د. عبدالحق دحمان
الوحدة السياسية
مركز المجدد للبحوث والدراسات
مقدمة
أصبح موضوع الأنسنة أو ما يسمى بــــ: “الهيومانيزم” في الفكر الإسلامي المعاصر أحد أبرز المواضيعو القضايا التي يُثار فيها النقاش، إذ تُعرف على أنه نزعة غربية تقوم على محورية الإنسان وقيمته، ويُعنبر الكاتب والمفكر الجزائري محمد أركون* أول من أوجد واخترع هذا المصطلح في الفكر الإسلامي المعاصر من خلال طروحاته المختلفة عن الأنسنة قصد غرس الفكر الحداثي ، ونقله إلى العالم الإسلامي المعاصر، وتجاوز بعض النقاط الذي يراها جامدة، وتقود الفكر الحر إلى التقييد. وفي الحقيقة فلقد لقى الفكر الأركوني ومشروعه الابستمولوجي الأنسني قبول وعرض في مناقشات عديدة في تخصصات الفلسفة وعلم الاجتماع، والفكر الإسلامي في الجامعات العربية والغربية، ولكنه تعرض أيضاً إلى انتقادات حادة لفلسفته التي تدور حول نقل الفرد من النص القرآني الديني إلى النص الأنسني، وكذلك في أفكاره وتصوراته النقدية للعقل الإسلامي.
وعلى هذا الأساس فإن هذه الدراسة تحاول البحث في ظاهرة الأنسنة باعتبارها تيار حداثي من منظور اإسلامي، وأبرز منطلقاتها وخلفياتها التاريخية والاجتماعية، وأبرز أسسها لا سيما إذا تحدثنا عن “أنسنة الدين” ثم مناقشة العراقيل، وحدود رفض هذا التيار الذي يشبهه الكثير من الإسلاميين بأنه فكر تنويري غربي علماني يهدف للمساس بطبيعة وهوية الفرد المسلم، وتمسكه بالمنهج الإسلامي الذي يقوده إلى التيار الصحيح.
فما هي إذن أبرز منطلقات وأسس الفلسفة الأنسنية التي يدعوا إليها أركون ومؤيديه ؟ وما هي أبرز الانتقادات الموجهة لها؟ وهل يمكن اتخاذها كنهج لتطوير المجتمعات وتبادل الثقافات بين الشعوب؟
أولا: إيتمولوجيا الأنسنة
يحتل مفهوم الأنسنة في فلسفة الفيلسوف الجزائري محمد أركون موقعاً مركزياً ومهماً، إذ بدأ يتبلور مشروعه في ما يعرف بــ: “نقد العقل الإسلامي” من خلال بحثه الذي أنجزه في أطروحته للدكتوراه بعنوان: “نزعة الأنسنة في الفكر العربي، جيل مسكويه والتوحيدي”، ومصطلح الأنسنة هو نزعة للكلمة (Humanism)[1] المشتقة من الكلمة اللاتينية (Humanistas)، والتي تعني “تعهد الإنسان لنفسه بالعلوم الليبرالية التي فيها يكون جلاء حقيقته كإنسان عن سائر الحيوانات، حيث ينسب طهور الأنسنة إلى بترارك Pertrark و سلوتاتي Salutati لتعني من يتعاطى الدراسات الأدبية، وهو موروث الفروع الليبرالية عند قدامى الكتاب اللاتينيين، ولقد ارتبط هذا لمصطلح عموماً في عصر الإصلاح الديني والنهضة في أوروبا خلال القرنين الخامس عشر والسادس عشر، حيث بدأ في تلك الفترة الانتقال من الدين إلى العالم، ومن الله إلى الإنسان، ومن الماضي إلى الحاضر والمستقبل، إذ تم التركيز في هذه المرحلة على ضرورة الاعتراف بدور العقل ومكانته في البحث المستقل والحر عن كل المؤسسات والهيئات الدينية والسياسية باعتبارها قيدت العقل، أي هنا زعزعة الأستاذية العقائدية التي كانت تمارسها الكنيسة، وبالتالي رفض فكرة الكنيسة في عملية العتعبد بين الإنسان وربه، وجعل العلاقة دون وساطة الكنيسة[2].
فمفهوم الأنسنة في عصر النهضة أو الفكر الغربي، يعني الثقافة التي ميزت إيطاليا في القرنين 15 و16، والتي نقلت إنجازاتها فيما بعد إلى أوروبا، وذلك بجعل الإسنان حراً في تفكيره، وغاية في حد ذاته، ومحور ومركز الكون، وتعتبر هذه النظرة ثمرة لجهود كثير من الفلاسفة أمثال “مارتن لوثر” M. Luther ، و “جون هاس” Jhon Hus ، و”بول سارتر” J.P.Sarter، وكلها تلتقي في فكرة أساسية مفادها “أن الإنسان هو مصدر المعرفة”[3].
وبالتالي نلاحظ أن نشأة وظهور هذا المفهوم خاصة في المرحلة القروسطية قد كان الهدف منه التخلص فكرياً وارتباطياً من مظلة الدين والميتافزيقيا التي جعلت الإنسان تابع للكنيسة بشكل يؤثر على تفكيره وحياته وسلوكاته، وهي فلسفة تعظم من العقل والأخلاق والعدالة كوسيلة لضمان صلاح الإنسان وجودة حياته وحريته الفكرية، وهي تدرج نحو العلمانية أتت حسب روادها تحت غرض تكييف الإنسان مع التغيرات الاجتماعية والسياسية.
وعند البحث أيضاً عن تاريخ هذا المفهوم ومعناه، فليس هناك أدلة على الاحتفاء بالإنسان كما احتفت به الديانات الأخرى، خاصة الدين الإسلامي الذي كرم قيمة الإنسان وأعطاه العقل والأفضلية على باقي المخلوقات، ويبرز ذلك في قوله تعالى بسورة النساء الآية 70: “وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُم مِّنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَىٰ كَثِيرٍ مِّمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلً” ، وجعله سبحانه وتعالى خليفة في الأرض كما ورد في سورة البقرة الآية 30 “وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً ” ، وغيرها من الآيات الأخرى التي جعلت من الإنسان حامل أمانة إنسانية على وجه الأرض، والغاية من خلقه عن سائر المخلوقات من أجله[4].
أما في القرن التاسع والثامن عشر فلقد اكتسى مضمون الأنسنة بعد فلسقياً في أوساط التيار الهيغلي النقدي، واتسعمل بكثيرة كمفهوم في الفلسفة والدراسات الأنثربولوجية، واستعمله كذلك ماركس في سياق تحررب فلسفي ثم فريدريك وفريدريك نيثهام وفورباخ.
وفي العصر المعاصر فيعتبر المفكر الجزائري أحمد أركون أول من وسع هذا المفهوم وكيفه مع المتطلبات الجديدة في حديثه عن الحضارة العبية الإسلامية التي يراها بأنها مازالت تعيش على فكر الفقه، ولم تسهم في بناء فقه الفكر اعتقاداً منها بأن هذه الحضارة هي مركز الكون الإنساني، من دون تبصر في المقام أو التدبر في الدلائل التي تراهن على ضرورة معاينة مستجدات ومتطلبات العصر من النواحي المعرفية والمادية والبنيوية، ورغم ذلك فلقد تلقى محمد أركون انتقادات لاذعة حول هذه الفلسفة[5].
وبالتالي يمكن القول هنا بأن الأنسنة هو إدراك ووعي الإنسان بأنه محور وغاية وهدف كل شيء بوضعه تحت تصرف اللوغوس “العقل”، وهي ليست بالنزعة الجديدة، وإنما وليدة الفكر والفلسفة التنويرية في أوروبا بعد انقلاب العديد من المفكرين على الرؤية للاهوتية للعالم والإنسان، وسيطرة الكنيسة على الكثير من حيثيات الحساة السياسية والثقافية والاجتماعية.
ثانياً: طبيعة الأنسنة من المنظور الأركوني
ما من شك بأن التصور الأركوني حول الأنسنة ليس بالجديد، وإنما هو امتداد لتراكمات فلسفية غربية حول هذه النزعة، ولقد بحث أركون في هذا المتغير بجامعة السوربون وفق رؤية إسلامية، إذ يعتقد بأن الموقف الإنساني ينبغي أن يتواجد اليوم أكثر من أي وقت مضى في جميع الثقافات بما فيها المجتمعات الإسلامية[6]. وتدور فكرة أركون في هذا الجانب بأن هناك ثقل كبير للدين على الحياة البشرية والسياسية، لذلك يرى بأنه لا بد من إعادة النظر في العلاقات الكائنة بين العامل الديني والسياسي وكذلك الطبيعي، حيث يرى بأن الواقع الإسلامي اليوم يمر بمختلف أشكال الانغلاق والأصولية خاصة في سياقه التاريخي، لذلك فهو يدعو إلى الإسلام الحداثي الذي يركز على الأنسنة، أي تحويل اتجاه الفكر والبحث والسعي من الله إلى الإنسان مثلما حصل في الحضارة الغربية سابقاً[7].
ويرى أركون بأن التركيز على العنصر البشري يعني توليد الإبداع، وفتح الآفاق المختلفة الجديدة لصناعة الوعي البشري والمعرفة المنقذة من الضلال، ويرى أن الإسلام أو الدين لا يهمل العقل البشري، وما ينتجه العقل، غير أن الاحتكام إلى تفسيرات تاريخية دون تكييف الكثير من الأمور من شأنه أن يضع الدين في سكة خطيرة، ويصبح لا محال آلة خطرة يستغلها المتلاعبون والقامعون للحرية الأساسية التي يتطلبها الإنسان لكي يرتقي إلى درجة الأنسنة[8].
ويرى أركون بأن الأنسنة قبل أن تشهدها أوروبا في القرن 16 إبان عصر النهضة كانت هذه الفلسفة موجودة في الفكر الإسلامي، ولكنها لم تدم لفترة طويلة، وأصبحت غائبة بعد غلبة النزعة الدينية المفرطة عليها، وهو ما عطل الأمة في الانتقال إلى مراحل أكثر تقدماً من الأنسنة، وبالتالي التعددية الفكرية والحوار والتقدم. ويمكن القول بأن الأنسنة عند محمد أركون تقوم على ما يلي:
- أن الأنسنة تقوم على محورية الموقف الإنسانية، وتمزج بين مختلف الثقافات والحضارات.
- عقلنة الظواهر الدينية، وذلك عن طريق ضبطها ومراقبتها، وإفساح المجال للتأويل العلمي أـو السببي للظواهر
- إعطاء الأولوية للاهتمام بالمشاكل والقضايا الأخلاقية والسياسية.
- تساهم في تراجع هيبة الخلافة وعلمنة السلطة السياسية
- فتح الإداع للإنسان، من خلال تنمية فضوله العقلي والعلمي والحس النقدي[9].
ثالثاً: أنواع الأنسنة عند محمد أركون
لا تقتصر الأنسنة على جانب واحد فقط، وإنما هي مسار فكري تشترك فيه العديد من الاتجاهات الفلسفية والأدينية والأخلاقية والعلمية، كما أنها تظل تعبيراً عن وجهة نظر شحصية، ومن هذا المنطلق فلقد كرس أركون فكره إلى تخصيص عدة أنواع من الأنسنة على النحو الآتي:
- الأنسنة الدينية: من المتفق عليه بأن الدين هو عبارة عن مجموعة من العقائد والشعائر التي تتضح في شكل حقائق مطلقة من خلال الممارسات والسلوكيات التي توجه الإنسان، والذي يلزم عليه اتباعاً، وفي هذا الصدد يعتبر أركون بأن الموقف الدينيي للروح لا يسمح إلا بصيغة معينة من الأنسنة، أي محدودة، وبذلك فهو يدعو إلى إعادة النظر في مسألة التعاليم الدينية، وضرورة التفكير فيها من جديد على نحو تعلقها بالإنسان، والتي ركنت في خانة مستحيلات التفكير فيها، وذلك بالعودة إلى الفترة الإنسنية في القرن الثالث والرابع الهجريين لترقية الإنسان في السياقات الإسلامية[10].
- أنسنة التاريخ: يعرف التاريخ عادة بأنه جملمن الأحداث التي وقعت في زمن سابق، وأنسنة التاريخ حسب أركون تنطلق من كون التاريخ محوره الإنسان، لأنه جملة من الأحداث والتحولات التي يعيشها ويصنعها، ويكون هو الفاعل الرئيسي فيها، وهنا يحاول إدماج وتبني الطروحات الفرنسية ومقاربات علم النفس التاريخي، لكي يتخلص من التفسير الخاطئ للتاريخ، فقد أدرك أهمية المعرفة التريخية، وحاول إخضاعها للنقد والعقل، واعتبر أن أنسنة التاريخ تنطلق من إشكالية أو مشكلة الوعي التاريخي في الفكر العربي ترجع إلى الأزمنة الحديثة، وتحديداً إلى السياق التاريخي لتطور الصراع الضدي بين السلفية الجديدة والحداثة العربية، إذ يعتقد بأنه لا بد من تعميق الوعي لتجاوز الرؤية السلفية القديمة للتاريخ التي تتمحور حول الماضي، وتحن إليه، ولا تستطيع الانفلات من قبضته وأسره حتى تكون قادرة على ااهتمام بمشكلات الحاضر والمستقبل مما يتنافى مع مقتضيات المجتمع الناهض والحي، ولقد تعرض أركون إلى انتقادات لاذعة في هذا الجانب خصوصاً عند تشبيهه للسلفية بالجمود، رغم أن هناك تكيف للجماعة من خلال الاجتهادات في العديد من القضايا[11].
- الأنسنة الفلسفية: يرى أركون بأن هذا النوع من الأنسنة يدمج بين عناصر الأنسنة الدينية والأدبية، ولكنها تتميز عنهما بأنها نظرية فكرية أكثر صرامة ودقة ومنهجية، وتبحث عن حقيقة العالم والإنسان والإله، ويركز هذا النوع على الإنسان من حيث هو عقل مستقل ومسؤول، وفي ححالة تفاعل ونقاش مع ثقافات وعقول إنسانية أخرى، في حدود الدين بعيداً عن فلسفة التعالي والمفارقة، وإنما تقارب المسألة الدينية بمنهجية مقارنة الأديان، وتحاول تجاوز المعرفة الدينية التي ترتكز الإيمان غير النقدي، وبين ما يسميه أركون المعرفة العلمية المنتجة عن طريق العقل المستقل، وذلك هو الطريق إلى الأنسنة الكونية في تصوره[12].
- الأنسنة الكونية : [13]وهي الأنسنة التي يريد التوصل إليها أركوت، حيث يرى بأنها نزعة تتجاوز حدود الأديان والطوائف والقوميات والأعراق، وتركز الإنسان حتى لا يُسثنى أي فرد، وهي أنسنة ينبغي أن تشمل جميع أفرادالجنس البشري بغض النظر عن أصولهم الجغرافية، أو المذهبية، أو العرقية، أو اللغوية، ويرى أنها خطورة جد مهمة لبناء التسامح وتجاوز العنف والصراع بين البشر.
رابعاً: الانتقادات الموجهة لفسلفة أركون حول الأنسنة في الإسلام
صحيح أن أركون قدم بعض الإسهامات التي نالت الإشادة خاصة من المفكرين الغربيين والمشتشرقين الذين وصفوه بالحداثي باعتباره حاول من خلال فكره نقل العقل الإسلامي إلى الاهتمام بالأنسنة، غير أنه في نفس الوقت تعرض إلى كثير من الانتقادات اللاذعة حول فكرة الأنسنة وأبرز الإسهامات التي حاول دمجها في الفكر الإسلامي خصوصاً من الجماعات والعلماء والمفكرين المسلمين:
- استعمال المناهج والنظريات الغربية: انتقد أركون في هذا الجانب لأنه كرر نفس خطيئة المستشرقين الذين وصفهم بالتيار التقليدي أو الإسلام التقليدي، كونه اعتمد على مناهج وأفكار ونظريات مستقاة من العالم الغربي، وحاول تطبيقها على العالم االإسلامي، وهو أمر غير منطقي لاختلاف سياقات وتاريخ وواقع العالمين من حيث البنية الثقافية والهوياتية والاجتماعية، لأن سياق الأنسنة في العالم الغربي ظهر نتيجة لإفلاس الكنيسة وتدخلها في مختلف شؤون الحياة وفق أطروحات ميتافزيقية، في حين أنه في الحقيقة لو عدنا إلى العالم الإسلامي والتاريخ الإسلامي، فإن الأمر مختلف لأن الإسلام نهج حياتي، كما أن الإسلام قدس الإنسان بشكل كبير جداً، وجعله محوراً أساسياً بتكريمه على مختلف الخلق وتسخير كل ما هو موجود من أجله، وبالتالي فإن الإسلام أنسني بالدرجة الأولى، ولقد كرم الإنسان بالعقل وحثه على استعماله في مختلف القضايا وضبطه بقواعد شرعية متعددة، وأمره بتوظيفه قصد التكيف مع متطلبات الحياة، فمسألة ما سماه أركون ابتعاد الإسلام عن الأنسنة وكذلك العقلنة هو أمر غير منطقي من الناحية الفكرية والنظرية، أما على أرض الواقع فهي مسألة تخضع للظروف وسياقات التطور والاستجابة لدى الفرد المسلم، وهنا نستطيع القول بأن أركون أقصى الفلسفة الإسلامية في هذا الجانب باستثناء بعض العلماء المسلمين الذين تحدث عنهم كابن رشد، وهذا ما يشير إليه المفكر علي حرب في إقصاء أركون الفلسفات الإسلامية، وتركيزه على فلسفة ابن رشد فقط، إذ يقول علي حرب:” أركون لا يخلو من استبعاد بعض التجارب الفكرية الخصبة من دائرة التفلسف، كاستبعاده هو أيضاً الفلسفة الاستشراقية والتجربة الصوفية” [14].
- إشكالية ربط الجانب الماضوي بالمعاصر: في مجال نقد الأفكار والمناهج المعرفية يلجأ بعض المفكرين إلى استخدام الأدوات المعرفية والبحثية التي توصل إليها العقل المعاصر عند قراءة الأفكار التي أنتجت في حقبة زمنية معنية –البارديغم- ، ففي مجال قراءة أفكار الحقب السابقة، يطرح سؤال هنا: هل نقرأ الماضي بعدسة الماضي أم بعدسة العصر الحالي، فعند تقييم فكر أرسطو أو افلاطون على سبيل المثال هل سيتم قراءة أفكارهما بعقلية كارل ماركس وجون بول سارتر؟ فإذا كانت قراءة هذه الأفكار بعدسة الحاضر؛ بمعنى أن نستعمل الأدوات المعرفية والعقل الحاصر في نقد الماضي، فهنا إشكال كبير زمنياً، أما من الناحية الجغرافية، فقد يختلف الفكر حسب البيئة .
و يعتبر محمد أركون من الصنف الذي يتعامل مع الموروث الإسلامي بأخر ماتوصلت إليه المدرسة الغربية النقدية من نظريات ووسائل للتعامل مع النص، ويحاول إسقاط هذه الأدوات في التعامل مع النص الإسلامي الذي هو مختلف جغرافياً وصياغةً ولغةً ونفسيةً عن البيئة الغربية التي يستعين أركون بأدوات مفكريها النقديّة فمحمد أركون يقول : أن المصدر الأساس للفقه وبالتالي القضاء ليس هو القرآن بقدر ما هو التفسير ونقصد بذلك أن الفقهاء قد قرأوا القرآن وفسروه بطريقة معينة وأتخذوا بعدئذ قراراتهم، وقد إستخدموا في تفسيرهم المعارف اللغوية والإخبارية السائدة في عصرهم ،وكل هذه الأدبيات تتطلب اليوم مراجعة وإعادة قراءة على ضوء التاريخ النقدي الحديث، وقد تناسى أركون أن المفسرين لا ينطلقون من أهوائهم بل يفسرون القرآن بالقرآن أو بالسنة النبوية الصحيحة أو بالشروط الشرعية المنصوص عليها، وإذا سلمنا جدلاً بما ذهب إليه أركون وأعلنا عن حاجتنا إلى مرجعية نقدية جديدة تخولنا إعادة قراءة الموروث الإسلامي قراءة جديدة بعين هذا العصر، فمن أين نستقي المنهج والأدوات النقدية اللازمة الحديث لإسقاطها على الموروث الإسلام ، وفيما يتعلق بمحمد أركون فقد أختار بوضوح المنهج الغربي، فهو كثيراً ما ينقل آراء غرفيتش وجوزيف شافت وماكس فيبر وجاك غودي وعشرات الآخرين لتفسير الواقع الإسلامي.
والسؤال المطروح هنا كيف تعامل هؤلاء مع التراث الإسلامي! إذ أن الإسلام كان في نظرهم لا يختلف عن الحركات الدينية في العالم الغربي، و هذا التداخل والجمع بين أفكار متناقضة وبيئات متناقضة أيضا أوقع الكثيرين في فقدان نتائجهم النظريّة، وانطلى عليهم الخلط التفسيري. [15].
والأمر الآخر الذي يجب الإشارة إليه إذا كان أركون يستند في مرجعيته النقديّة على إنتاجات من ذكرنا من المفكرين الغربيين، فإن المنطق العلمي والتحليل الفينومولوجي يفرض بأن تكون أدوات النقد من سنخ الفكر الذي يريد تحليله وتشريحه –الفكر الإسلامي- ، كما أن التعامل مع الفكر الإسلامي لا يمكن أن يكون إنطلاقاً من مصادر ومرتكزات غير متعارف عليها في هذا الفكر، وكذلك لا يمكننا أن نعالج فرضيات لم ترد في هذا الفكر نفسه، وإلا سيحمل هذا الفكر أكثر مما يحتمل فيخرج من سياقه المعرفي والبيئي المتعارف عليه، والذي يعكس الهوية الإسلامية.[16].
- من حيث المفاهيم: ما يلاحظ أن المصطلحات التي يركز عليها أركون حول الأنسنة تتسم بالطريقة التوظيفية المسبقة التي تهدف إلى خدمة الإنسان كإنسان مع إقصاء واضح للدين، وهذه الطريقة مرفوضة في الدين الإسلامي، لأن هناك معايير وفلسفة للاستقامة الدينية، ومنظومة القيم والأخلاق، وبالتالي فإن هناك خلط نوعاً ما في تفسير أبعاد الربط بين الوضع الإلهي والوضع الوضعي – ذوا الإفراز البشري-[17].
- الأنسنة كسبب للتخلف: في اعتقاد أركون أن تراجع الأنسنة أو غيابها في الثقافة الإسلامية هو أحد الأسباب الرئيسية للواقع المرتبك والتخلف والانفلات الذي يعيشه العالم الإسلامي، كون غيابها انتج تشوهات عقدية وسلوكية خطيرة تؤثر على هوية المسلم، إذ لا يمكن الخروج من هذا الوضع المتردي إلا باستئناف مشروع الأنسنة لأنها نزعة منفتحة تؤمن بالتعددية الثقافية والمذهبية واللغوية، وعقلنة الظواهر الدينية، وهو ما يؤدي أيضاً إلى التسامح وتجاوز العنف[18]، لكن هنا لا يمكن إرجاع التخلف أو الانفلات الذي يعيشه العالم الإسلامي إلى غياب الأنسنة، وإنما هناك عدة عوامل ساهمت في تراجع الهوية الإسلامية كالعولمة والاستعمار وسوء الأوضاع الاقتصادية والسياسية والاجتماعية، وكذلك التآمر على المجتمعات الإسلامي من العالم الغربي منذ العور الحديثة.
خامساً: نحو تفادي توجهات نزعة الأنسنة في الفكر الإسلامي
لقد ثمن محمد أركون بشكل كبير متغير الأنسنةن وجعله كمنطلق ومحور وهدف لأي فلسفة دينية نظراً لأن الإنسان هو أعلى قيمة من أي اعتبار آخر، وهو المقياس في نفس الوقت، وهذه الفكرة يتفق الكثير من العلماء المسلمين معها في مسألة الارتقاء بعقل الإنسان وتهذيبه، ومعاملته كإنسان له عقل يميزه عن بقية المخلوقات، لأن الإسلام والقرآن يمجدان الفرد، لكن الاختلاف يكمن في تحويل النص القرآني من نص إلاهي إلى نص يركز فقط على الإنسان كقيمة مطلقة، بينما في التداول الإسلامي فيعتبر الغنسان جوهر الكون والغاية من الخلق، وسموه يتمثل في مدى استخدامه للعقل الذي سخره الله له، فمفهوم الأنسنة لا يمكن نزعه عن الإيمان الذي يتكرس في وجود الله.
وفي اعتقاد الباحث بأنه لتجاوز هذه النزعة التي نقلها أركون وفق رؤية غربية، فلا بد من تحوير هذه النزعة وفق منطلقات إسلامية تعكس حقيقة الدين الإسلامي الحنيف الذي مجد الإنسان، وسخر له الكون والمخلوقات، وذلك من خلال تطوير هذه الفكرة، وإعادة النظر فيما تم تداوله من أفكار للأنسنة ليس فقط لمحمد أركون، وإنما كذلك فيما تداوله الفاربي وعبد الوهاب المسيري ومالك بن نبي حول هذه النزعة.
الخاتمة
لقد ارتبط مشروع أركون منذ نشأته بالنزعة الإنسانية التي حاول من خلالها تجاوز التصورات والمناهج الفلسفية الكلاسيكية السابقة التي سيطرت على قضايا و مشكلات الفكر العربي الإسلامي المعاصر و محاولة تأسيس فكر فلسفي إنساني يقوم على فهم و دراسة الظاهرة الإنسانية وفق منهج علمي واقعي جعل الإنسان في عصور الازدهار الحضاري يقدر قيم الحق و الخير و الجمال لذا شكل الحوار والتسامح رسالة هامة في تقوية التواصل و التفاعل الايجابي مع الآخر، وفي هذا المقال حاولنا تحليل و مناقشة مفهوم ” نزعة الأنسنة” وماهيتها الفكرية و الفلسفية وأثرها على المجتمعات الإنسانية عند المفكر الجزائري محمد أركون .
كما تعرضنا إلى أبرز الانتقادات التي وجهت له بخصوص طروحاته الفكرية والفلسفية حول الأنسنة وأهم أفكاره الفلسفية حول الإسلام الذي ينظر إليه نظرة نقدية مؤدلجة غربية في الكثير من الأحيان، وهي نفس نظرة المفكرين المستشرقين حوله، وكذلك مسألة معارضة النهج الذي يحل متغير الأنسنة مكان الإسلام، كمتغير تدافع عنه الديانات المحتلف، وهي عوائق وانتقادات وجهت له في دراساته، ضف إلى إهماله توفيق القضايا والمسائل التاريخية جيداً، وإقصائه لجانب كبير من الفلسفات الإسلامية.
ويبقى مشروع الأنسنة إلى غاية الآن مشروع خصب للدراسات والأبحاث والرؤى في إطار الحفاظ على الهوية والدبن الإسلامي اللذان هما ركيزتان اساسيتنان للمجتمع المسلم، كونه ترعرع في سياقهما الثقافي والاجتماعي والتاريخي منذ ظهور الإسلام إلى غاية يومنا هذا، كما يجب أن نعي أن الإسلام دين ليس ضد الإنسان أو استعمال العقل، وإنما قد كرم الله الإنسان بالعقل وفضله على باقي المخلوقات، وسخرها لها، والدين ليس ضد محورية الإنسان في الكثير من الأمور حسب ما تدعي بعض الفلسفات الغربية، وإنما تم تأويل الكثير من السياقات لخدمة أغراض معينة في إطار الحداثة والإيدلوجيا، كما لا يمكن إطلاقاً قياس الأنسنة الغربية بتطورات الوضع والواقع الإسلامي حتى ولو كان في نفس الحقبة الزمنية، نظراً لاختلاف البيئات، فالبيئة الإسلامية ترتكز على الأخلاق والقيم الإسلامية وتعتبر الالتزام بالنهج الإسلامي شيء مقدس لا يمكن التخلي عنه، وأنه دين حياة يشتمل على القواعد العامة المتعلقة بمختلف المجلات.
وعموماً فإن هذه الدراسة توصلت إلى النتائج الآتية:
- مفهوم الأنسنة مفهوم غربي ولقد ارتبط هذا لمصطلح عموماً بعصر الإصلاح الديني والنهضة في أوروبا خلال القرنين الخامس عشر والسادس عشر، إذ تم التركيز في هذه المرحلة على ضرورة الاعتراف بدور العقل ومكانته في البحث المستقل والحر عن كل المؤسسات والهيئات الدينية والسياسية باعتبارها قيدت العقل، خصوصاً عن الحديث عن سيطرة الكنيسة على السلطة المدنية.
- لا يمكن اعتبار أن الأنسنة هي سبب تخلف المجتمعات المسلمة كما روج محمد أركون، لأن هناك عوامل عديدة متفاعلة.
- لا يمكن تفسير الواقع الإسلامي والأنسنة وفق عدسة غربية (مناهج، مفاهيم، نظريات)، لأن هناك اختلاف كبير بين البيئات كما لا يمكن قياس دور المسيحة بدور المسجد كذلك.
- ما تحدث عنه أركون حول أن الموقف الديني يقيد حرية الفرد المسلم أمر غير مقبول، فالله سبحانه وتعالى كرم الإنسان بالعقل، والقرآن الكريم يدعوا دائماً الإنسان إلى التفكر والتأمل حتي يعي ويفسر ما حوله من وقائع، فلقد ميز الله الإنسان بالعقل الذي هو مصدر الحكمة والتدبر والبصيرة وتصريف الحياة.
- يجب على العالم الإسلامي أن يدرك أنه لا بد من مفاهيم تفسيرية ونظريات وفرضيات تعكس الهوية والثقافة الإسلامية بشكل دقيق حتى يتسنى معالجة النقائص وأهم الثغرات التي تمس التاريخ الإسلامي، لأن تصورات المستشرقين والغربيين غالباً ما تكون مغلوطة وذوا بعد وظيفي.
قائمة المراجع
أولا: باللغة العربية
- بن خلبف، الفكر الجزائري، المحاضرة السادسة ، ماي 2020، قسم الفلسفة، جامعة باجي مختار، 2020.
- بوزيرة عبد السلام، نزعة الأنسنة عند محمد أركون: نحو هدم الانحرافات العقائدية للعقل الديني، مجلة انثربولوجيا للأديان، المجلد 18، العدد 2، جوان 2022.
- زرفة بولقواس، محمد أركون، رؤية في مسارات الأنسنة ، مجلة التغير الاجتماعي، العدد 4، نوفمبر 2017.
- عبد القادر فيدوخ، التفكير في الأنسنة والإنسانية في الفكر الغربي، مؤسسة مؤمنون بلا حدود، انظر الرابط الالكتروني الأتي:
https://www.mominoun.com/articles.
- عبد المالك عيادي، الأنسنةـ الابستمية والإسلام، أركون في سياق الكونية، مجلة الآداب والعلوم الاجتماعية، المجلد 16، عدد 3، 2019.
- علي حرب، نقد النص، الدار البيضاء: المركز الثقافي العربي، بيروت، 2005.
- محمد بن حليمة، أنسنة الظاهرة الدينية في الفكر الإسلامي الحديث والمعاصر مقاربة ابستمولوجية لمفهوم الأنسنة في المشروع الفكري لدى أركون، المجلة الاجتماعية القومية، المجلد 56، العدد 3، سبتمبر 2019.
- مخلوف بشير، الأنسنة ونقد العقل الإسلامي، مجلة مقاربات فلسفية، المجلد 3، العدد1، نوفمبر 2016.
- معيلبي عيسى، قراء نقدية في الفكر السياسي عند محمد أركون، مجلة العلوم الاجتماعية والانسانية، المجلد 11، 2021.
ثانياً: باللغة الأجنبية (الفرنسية)
- Mohamed Arkon, Humanisme et Islam Combats et Propoitions, Phlosophique, Paris : Jvrin, 2005.
*ولد محمد أركون في الجزائر بقرية تاوريرت ميموت ف مدينة تيزي وزو في 1 فيفري عام 1928، وهو من أرة أمازيغية بسيطة، ويتكلم أركون اللغة الأمازيغية والفرنسية، والعربية التي تعلمها في الطور الثانوي في مدينة وهران، ولقد عمل في جامعات عالمية بعدما تحصل على شهادة دكتوراه الفلسفة عام 1969 من السوربون في فرنسا وألمانيا وأمريكا، للمزيد انظر:
Mohamed Arkon, Humanisme et Islam Combats et Propoitions, Phlosophique, Paris : Jvrin, 2005, p295-296.
[1] عبد المالك عيادي، الأنسنةـ الابستمية والإسلام، أركون في سياق الكونية، مجلة الآداب والعلوم الاجتماعية، المجلد 16، عدد 3، 2019، ص 91.
[2]محمد بن حليمة، أنسنة الظاهرة الدينية في الفكر الإسلامي الحديث والمعاصر مقاربة ابستمولوجية لمفهوم الأنسنة في المشروع الفكري لدى أركون، المجلة الاجتماعية القومية، المجلد 56، العدد 3، سبتمبر 2019، ص 122-124.
[3] المرجع نفسه، ص 223.
[4] عبد القادر فيدوخ، التفكير في الأنسنة والإنسانية في الفكر الغربي، مؤسسة مؤمنون بلا حدود، انظر الرابط الالكتروني الأتي:
https://www.mominoun.com/articles.
[5] المرجع نفسه.
[6] مخلوف بشير، الأنسنة ونقد العقل الإسلامي، مجلة مقاربات فلسفية، المجلد 3، العدد1، نوفمبر 2016، ص 155.
[7] المرجع نفسه، ص 155-157.
[8] المرجع نفسه، ص 154-158.
[9] زرفة بولقواس، محمد أركون، رؤية في مسارات الأنسنة ، مجلة التغير الاجتماعي، العدد 4، ص 393-394.
[10] المرجع نفسه، ص 395.
[11] محمد بن حليمة، مرجع سابق، ص 140-141.
[12] عبد القادر فيدوخ، مرجع سابق.
[13] زرفة بولقواس، مرجع سابق، ص 395-36.
[14] علي حرب، نقد النص، الدار البيضاء: المركز الثقافي العربي، بيروت، 2005، ص ص 90-91.
[15] بن خلبف، الفكر الجزائري، المحاضرة السادسة ، ماي 2020، قسم الفلسفة، جامعة باجي مختار، 2020.
[16] المرجع نفسه.
[17] معيلبي عيسى، قراء نقدية في الفكر السياسي عند محمد أركون، مجلة العلوم الاجتماعية والانسانية، المجلد 11، 2021، ص 398.
[18] بوزيرة عبد السلام، نزعة الأنسنة عند محمد أركون: نحو هدم الانحرافات العقائدية للعقل الديني، مجلة انثربولوجيا للأديان، المجلد 18، العدد 2، جوان 2022، ص 398.
I’d should examine with you here. Which is not something I normally do! I take pleasure in studying a post that may make people think. Additionally, thanks for allowing me to comment!
Great line up. We will be linking to this great article on our site. Keep up the good writing.
As I web site possessor I believe the content material here is rattling wonderful , appreciate it for your efforts. You should keep it up forever! Good Luck.
excellent points altogether, you just gained a new reader. What would you suggest about your post that you made some days ago? Any positive?
F*ckin¦ tremendous things here. I¦m very glad to look your post. Thanks a lot and i’m looking ahead to contact you. Will you kindly drop me a e-mail?
Spot on with this write-up, I actually assume this website wants much more consideration. I’ll in all probability be again to read much more, thanks for that info.
Nice read, I just passed this onto a colleague who was doing a little research on that. And he just bought me lunch because I found it for him smile Thus let me rephrase that: Thank you for lunch!
I don’t normally comment but I gotta admit thankyou for the post on this perfect one : D.
Wow, superb weblog layout! How long have you ever been running a blog for? you make blogging glance easy. The whole look of your site is excellent, as smartly as the content!
Great website! I am loving it!! Will come back again. I am bookmarking your feeds also