتهم غريبة. فإما ان يصابوا بالجنون او ينتحرو، لانهم يفتقدون الى الوازع الديني….، أصبحت معدلات البطالة منتشرة. صرنا نجلس هنا [في المقهى] لساعات، دون جدوى… الدين يوجه الناس، يعلمنا ألا نضيع وقتنا في الفراغ، لكن عندما يقوى الدين في هذا الاتجاه، فإنهم يحجبونه !
تمثل وجهة النظر هذه البعد الهيكلي للدين، أي تلك الخاصية المنظمة والجامعة التي، كما أشار اليها إميل دوركهايمEmile Durkheim (1915) تجعل المجتمع ممكنا وتنقذ الناس من عزلتهم وانعدام الهدف من وجودهم. ومع ذلك فإن هذا الوصف يلفت انتباهنا الى محدد أساسي كان غائباً في نظرية دوركهايم حول الدين، ألا وهو عنصر الهيمنة- من خلال التأكيد على دور الفاعلين الذين يحاربون ضد توسع النشاط الديني ( “هم” الجنرالات العلمانيون الذين نفذوا انقلاباً ضد الإسلاميين في عام 1997). غياب هذا البعد في الدين يجعل الجانب الآخر من معادلة الهيمنة والمشار اليه بضمير “هو” مهمش: أي الفاعلون الذين منعهم الجنرالات العلمانيون، والمفترض بهم دفع النشاط الديني الى الواجهة، نتيجة ذلك قام الإسلاميون بتطبيع سلطتهم على العمال مثل دورسون Dursun من خلال إعطاء هدف واتجاه لحياتهم عبر بناء روتين يومين بديل.
يقتضي إيجاد روتين يومي بديل هيكلة مجتمعية تسعى إلى الهيمنة ولكن ليست بالمفهوم الميكانيكي: ففي سلطان بيلي تبنت جهات فاعلة مهمة هيكلة المجتمع بطرق معينة، وهؤلاء هم المتخصصون الدينيون (الأئمة والمعلمون في المدارس الدينية) والاسلاميون. وبدء نشاط هؤلاء في المساجد والمقاهي وأماكن العمل ومقرات الحفلات، مطالبين عامة الناس بالحفاظ على صلوات الجماعة والحرص على الالتزام بها بشكل منتظم. وهذا تحسباً في حالة وصول الإسلاميين الى مناصب قيادية في السلطة، تصبح هذه الدعوة وهذا التنظيم المهيمن للممارسات اليومية مع مرور الزمن أكثر تنظيما وتوافقاً وذو طابع رسمي، بحيث يمكن رؤية تجلياته في الممارسات البلدية.
في بلدية سلطان بيلي، اعتبرت صلاة الجماعة جزءاً لا يتجزأ من الحياة اليومية. فتقريبا يستغل العمال فترات الراحة المنتظمة لأداء صلاتهم. واكثر من ذلك، عندما يكلف أرباب العمل المحسوبين على التيار الإسلامي عامل معين بأداء مهام معينة تقتضي التنقل بعيداً فغالبا ما يستفسرون عن أداءه للصلاة أم لا قبل تكليفه بالمهمة. وقد ابدى عمال البلدية ان الحفاظ على صلوات الجماعة سيكون من المستحيلات في المؤسسات الرسمية الأخرى. لذا ما روج له قيادات التيار الإسلامي على ما كان واجب في مكان آخر، قد أصبح حقاً هنا: تشكل اذا مواقيت الصلاة حالة طبيعية (أمر إلاهي) لدعوة المسؤولين، وهي حدود خفت من نبرة أوامرهم. عندما يتم دمج الصلاة بانتظام، يمكن للإسلاميين الاعتماد على هذا الدمج لتأسيس هيمنتهم، بدلا من فرض نظرتهم العالمية بشكل جرئ. في حالة البلدية المحلية، على الأقل، فإن السعي لبناء همينة هوياتية للاسلاميين قد آتى أكله: وهو وجود تنظيم واسع يضبط حياة الناس بطريقة إسلامية، بالتالي شكل استهداف الحياة اليومية للأفراد يتردد في مؤسسات الدولة.
ورغبة من سكان المدينة في رؤية روتينهم اليومي يتجلى على نطاق واسع، فقد عبر البعض منهم على ضرورة سن قانون تسمح لهم بالصلاة في وقتها وتطبيقه على المستوى الوطني. في هذا الصدد وتحديدا بعد صلاة الظهر انضممت الى محادثة أحدث بين عمال البناء، وكان احد العمال الذي اشتغل في السعودية لما يربوا عن أربعة سنوات يشيد السعودية، حيث قال:
لديهم بلد رائع. الجمعة عندهم تعتبر يوم عطلة. لا يمكنك القيام بأي عمل في يومها. أكثر من ذلك، وعند سماع الآذان فيجب عليك انهاء العمل والتوجه للصلاة، وإلا فإنهم يقتادونك للشرطة، وإذا كان لديك عذر، فيمكنك غلق المحل والانتظار حتى ينتهي الجميع من الصلاة. انظرا الى بلدنا: هنا يطردون الرجل الذي يصلي صلاته!
ورغم أن هذا التوصيف للنظامين السعودي والتركي لم يكن دقيقًا الى حد ما، فقد لمح العمال الآخرون الى تأكيد ذلك، مؤكدين المنظور السياسي الذي تنقله هذه الصورة. وبالمثل ، عمل بعض عمال البناء في المملكة العربية السعودية لصالح شركات تركية أو شركات أخرى. كما تمنوا ان يكون ذلك نفسه في مدينة سلطان بيلي. ومع ذلك ، لا يمكن لأي تنظيم او حزب التعبير علانية عن وجهة نظر هذه، لأن الدفاع عن دولة إسلامية أو تطبيق الشريعة الإسلامية غير مسموح به في تركيا. على الرغم من هذا الحاجز، أعاد الإسلاميون إنتاج الرغبة في سلطة الدولة في الغالب من خلال المحادثات غير الرسمية في المقاهي وأماكن أخرى.
وعليه، فإن التعبئة الإسلامية لا تتعلق فقط بالنزول الى الشارع، بل بتشكيل وعي الفاعلين عبر الزمن، والاسلاميون (جنباً الى جنب مع رجال الدين المرخصين) في سعيهم الى تنظيم الوقت لأجل تغيير الهوية من شأنه ان يعزز الرغبة في الوصول الى السلطة، لكنه يدفعنا الى تجاوز أي استقطاب بسيط بين الدولة والمجتمع من جهة، ومن بين االواقع السياسي والاستراتيجية الهوياتية من جهة أخرى. لأنه فقط من خلال سيطرة الدولة يمكن تطبيع الممارسات التي تنظمها الحركة الإسلامية بشكل حاسم.
تجربة الإسلاموية الطويلة عبر المؤسسات
إن التعبئة التي تمت دراستها أعلاه تتركز في الغالب في القنوات “المجتمعية”، على الرغم من أنها تمتد إلى الدولة. ومع ذلك، فإن التأثير الإسلامي على الحياة اليومية يتجلى أيضًا على المستوى المؤسسي، مما يؤثر على الانشطة التفصيلية للمساجد سواء الرسمية او الغير الرسمية، وكذا المكاتب البلدية وغيرها من المكاتب العامة. هذا التنافذ الغير الرسمي إلى الدعوات الرسمية يثير التساؤل عن المعارضة الحاسمة بين الحركات الاجتماعية التي تنتظم عبر قنوات رسمية وتلك التي تتشكل من خلال شبكات مشتركة الغير الرسمية (ميلوتشي Melucci 1989 ؛ ويكتوروفيتش 2001 Wiktorowicz 2001 )[1].
توظيف المساجد
تعتبر المسجد أحد البؤر المحورية في النقاشات حول المعاني والممارسات الدينية في تركيا. حيث تستخدم الدولة هذه المساجد لتمرير مختلف الرسائل العلمانية والقومية. كما تولي السلطات المركزية عناية خاصة للتأكد من أن خطب الجمعة تنقل الرسائل القومية والتفسيرات الحداثية للإسلام إلى المجتمع الديني وعلى رأسها المساجد بطريقة “يتردد صداها”(ٍSnow & Benford 1988). بالتالي أضحت خطب الجمعة هي أيضا موقعاً للخلاف في الأوقات الحساسة، مما يجعلها مركزية لإعادة إنتاج خطابات العلمانية.
ومن الأمثلة الواضحة على ذلك خطبة الجمعة التي ألقيت في مسجد السلطان بيلي المركزي خلال الاحتجاجات المناهضة للولايات المتحدة في جميع أنحاء تركيا، كنتيجة للتفجيرات التي حدثت أفغانستان. وانتظرت ثماني حافلات صغيرة وحافلة بلدية ودبابتين من نوع بانزر Panzers مليئة برجال الشرطة المسلحين أمام المسجد المركزي. وكانت خطبة الإمام تهدف إلى تسكين المجتمع الذي استفزته العملية العسكرية بقوله:
“حدثت الحروب في زمن النبوي، وحدثت بعد وفاته أيضا. وسيحدث نفس الأمر بعدنا. الشيء الذي يجب على المسلم أن يفعله هو أن يصلي من أجل أولئك الذين يعانون من الظلم [عنف غير مستحق أو قمع] والحروب. ولن يحدث شيء بالصياح والصراخ”.
لقد وظف الإمام مثل كهذا خطابات بنبرة أبوية ناعمة، كما لو كان أستاذ يتحدث إلى الطلاب العاطلين، ومتأكدًا يقيناً من التأثير الذي سيحدثه. نتيجة ذلك لم يسبب الحشد الكبير أي متاعب للشرطة بعد نهاية الخطبة، وإن كان قد أثار بعض الغضب لدى الإسلاميين المتشددين الذين حضروا الخطبة، أو الذين سمعوا عنها بعد ذلك. لكن لم يكن بوسعهم فعل أي شيء لموازنة سلطة الإمام. بالتالي فمثل كهذا استخدامات لسلطة المسجد: أي التعبئة الإسلامية الأولية وإعادة السلطة العلمانية: من شأنه أن يطبع الوضع القائم ويعيد إنتاج طاعة الدولة.
في نفس الوقت، يُسمح أحيانا للمساجد المركزية تقديم بعض التنازلات بين الحين والآخر من أجل الحفاظ على حشودها. ويمثل أضمن طرق لإدارة الاستياء وذلك عبر السماح لممثلي الجماعات التي تبدو معارضة بإسماع صوتها في خطب الجمعة. على سبيل المثال استخدم زعيم جماعة السليمانجي (أحد اتباع النقشبندية) في سلطان بيلي هذه المساحة السياسية لمهاجمة تدخلات رئيس البلدية خلال خطبة الجمعة في عام 2000 قائلاً:
“يتفاخر رئيس البلدية بأنه: “لم يترك شخصًا واحدًا يسير في شوارع سلطان بيلي بعمامة أو رداء تقليدي أو شالفار [بنطلون فضفاض تقليدي]. لقد تركت مدرستين فقط للقرآن، وأغلقت الباقي “. أي نوع من الإحساس بالواجب هذا؟ … وصل هذا الرجل إلى السلطة بتصويتك [مما يعني ضمناً الأحزاب القومية التي عينت رئيس البلدية]. إنك ، يا من أتيت إلى هنا للصلاة، قد جلبت إلى الخدمة رجلاً لا يسجد لله، سوف يدعوك الله في يوم القيامة ويحسابك على ذلك! لماذا انتخبتهم عدوا الدين إلى السلطة؟ “
أُعتبر خطاب زعيم جماعة السليمانجي (إحدى أقوى الجماعات الإسلامية في تركيا)، فيما يخص مهاجمته لرئيس البلدية المُعين بسبب سياساته التي استهدفت التعليم الإسلامي واللباس الإسلامي تحدياً جدياً. كونه وضع رابط مباشر بين التصويت ويوم القيامة، وبين الدولة والدين، واقترح مقابل ذلك أن لا يصوت المجتمع للأحزاب القومية[2]. مشيراً ضمنيًا إلى أن الرجال المتدينين فقط هم من يصلحون للمناصب المهمة كرؤساء للبلدية.
تكشف خطب إمام المسجد المركزي وزعيم جماعية السليمانجي (الإمام الضيف) عن بُعد واحد للتعبئة الدينية. هذا هو المستوى الذي يكون فيه الدين سياسيًا بوعي وصراحة. إما أن تستخدمه الدولة كمادة أخلاقية لتهدئة الغضب الجماهيري، أو تستخدمه المعارضة الدينية كمصدر للتعبئة السياسية ضد أصحاب السلطة، كما اقترح عمل موريس Morris (1984). في هذه الأمثلة، يتم استخدام الدين بشكل فعال لإنتاج قوة علمانية وإسلامية. الدين هو بالفعل “مورد” استراتيجي وفعال في بعض السياقات.
استهدفت الدولة الاستخدامات المثيرة للجدل بشكل واضح للمسجد أكثر من أي وقت مضى بعد انقلاب 28 فبراير 1997. بينما كانت الأموال تُجمع كل يوم تقريبًا أمام المساجد (لأجل بناء مدارس القرآن، أو بناء مساجد أخرى، إلخ ) ، بعد أن تم تقييد جمع الأموال رسميًا مرة كل أسبوعين. مطلوب إذن من مديرية الشؤون الدينية لجمع الأموال. ومع ذلك، تم كسر هذه القواعد في العديد من المساجد واستمر المجتمع في المساهمة في الأنشطة الدينية. بعد عام 1997، كانت السيطرة على خطب الجمعة مشددة للغاية. في مناطق مثل سلطان بيلي، حيث يعمل أئمة العديد من المساجد في المجتمع بدلاً من تعيينهم من قبل الدولة، كانت هذه السيطرة مثمرة جزئيًا. اهتم المسلمون غير الإسلاميين بشكل خاص بحضور خطب الجمعة في المساجد المركزية مع الأئمة الرسميين. ومع ذلك، بذل الإسلاميون في المواقع المركزية جهدًا كبيرًا للذهاب إلى المساجد مع الأئمة العاملين في المجتمع، وعندما يكون لديهم الوقت للمشي أو إذا كانت لديهم سيارات. استغل الإسلاميون هذه “الفرص” لنشر مطويات تحكي على الدين. يمكن تحليل الدين ودوره في الحركات الاجتماعية (والضغط الرسمي على الحركات) على هذا المستوى (الاستراتيجي بشكل فعال) باستخدام الأدوات التي توفرها نظرية الفرصة السياسية (على الرغم من أن باحث في الحركات الاجتماعية الجديدة يمكن أن يجادل بشكل معقول بأن هناك قضايا هوية غير فعالة متضمنة في هذه الأمثلة).
ومع ذلك، هذه ليست سوى جزء من الحقيقة. فالمعركة على الدين ليست فقط معركة للسيطرة على مورد قيم، ولكن أيضًا حول تنظيم المبادئ الهيكلية للحياة اليومية. تتضمن الهيمنة الدينية القدرة على تطبيع (أو تجريد) بعض الترتيبات الاجتماعية، والتي تجمع معها تطبيع علاقات قوة معينة. وبالتالي، سيكون من الحكمة أن ننظر ليس فقط إلى ما إذا كان الأئمة يمثلون أحزابًا ومنظمات معينة (بدلاً من الدولة العلمانية) وكيف يتبنون أفكارها، ولكن أيضًا في كيفية تطبيع العلاقات الاجتماعية أو إبطالها مثل أماكن تواجد الرجال والنساء في الحياة الحضرية.
حتى أن العديد من الأئمة المعينين ركزوا في كثير من الأحيان على الفصل بين الجنسين. على سبيل المثال، خلال خطبة جمعة واحدة ، قام الإمام المعين رسميًا لأحد أكبر مساجد المنطقة بالخطبة على النحو التالي:
يا أيها الناس! – لا تدخلوا بيوت النساء الذين ليس أزواجهن فيهن. لا تضع نفسك في موقف مدعاة للزنا. تأكد من أن نسائكم يتسترن في ملابس محتشمة. لكن لا تنس أنه يجب عليك أيضاً اخي المؤمن ان تغض بصرك أولا [تجنب النظر إلى النساء]. [علاوة على ذلك] ليس الحجاب من واجب النساء فقط. لذلك فإن العكس هو الصحيح أيضًا: يجب أيضًا الحرص على اللباس المحتشم بالنسبة للرجل كما يجب على النساء غض بصرهن. … الدولة لا تقوم بواجبها. على سبيل المثال، في المدارس الثانوية، يجلس الأولاد والبنات بجانب بعضهم البعض! هذه دعوة لارتكاب الذنوب. لذلك، على الأقل، يجب عليكم، أيها المؤمنون، أن تفعل ما يجب فعله وأن تنتبه إلى موضوع السترة.
تسببت مثل هذه الخطب الشائعة كثيراً في مساجد مدينة سلطان بيلي، والتي كانت تنتشر في توقيت زمني واحد، إلى إبطال الترتيبات المكانية لنظام التعليم الرسمي (والمدينة بشكل عام)، في مقابل تطبيع الترتيبات الإسلامية فيما يخص الملابس، وكذا فرض سيطرة الرجال المسلمين على النساء المسلمات، وإعادة تحديد دور الدولة. أعيد تعريف واجب الدولة على أنه فرض الفصل بين الجنسين. وضمنيًا، كان يُنظر الى إعلان الدولة العلمانية على انها غير شرعية. لذا اقتضى التنظيم الكامل والسليم للحياة اليومية إعادة تنظيم الدولة. تجسد هذه الآليات المتشابكة إعادة تشكيل للهيمنة؛ أي إعادة تنظيم السلطة من خلال إبطال أنماط الحياة اليومية الراسخة وتشكيل روتين يومي بديل.
كان تنظيم الحياة اليومية هذا أكثر وضوحًا في المساجد التي بها أئمة غير معينون رسمياً. ففكرتFikret ، تاجر العقارات المتشدد، كان من بين السكان غير الراضين تمامًا عن إمام المسجد المركزي. وكثيراً ما ذهب هو وأصدقاؤه إلى المساجد البديلة في المنطقة لدعم الأماكن الدينية غير الرسمية. في أحد أيام الجمعة، تم دعوتي للذهاب إلى أحد هذه المساجد، وقال لي “سنكسب المزيد من [الجدارة].” انضممنا إلى شريكه في العمل وخريج لاهوت حديث (مرتبط بهم من خلال مجموعة دراسة القرآن) وذهبنا إلى مسجد في أحد أحياء سلطان بيلي النائية، وقد كانت مزدحمة جداً بسبب الكثافة، كان الناس يدوسون على أقدام بعضهم البعض، وهو موقف قد يواجهه المرء مرة او مرتين فقط خلال السنة في المساجد العادية (أثناء صلاة العيد ) كانت الأماكن مزدحمة لدرجة أن الناس بالكاد تستطيع الصلاة. كان المسجد نفسه لا يزال قيد الإنشاء، وكان من المدهش رؤية الكثير من الأشخاص المستعدين للتواجد هناك في ظل هذه الظروف القاسية. كما هو موضح أدناه، يعطي الأئمة العاملون في المجتمع رسائل مختلفة نوعًا ما عن الأئمة المعينين ليس فقط على المستوى السياسي ولكن أيضًا على المستوى الشأن اليومي. كان الإمام (وهو كردي ذو لحية طويلة) صارمًا للغاية. بشر بنبرة صاح:
تحاول الدولة غرس دين إنساني تحت ستار الإسلام. إنها تطلب منا احترام غير المؤمنين، بينما لا يجب أن نحترمهم … المسلمون نسوا الشريعة، وهم يوظفون نساء عاريات صارخات [نساء تنورات قصيرة وبلوزات بلا أكمام] لجذب الزبائن. ولكن، ليست هناك حاجة لأن نكون أصدقاء أو نتعامل مع عملاء غير مؤمنين [mümin olmayanlar]، الذي من المفترض أن ينجذب إلى هؤلاء النساء] …. يجب على المسلمين أسلمة محيطهم. الإسلام ليس دينًا يمكن أن ينحصر في المسجد. بل يجب عليه أن ينظم الحياة ككل، في مكان العمل، في المباني السكنية، في توظيف الناس وشؤونهم.
يكمن الأساس المنطقي للدولة العلمانية في عدم السماح للأئمة بكتابة خطبهم الخاصة على وجه التحديد نظراً لميل العديد من ائمة الصلوات إلى تطبيق نظام اجتماعي يتعارض بشكل أساسي مع النظام الذي تعتمده الدولة. يرى كل من الإسلاميين الذين حضروا الى المسجد وكذا فاعلين الدولة الذين يحاولون السيطرة على هذه الخطب أن هذه الخطب (وأيضًا الذين حضورها) تخريبية للدولة، حتى وان كانت لا تمس القضايا المرتبطة بالآداب العامة. وذلك لأن هذه الخطب تنشر تفسيرًا للإسلام يعيد ترتيب الحياة بشكل مهيمن على جميع المستويات (احترام الآخرين، الملابس، خيارات العمل، الصداقة، المسؤوليات الاجتماعية… إلخ) كما تعزز ريادة المرشدين الدينيين كبديل لهيمنة الموظفين العلمانيين.
لقد بحثت في نوعين من استخدامات المساجد في هذا القسم. الأول سياسي علني، حيث تستخدم فيه كل من الدولة والإسلاميون خطب الجمعة لتمرير رسائل سياسية، أو لتعبئة السكان. وذلك بهدف إعادة إنتاج “المعنى” والممارسات اليومية وكذلك تطبيع القضايا المتعلقة بالحرب، وأنواع المحددة من الملابس، وتوقعات التقوى من الحكام، وما إلى ذلك. ومن شأن هذه السياسة العلنية أن تؤسس للهيمنة. أما التعبئة من النوع الثاني وهي الاستخدام أكثر دقة وأقل إدراكًا، ولكنها ليست أقل واقعية؛ وهي تكوين الفاعلين من خلال تنظيم الحياة اليومية. كما رأينا أعلاه، فإن هذا التنظيم أكثر صرامة في المساجد التي يسيطر عليها ويتردد عليها الإسلاميون. وهنا نرى أن الإسلاميين يحشدون ليس بمعنى النزول إلى الشوارع، ولكن عبر “السياسة السرية” لتردد المساجد حيث يتم تنظيم الحياة الاجتماعية في الاتجاه الإسلامي، وجذب الناس إلى هذه المساجد. ومع ذلك، حتى هذه المحاولة لتنظيم الحياة اليومية لا تتعلق فقط بـ “المجتمع” باعتباره منفصلًا عن الدولة بل تدعو أيضًا إلى إعادة هيكلة الدولة وسياساتها على السواء.
النتائج التي توصلت إليها تتوافق إلى حد كبير مع دراسة صبا محمود حول التعبئة الإسلامية في مصر. حيث حاججت صبا (2005) بأن الحياة اليومية مسيسة بعمق في الشرق الأوسط الحديث، وأي تحول في هذا المجال يدفع للتدخل السلطوي. على سبيل المثال، تشير إلى أنه سيكون من الخطأ اعتبار النساء المنخرطات في “حركة المساجد” المصرية (حركة تقوى شعبية) بأنها حركة غير مسيسة. مع تسييس الحياة اليومية بعمق، فإنهم وضعوا سلوكهم على التضاد مع المشروع العلماني الليبرالي للدولة. لذلك وجدت الدولة نفسها مضطرة لتنظيم حركة المساجد التي تنشط فيها هذه الحركات (عن طريق تأميمها أو تدريب أئمتها رسميًا) أو إغلاقها في حالة الضرورة.
ومع ذلك، فإن التمييز الذي قامت به صبا محمود بين “الإسلام السياسي” للأحزاب وتدين الحركي في المساجد صارم للغاية؛ فبالنسبة للأول فهو يدافع عن الحجاب (كرمز) لبناء دولة إسلامية، أما الثاني فإنه يدافع عن سلوكات الأخلاقية. يمتد هذا التمايز الى استخدامات يومية لرموز وقضايا أخرى كالحجاب على سبيل المثال. أما في تركيا فإن كلا من الأحزاب الإسلامية والشبكات المجتمعية تقوم تستخدم الإسلام في كلا الاتجاهين: فقد ناضلوا لأجل بناء نظام إسلامي وفي نفس الوقت من اجل تنظيم الحياة اليومية، لذا أزعم ان هناك ربط وليس فصل حاد بين كلا النشاطين.
المسؤولون العلمانيون والدينيون: الواجب والمعتقد
العلاقة بين التعبئة داخل الدولة وخارجها تبدو أكثر وضوحاً وجاذبية عندما يتعلق الأمر بممارسات المسؤولين، في سلطان بيلي، كانت الممارسات اليومية للمسؤولين في البلدية والحكومة هي بؤرة التدقيق العام. فالمسؤولون كانوا مهتمين الى حد كبير بتسويق سلوكات ” صحيحة” عن انفسهم. وأحد الأمثلة على ذلك الزبير الذي كان أحد كبار المسؤولين في بلدية سلطان بيلي ومن أشد المؤيدين لحزب الفضيلة. فالرجل الأربيعيني كان قد تخرج من مدارس الدينية المشهورة. وعندما زرت بيته ذات يوم في شهر رمضان، وجدته يجود القرآن في احد قنوات الراديو ويتابع بأصابعه وعينيه خلال القراءة. وبعد أن وجدته منغمساً، أخبرته أنه يمكنني الحضور لاحقًا.
تجدر الإشارة إن متابعة البرامج الإذاعية والتلفزيونية التي يبثها المذيعون خلال شهر رمضان فرصة فريدة، حيث أن قراءة القرآن (خاصة في اللغة العربية الأصلية) لها ميزة كبيرة في الإسلام خلال الشهر. ويعتبر الانتهاء من الختمة بمثابة ثواب عظيم يتلقاه المسلم. وبعد ان أوشك على الانتهاء، أردت ان اطرح عليه بعض الأسئلة الخلافية، رفض ذلك وقال “لا” دعونا نخرج من أي تأثير محتمل في العلوم الاجتماعية.
[1] . هذه المعارضة الثنائية لها تاريخ معقد في دراسات الحركة الاجتماعية. أكد تيلي (1978) وآخرون لأول مرة على أشكال العمل الجماعي المنظمة والعقلانية التي ظهرت في القرن التاسع عشر (واختلفت عن التجمعات غير الرسمية للتعبئة قبل الحداثة) كرد فعل على منظري السلوك الجماعي الذين ركزوا على سلوك الجماهير “غير العقلاني” (على الرغم من كما درس بلومر وسملسر وتورنر وكيليان أيضًا إضفاء الطابع المؤسسي النهائي على مثل هذا السلوك). أعاد علماء الحركات الاجتماعية في وقت لاحق الشبكات غير الرسمية مرة أخرى دون الإشارة إلى أنها غير عقلانية ، لكنهم احتفظوا أيضًا بمعارضة ثنائية بين التعبئة الرسمية وغير الرسمية.
[2] . لقد استخدمت تسمية “المعارضة على ما يبدو” لهذا الجماعة، لأن موقفها من الدولة معقد والمظاهر قد تكون مضللة. على سبيل المثال ، كانت إحدى المفارقات فيما يتعلق بهذه الخطبة هي الدعم الانتخابي للمجتمع المحلي لأحد الأحزاب التي وصلت إلى السلطة بعد انتخابات عام 1999. علاوة على ذلك، لن يتم إعطاء مجموعة معارضة حصرية صوتًا مماثلًا في المساجد الرسمية.
Good day! I could have sworn I’ve been to this website before but after checking through some of the post I realized it’s new to me. Nonetheless, I’m definitely happy I found it and I’ll be book-marking and checking back frequently!
Exceptional post however , I was wanting to know if you could write a litte more on this topic? I’d be very thankful if you could elaborate a little bit further. Cheers!
Good day very nice blog!! Man .. Beautiful .. Wonderful .. I’ll bookmark your site and take the feeds alsoKI am happy to seek out so many helpful information right here in the put up, we’d like work out more techniques on this regard, thank you for sharing. . . . . .
This is really interesting, You are a very skilled blogger. I’ve joined your feed and look forward to seeking more of your excellent post. Also, I’ve shared your site in my social networks!
great issues altogether, you simply received a new reader. What could you suggest about your post that you made some days ago? Any sure?
I’m really impressed with your writing skills as well as with the layout on your blog. Is this a paid theme or did you customize it yourself? Either way keep up the excellent quality writing, it’s rare to see a great blog like this one nowadays..
Wohh exactly what I was looking for, thanks for posting.
I just could not go away your website before suggesting that I actually enjoyed the usual info an individual supply to your visitors? Is going to be back ceaselessly in order to inspect new posts.
I truly appreciate this post. I’ve been looking all over for this! Thank goodness I found it on Bing. You’ve made my day! Thank you again!