العلاقات الدولية وفلسفة الأخلاق من منظورٍ إسلامي
د. عبدالحق دحمان
مركز المجدد للبحوث والدراسات
يَرجع الكثير من الباحثين والمفكرين عند الحديث عن نشأة الفلسفة الأخلاقية في العلاقات الدولية إلى المدرسة المثالية التي برزت كتوجهٍ فكريٍ يُحاول ضبط الأوضاع والتفاعلات الدولية بعد الحرب العالمية الأولى انطلاقاً من مقاربات تُركّز على البُعد القانوني والمؤسساتي والقيمي، وحتى دارسي العلاقات الدولية كتخصصٍ في المعاهد والجامعات العربية يُركّزون على هذا التوجه خُصوصاً مع وجود التبعية الفكرية والأكاديمية لأمريكا وبريطانيا في هذا التخصص، ونادراً ما نجد جامعاتٍ أو معاهدَ تُحاول الابتعاد عن هذه المركزية الغربية قصد البحث عن حقيقة ومكونات الفلسفة الأخلاقية في العلاقات الدولية، مُهمشين (عمدي، أو دون قصد) بذلك الفكر الإسلامي باعتباره السبّاق للمناداة بالأخلاق في العلاقات الدولية ببعدها الروحي والنظري والممارساتي، فقيمٌ مثل العدالة، ونُصرة المظلوم، وعدم الاعتداء على الغير بدون وجه حق، واحترام الديانات الأخرى، والتعاون، ومراعاة حقوق الأسرى، كُلّها مبادئ ومعطيات ارتبطت بالفكر والواقع الإسلامي منذ بدايات الرسالة المحمدية في مكة والمدينة المنورة.
إن هذه القابلية للاستعمار أو التبعية الفكرية كما أشار إليها ابن خلدون ومالك بن نبي ناتجةٌ عن ولوع المغلوب بالغالب، وإعجاب المجتمعات الضعيفة بالقوي، فتُحاول إدراك الغير، واتباع أفكاره، ومبادئه ،وقيمه دون البحث عن حقيقتها، وما تتضمنه مع معطيات سوسيوثقافية واقتصادية وسياسية تختلف عن الغالب مما يُحدث أزمةً فكريةً في العالم الإسلامي والعربي –فجوةً بين النظري والواقع- ، لذلك ينبغي البحث في تراثنا وتاريخنا وواقعنا الفكري عن تفسيراتٍ كافيةٍ للكثير من المتغيرات حتى يتم التقليل من الهوة بين البيئة والفكر.
عند رصد حيثيات بداية الدين الإسلامي سنُلاحظ ونلتمس الكثير من الودّ والرحمة والتسامح بإنسانيته الشاملة من حيث الجغرافيا والبشر دون أي تمييزٍ ، فهي لم تكن مُقتصرةً على شعبٍ من الشعوب، كما هو الحال للديانة اليهودية، والتي أتت إلى بني إسرائيل فقط، ويرون أنهم شعب الله المُختار، ولا الديانة المسيحية التي جاءت لقوم عيسى عليه السلام[1].
ويتميز النظام الأخلاقي الإسلامي عن غيره بعدة نقاطٍ أبرزها، أولاً بأنه ذو طابعٍ إلهيٍ، بمعنى أنه مراد الله سبحانه وتعالى، وثانياً بأنه ذو طابعٍ إنسانيٍ؛ أي أن للإنسان كذلك جهدٌ ودخلٌ في تحديد القواعد والمبادئ والسلوكات الأخلاقية حتى يتمكن من التعامل وفقها مع بقية أفراد المجتمع والشعوب الأخرى.
فالأخلاق في الإسلام ليست فقط فلسفةٌ نظريةٌ كما تُنادي بها بعض المدارس على أساس نهجٍ مثاليٍ ” يجب أن يكون”، وإنما هو نظامٌ يتكامل فيه الجانب النظري مع التطبيقي أو العملي، وهو ليس جُزءاً منه، وإنما جوهر الإسلام، وروحه في مختلف جوانب الحياة. ومن جانبٍ آخر، فعند دراسة بعض المدارس أو التيارات الفكرية سنجد أن الإسلام تجاوزها في مسألة أنه لم يُبنى على مذهبٍ أو إيديولوجيةٍ أو مصالحٍ فرديةٍ، ولا عوامل بيئية تتبدل وتتلون فيها الأخلاق كونها مرتبطةً بالدين والبعد الإنساني قبل كل شيء، وهي أساسُ تعامل الأمة الإسلامية مع الأمم الأخرى، فالأمة الإسلامية لا تبني علاقاتها فقط من خلال المنافع والبعد المادي كما يدّعي الليبراليين في حديثهم على أن البعد الاقتصادي هو أساس التعاون والسلام بين الدول، وإنما ترى أيضاً في عناصر مثل العدالة والثقة وعدم الظلم والإخلاص والتراحم على أنها جِدُّ مهمة في التفاعلات الدولية، فالشعوب محتاجةٌ كذلك إلى نظامٍ خُلقي يحول دون غلبة الميول والنزعة الشريرة الهوبزية التي من شأنها أن تُشجع على الصراع واستخدام القوة بين الدول، فالإسلام يُدرك بأنه لو غاب الحس الأخلاقي ، وسادت الكراهية والمصلحة والفساد والتعدي على الحُرمات، وتلاشت المعاني الإنسانية في الحياة، فإن ذلك بلا شكٍّ سيجعل الفوضى الأمنية تسود بين الشعوب.
وتتمثل أبرز القيم التي ركز عليها الإسلام في العلاقات الدولية كثوابتٍ فيما يلي:
_ العدل: دعا الإسلام إلى تبني هذه الصفة الخلفية الكريمة التي تعني التزام الحق والإنصاف في مختلف شؤون الحياة دون أي تمييزٍ بين البشر من حيث الرتبة أو اللون أو المذهب، وغير ذلك ، واعتبر أن استقامة الأمة تنطلق من هذه السمة الثابتة، ولا يجوز كذلك ظلم الآخرين أو التعدي عليهم، وإنما يجب توطيده وإرساؤه في التعاملات مع الشعوب الأخرى، حتى يتم إدراك مدى سمو هذا الدين، وكذلك إقرار السلام والأمن والاستقرار [2].
_ الحرية: قد يكتب البعض بأن التراث العربي والإسلامي لم يعرف الحرية بالمفهوم الحديث والمعاصر، الذي نُقل إلينا من الغرب بعد الثورة الفرنسية، وإن الحرية تعني فقط عدم الرق أو الاستعباد لدى العرب، لكن في حقيقة الأمر، لكنها في الحقيقة من القيم السامية التي عظّمها الإنسان التي تعني رفع القهر والظلم والاستعباد عنه، ومنحه حرية الفكر والمعتقد والحرية المدنية، وغيرها من الحريات الأخرى، ولا يقبل الإسلام إكراه الأمم الأخرى أو الشعوب على اعتناق الدين، فمن دخل دار الإسلام يُطبّق عليه ما يُطبّق على المسلمين كافةً، وإذا كان صاحب دينٍ آخر ، فلا يُفرض عليه ما يُفرض على المسلمين، ولا يُحرّم عليه ما يُحرّم على المسلمين[3] .
وتقضي الحُرية كذلك دحر الإنسان من الاستبداد والاستعمار الذي يسلب خيرات البلاد بالقوة وينتهك حُرمات البشر، ويعتدي عليهم ، ويُسلّط عليهم عقوبات وجرائم، كون الإنسان يدعوا إلى نصرة المظلوم وعدم إيذاء الآخر[4].
- عمل الصالحات والخير: بمعنى يجب على الأمة المسلمة أن تكون طليعة الأمم في الأمر بالمعروف، وكل ما من شأنه أن يشمل كل الإصلاح والصلاح والعمل الحسن، دون الإضرار بالأمم الأخرى أو نهبها أو ظلمها.
- أداء الأمانة والوفاء بالعهد: من أخلاق الدولة المسلمة أداء الأمانات إلى أهلها، بغض النظر عن طبيعتهم، وأصلهم، وعدم خيانتهم، فهي محرمةٌ لما لها من آثارٍ سيئةٍ على الأمة وسيرتها، كما نصّ الدينُ الإسلامي الأمةَ الإسلاميةَ على الوفاء بتعهداتها وعدم الغدر بأهلها[5].
وفي الأخير نستنتج بأن مقاربة الأخلاق التي نادى بها الإسلام مُتجذرةٌ منذ ظهوره، إذ سطّرت أبرز أُسس تعامل الأمة الإسلامية مع الشعوب والأمم الأخرى، فالعلاقات الدولية لا تقوم على أساسٍ ماديٍ فقط، أو مصلحي كما يدّعي أنصار العديد من المدارس الغربية في العلاقات الدولية خاصةً عند الحديث عن المدرسة الواقعية والليبرالية.
ومن جانبٍ آخر، فإن الادّعاء القائم في الفلسفة الغربية المهمش للأصوات الفكرية الإسلامية، حول أصل الفلسفة الأخلاقية كمنظورٍ وتصورٍ يُحاول ضبط ومأسسة العلاقات الدولية لم يكن وليدَ المدرسة المثالية التي نشأت بعد الحرب العالمية الأولى كمحاولة منها لأخلقة العلاقات الدولية بعد الدمار والحرب الذي شهده العالم آنذاك، وإنما اجتهد الفكر الإسلامي قبل ذلك بقرونٍ في أخلقته لأن أساس بناء العلاقة مع الشعوب الأخرى يحكمه البعد المادي، وكذلك الأخلاقي الذي يتمثل في مجموعة من المبادئ والضوابط مثل: العدالة، نُصرة المظلومين، الحرية، احترام الشعوب الأخرى، التراحم، الإيفاء بالعهود، وغير ذلك،
وفي هذا الصدد تقول المستشرقة لورا فيشيا في كتابها “دفاع عن الإسلام”: ” إن الإسلام لم يكن قط عقبةً في سبيل الكمال الخُلُقي، وليس هذا فحسب، بل لقد وُفّق قبل أي دينٍ آخر، إذ كان يملك في ذات نفسه قوةً فعّالةً موجهةً نحو الأفعال الحميدة إلى تهذيب الناس، والارتفاع بهم نحو الله، وإنما نجح الإسلام، لأنه لم يكن أقل اهتماماً بالمسؤولية الأخلاقية، عن أقرانه من الأديان التوحيدية الأخرى، التي اعترف بأن أنبياءها إخوانه، إذ أدخل في حسابه الضعف البشري، ودعا أتباعه إلى مُثُلٍ عُليا غير بعيدة عن متناولهم، فالفضائل نفسها التي تُقدمها اليهودية والنصرانية بوصفها الغاية القصوى لحياة الإنسان الأخلاقية، لا يُقدمها الإسلام كمُثلٍ عُليا فحسب، بل يأمر بها كمُثلٍ عُليا أيضاً”[6].
وكتوصيةٍ يجب على الباحثين والمتخصصين في العلاقات الدولية الرجوع إلى الفكر الإسلامي بدل الاعتماد فقط على الفلسفة الغربية، والاستفادة منه في الكثيرٍ من المُعطيات التي من شأنها أن تُقوي وتُعزّز حضور الإسلام في معالجة العديد من القضايا والمسائل الدولية والإقليمية بأبعادها المختلفة.
قائمة المراجع المستخدمة
- حسين عبدالله العايد، وليد عبد الهادي أحمد العويمر، مشروعية العلاقات الدولية في الإسلام، مجلة الحقوق والعلوم الانسانية، المجلد 2، العدد2، جانفي 2009، ص82.
- محمد عبد القادر حاتم، الأخلاق في الإسلام، انظر الرابط الإلكتروني الآتي:
https://ebook.univeyes.com/175527. (27-8-2023).
- يوسف القرضاوي، أخلاق الإسلام، القاهرة: دار المشرق، 2017، ص 605.
[1] حسين عبدالله العايد، وليد عبد الهادي أحمد العويمر، مشروعية العلاقات الدولية في الإسلام، مجلة الحقوق والعلوم الانسانية، المجلد 2، العدد2، جانفي 2009، ص82-85.
[2] محمد عبد القادر حاتم، الأخلاق في الإسلام، انظر الرابط الإلكتروني الآتي:
https://ebook.univeyes.com/175527. (27-8-2023).
[3] يوسف القرضاوي، أخلاق الإسلام، القاهرة: دار المشرق، 2017، ص 605.
[4] المرجع نفسه، ص ص 605-606.
[5] المرجع نفسه، ص 611.
[6] المرجع نفسه، ص 470.
I really like your writing style, superb info , thankyou for posting : D.
I have been reading out a few of your posts and i can claim pretty clever stuff. I will definitely bookmark your site.
What i do not realize is actually how you’re no longer actually a lot more well-liked than you might be right now. You’re very intelligent. You realize therefore significantly in relation to this matter, produced me in my opinion consider it from a lot of numerous angles. Its like women and men are not involved unless it is one thing to do with Lady gaga! Your personal stuffs outstanding. Always handle it up!