علم الكلام من تجديد منهجية النظر إلى ممارسة العمل الإيجابي:
قراءة في ضوء رسائل النور
أ.د. أحمد محمد سالم
أستاذ بجامعة طنطا- مصر
يعد علم الكلام – أو علم أصول الدين – أحد أبرز العلوم الإسلامية التي تمحورت حول الوحى ، وقد ظهر هذا العلم نتيجة للظروف التاريخية التى عاشتها الحضارة الإسلامية ، حين امتد الوحى لينتشر في فضاء العالم الإسلامي من جنوب شرق آسيا حتى الأندلس ، ومن جنوب أوربا حتى وسط أفريقيا ، وأدى هذا الانتشار إلى اختلاط الإسلام كدين بأديان وثقافات وبيئات ولغات مغايرة للإسلام ، فاحتوى الإسلام هذه الثقافات ، وطرحت تلك الثقافات والبيئات أسئلة متعددة على الإسلام كدين ، وقد تخلق علم الكلام كضرورة تاريخية دعتها ظهور الشبه والحجج التي طرحها الدهرية، والثنوية ، وأصحاب الملل الأخرى على الإسلام، ولذلك فإن علم الكلام كما يرى ابن خلدون هو”العلم الذى يتضمن الحجاج عن العقائد الإيمانية بالأدلة العقلية ، والرد على المبتدعة المنحرفين في الاعتقادات عن أهل السنة والجماعة ” ([1]) ورغم أن ابن خلدون (ت 808ه) يختزل دور علم الكلام في الدفاع عن عقيدة أهل السنة فإن الإيجي ( ت 576هـ) يرى أن علم الكلام يعنى الدفاع عن المعتقد الديني بالحجة العقلية لأى مذهب من المذاهب الإسلامية ([2]) ولا يقتصر رأي الإيجي في تعريف علم الكلام بأنه أداة لأهل السنة فقط ، ولكنه أداة لأى فرقة إسلامية في الدفاع عن معتقدها الخاص .
ولكن علم الكلام الذى ظهر لأسباب تاريخية تطور دوره في مسار الثقافة الإسلامية إلى دور سلبي خالص حيث صار أداة لترسيخ الصراع المذهبي بين الفرق الإسلامية ، والتقادح والتشويه المتبادل بينها ، وتشويه العلاقات بالآخر المغاير لنا في الدين أيضاً ، وقد جسد هذا العلم – في عصور التدهور التاريخي – الصراع بين الفرق الإسلامية على من يملك حقيقة الدين من خلال تفسيرها الخاص للدين الإسلامي ، ومن ثم يمكن القول بأن مسار تطور علم الكلام في التاريخ قد انتقل من كونه أداة للدفاع عن عقائد المسلمين ضد الشبهات المغايرة إلى كونه أداة فعالة في ترسيخ الصراع المذهبي بين الفرق .
وعلى ما يبدو فإن فقهاء أهل السنة كانوا يحذرون مبكراً من خطورة هذا العلم ، وما يمكن أن يؤدي إليه من تفرق وشتات بين المسلمين حول العقيدة ، فكانوا يحذرون من الخوض في قضايا العقيدة بانفتاح غير محدود لممارسة العقل ، وكذا ظهرت العديد من الأصوات التى تعنى بضرورة عدم الخوض في علم الكلام فقد ذهب الإمام مالك (ت179هـ) رحمه الله ” إلى أنه لا يجوز شهادة أهل البدع والأهواء ، فقال بعض أصحابه في تأويله أنه أراد بأهل الأهواء أهل الكلام على أي مذهب ” ([3]) وكان الإمام الشافعي (ت204هـ) يرى أن الناس ما جهلوا ولا اختلفوا إلا لتركهم لسان العرب ، وميلهم إلى لسان أرسطوطاليس ، وصدر موقفه في صورة فتوى فقهية فيقول:”حكمي فى أهل الكلام أن يضربوا بالحديد، ويحملوا على الإبل ، ويطاف بهم في العشائر والقبائل ، وينادى عليهم : هذا جزاء من ترك الكتاب والسنة وأقبل على الكلام ” ([4]) وذهب الإمام أحمد بن حنبل (ت241هـ) للطعن على علم الكلام بالقول ” بأن علم الكلام زندقة ، وما ارتدى أحد بالكلام إلا كان في قلبه دغل على أهل الإسلام ، لأنهم بنوا أمرهم على أصول فاسدة أوقعتهم في الضلال ” ([5]).
وفي ضوء المواجهة السابقة لعلم الكلام لم تستطع حركة الإصلاح الديني الحديثة في العالم الإسلامي أن تخرج من ربقة الاستمرار في العناية بعلم الكلام وإصلاحه وتطويره، وفي ضوء الظروف التي مرت بها تركيا في المرحلة الحديثة من انتشار النزعات المادية والإلحادية، مما جعل قضية الإيمان في خطر بسبب كثرة الشبهات ، ولذا فقد ” فرضت المرحلة التاريخية التي تمر بها تركيا والعالم الإسلامي ، والتي كان فيها حرباً منظمة ماكرة تشن على الإسلام من لدن الدوائر المادية، وأجهزة الثقافة الاستعمارية تريد النيل من عقيدته، وتقتلع جذورها من ثقافة المسلمين وعقولهم، فاقتنع – النورسى- أن علم الكلام القديم المبني على مقدمات عقلية معقدة هي طريقة غير مأمونة العاقبة في هذا العصر خاصة ” ([6]) ومن ثم فإن علم الكلام القديم على صورته التقليدية لم يعد صالحاً لمواجهه الشبه والشكوك التي يطرحها المحدثون على عقائد العقل المسلم .
ولذا سعى النورسى (ت1960م) إلى مواجهة هذه الشكوك من أجل الحفاظ على قضيتين مركزيتين في جميع رسائله هي الإيمان بالله واليوم الآخر- التوحيد والحشر- وتبدو باقي قضايا العقيدة فروعاً ملحقة بهاتين القضيتين ، وذلك من منطلق إدراك النورسي بأنه من الضروري أن يكون هناك مجدد في هذه الأمة يجدد لها إيمانها ، وذلك ” لأن التجديد في مجال المحافظة على الحقائق الإيمانية فهي من أجل وأعظم الدوائر الثلاث ، ولذا تبقى دوائر الشريعة والحياة الاجتماعية والسياسية في الدرجة الثانية والثالثة “ ([7]) وكانت الغاية الكبرى لرسائل النور تحقيق الإيمان اليقيني ، فالمسلمون اليوم في أشد الحاجة إلى تجديد إيمانهم بالقرآن تجديداً ينقلهم من مجرد الإيمان التقليديً إلى الإيمان اليقينىَ.
ونتيجة لإلحاح النورسى على أهمية تجديد الإيمان، فقد عاد إلى الاهتمام بعلم الكلام القديم كقالب وشكل وليس كمضمون ومنهج ، لأن المضمون القديم لعلم الكلام أصبح لا يناسب الظروف التاريخية التي يعيش فيها ، وبات عليه أن يقدم مضموناً جديداً لهذا العلم يسعى فيه إلى مداواة القلب العام المجروح ، وإصلاح الأفكار العامة ، وقد اعترف لتلاميذه بأن ما يتلقونه هو دروس في علم الكلام ، فيقول لهم ” أبارك لكم حسن فهمكم ، وإدراككم الجيد للمكتوب العشرين ، واستنساخكم الجيد له ، أتذكرون في رسالتكم رغبتكم في تلقى دروس في علم الكلام مني ، أنتم يا أخوة تتلقون تلك الدروس فعلاً ، فما استنسختموه من الكلمات دروس في علم الكلام “ ([8]) ولأن النورسى كان يرى أن علم الكلام هو سلاحه في الحفاظ على قضايا الإيمان ونجده يقول ” إن علم الكلام طريقة للولاية هي أسمى ، وأجل ، وأقوى من العمل ، والعبودية ، والطريقة الصوفية “([9]) فكيف يمكن أن يصوغ النورسي فى رسائله علماً للكلام يؤدى إلى الممارسة الإيجابية فى العمل ، إن ذلك لايمكن أن يتم إلا عبر تجديد منهجية النظر فى هذا العلم حتى يكون دافعاً نحو العمل الإيجابى.
وإذا كان النورسى قد ارتضى لنفسه أن يتخذ من علم الكلام سبيلاً للحفاظ على الإيمان فإن محاولته في رسائل النور كانت مغايرة لعلم الكلام التقليدي ، وهذا ما يطرح علينا ضرورة الإجابة عن مجموعة من التساؤلات في هذه الورقة . ما هي أبعاد روح التجديد التي أقامتها رسائل النور لعلم الكلام؟ هل تجاوزت رسائل النور علم الكلام التقليدي أم سارت على منهجه ؟ كيف تأسس تجديد علم الكلام عند النورسى من ناحية الشكل أم المضمون ؟ كيف تحول علم الكلام عند النورسى من علم نظري جاف إلى علم يهتم بالممارسة الإيجابية للعمل ؟ ما حدود علاقة علم الكلام بالعمل الإيجابي في رسائل النور ؟ أسئلة متعددة تطرح طبيعة الإجابة عليها أبعاداً كيف انتقلت رسائل النور بعلم الكلام من علم للحجاج النظري الخاص إلى علم يتخذ من تجديد النظر فى قضايا الإيمان سبلاً وطريقاً إلى ممارسة العمل الإيجابي الفعال بما يمكن أن يؤثر على صياغة الحياة الاجتماعية لمجموع أفراد المجتمع المسلم ، فما عساها أن تكون مرتكزات التجديد في منهجية النظر في علم الكلام لدى النورسى ؟ .
ب- تجديد منهجية النظر فى علم الكلام :
1- عدم الخوض في المسائل الخلافية (التعايش السلمى): إذا كان علم الكلام في مراحل التدهور التاريخي يؤصل للفرقة والاختلاف بين الفرق والمذاهب الكلامية ، فإن رسائل النور في معالجتها للقضايا الكلامية لم تسع إلى التطرق للقضايا الخلافية بينها باعتبار أن هدف تلك الرسائل هو تجديد الإيمان ، فلم يخض النورسى في الاختلاف بين الفرق الإسلامية حول قضايا الأسماء والصفات ، وهل الصفات قديمة أم حادثة ؟ وهل الصفات هي عين الذات أم زائدة على الذات ؟ وهل الأسماء الإلهية توقيفية أم لا ؟ وهل الاسم أشرف من الصفة أم العكس ؟ تلك المسائل كلها لم يتطرق إليها النورسى، وكان حريصاً على أمر واحد في قضايا الأسماء والصفات ، وهو إثبات فاعلية الذات الإلهية في خلق الكون والإنسان ، وكان يهتم بعرض تجليات الأسماء والصفات في العالم والكون ويقول “إن جميع أنواع الجمال الموجودة في هذا الكون، وفي جميع أنماطه وألوانه، إنما هي تجليات وإشارات وإطارات جمال مقدس عن القصور، ومجرد عن المادة تتجلى من وراء الغيب بوساطة أسمائه ” ([10]).
ومن جانب آخر فقد كان الإمام النورسي يحذر أهل الغفلة من الخوض في مسألة القدر والجزء الاختياري فيقول ” إذا كان الذى يتحدث في القدر والجزء والاختياري من أهل الغفلة فلا يحق له الخوض فيهما ، لأن نفسه الأمارة بالسوء – بدافع من الغفلة والضلالة – تحيل الكائنات إلى الأسباب فتجعل ما لله إليها ، وترى نفسها مالكة لها ، وترجع أفعالاً إلى نفسها أو تسندها إلى الأسباب بينما تحمل القدر المسئوليات والتقصيرات ، وحينئذ يكون الخوض في القدر والجزء الاختياري باطلاً “ ([11]).
وإذا كان من مدونات الفرق الإسلامية ، وكتب علم العقائد ما يؤصل للصراع المذهبي ، وتكفير الفرق بعضها البعض الآخر ، فإن الإمام النورسى كان يحذر من مسألة تكفير الآخرين فيقول ” ينبغي للذين يجرؤون على تكفير الآخرين أن يتدبروا ” ([12]) وذلك من منطلق أن سلاح التكفير بين الفرق الإسلامية يؤدي إلى التناحر والصراع والدماء ، وهذا لم يكن هدفه ، بل كان هدفه هو وحدة المسلمين على اختلاف مذاهبهم وفرقهم ، كما يهدف النورسى إلى إرساء قواعد للتعايش الإيجابى الفعال بين المسلمين .
ولم تقف رسائل النور عند حدود عدم الخوض في المسائل الخلافية في علم الكلام بل كان النورسي يبحث عما يوحد المسلمين ، وما يجمعهم لا ما يفرقهم فيقول ” بأن العلويين اتخذوا حب آل البيت مسلكاً ، ولذلك لا يدخلون إلى الكفر المطلق ، وأن هؤلاء يتمسكون بالإسلام بشدة بوساطة تلك المحبة ، فجلب هؤلاء إلى دائرة السنة النبوية عن طريق الصوفية بعد فائدة جلية ” ([13])وكان النورسى ينظر بصورة إيجابية واضحة إلى الزيدية من الشيعة ، ويرى أن الشيعة الزيدية هم الأقرب إلى أهل السنة ، وأن الإمام زيداً كان من آل البيت فيقول ” أتباع الإمام زيد هم أعدل الشيعة ، وأقربهم إلى السنة ، فيتصفون بالإنصاف وقبول الحق بسرعة “ ([14]).
ولم يتعرض النورسى لعقائد الشيعة بالنقد والتشويه أوالنفي والسلب ، وكان يطالب بضرورة تحقيق الأخوة بين السنة والشيعة ، وضرورة رفع النزاع بين أهل السنة والشيعة لمواجهة الزندقة والإلحاد ومن ثم : يوجه شعاره الرائع إليهما ” يلزمكم نبذ المسائل الجزئية التي تثير النزاع لأنكم أهل التوحيد بينكم مئات من الروابط المقدسة الداعية إلى الأخوة والإيثار” ([15]) إن النورسى كان يحاول أن يتجاوز ما أدى إليه علم الكلام من إرساء للتناحر والصراع بين السنة والشيعة على مستوى النظر ، وعلى مستوى الواقع التاريخي ساعياً إلى ترسيخ التعايش السلمى بين المذاهب الإسلامية المختلفة.
وإذا كانت كتب علم الكلام التقليدي قد تعرضت بالرد والطعن على عقائد اليهود والنصارى – مما أحدث خللاً واضحاً في طبيعة تصور الآخر الناتج عن علم الكلام ، وأحدث خللاً في تعايش الإسلام مع أصحاب الأديان الأخرى – فإن النورسي لم يسع إلى إثارة الخلافات بين المسلمين ، وأصحاب الأديان الأخرى راغباً في التعايش السلمي بينهم وبين الإسلام ، وكان يرى ضرورة الالتحام مع أصحاب هذه الأديان للحفاظ على الأديان في مواجهة المد الإلحادي ، وقد اتسع أفق النورسى لينادي بالاتفاق مع كل الروحانيين في أرجاء العالم كله فيقول: ” إن أهل الإيمان والحقيقة في زماننا هذا ليسوا بحاجة إلى الاتفاق الخالص فيما بينهم ، بل مدعوون أيضاً إلى الاتفاق مع الروحانيين المتدينين الحقيقيين من النصارى فيتركوا ما يثير الخلافات والمناقشات ، وفقاً لعدم جدوى المتعدى لأن الكفر يشن هجوماً عنيفاً “ ([16]) ومن هنا يمكن القول بأن النورسى قد سعى إلى عدم الخوض فى مناطق الخلاف بين المذاهب الإسلامية ، وسعى كذلك إلى البحث عن المشترك بينهم باعتبارهم أهل القبلة ، ودعا إلى التوحد مع المؤمنين في كافة أرجاء العالم لأنه يرغب في أن يحقق للمسلم التعايش السلمى الإيجابي والفعال مع المختلف معهم في المذهب أو الدين ، ولم يرسخ للإقصاء والتناحر المتبادل بين المذاهب والأديان كما فعل علم الكلام في مرحلتة المتأخرة .
2- علم الكلام من الخاص إلى العام ( التجديد اللغوي ): ارتكز علم الكلام التقليدي في بنائه اللغوى على تراكيب لغوية ومصطلحات شديدة الصعوبة قال عنها ابن رشد(ت595هـ) إنها لغة صعبة ومعتاصة ، وهذا ما جعل هذا العلم مقصوراً على أهله، وعلى الخواص دون العوام ، لأن بناءه اللغوي يقتصر فهمه على الخاصة دون العامة ، ولعل هذا أحد الأسباب الكبرى لعزلة علم الكلام التقليدي عن ثقافة الجمهور وعامة الناس لاختلاف مستويات الفهم لديهم ، ومن هنا سعى النورسى في تجديده لعلم الكلام إلى ضرورة نقل هذا العلم من مستوى الخاصة إلى العامة حتي يمكن مخاطبة أكبر قاعدة من الناس ، وحتى يمنحه فاعلية لامتناهية ، وذلك لأن مهمة النورسي كانت تجديد الإيمان في قلوب المسلمين عامة ، ولم يكن علم الكلام سوى الأداة التي ارتضى لنفسه أن يتخذها طريقاً لتجديد الإيمان ، والحفاظ عليه ، ومما لا شك فيه أن أزمة علم الكلام التقليدي فى سيادة لغة تاريخية جامدة تخص العصر الذى تخلق وتطور فيه عبر مدار حركة التاريخ ، فكيف للنورسى أن يبث الحياة في هذا العلم التقليدي ؟ ولم يجد النورسى بُداً من ضرورة تجديد القوالب اللغوية السائدة لهذا العلم حتى يمكن توصيل القضايا الإيمانية لعامة الناس ، ولذلك حرص النورسى في رسائله على ربطها بالقرآن ولغته ، وذلك بسبب قرب لغة القرآن من الفطرة البشرية ، فكان يقول ” إن رسائل النور تفسير للقرآن الكريم ، تفسير نابع من الفطرة مدعوم بالبراهين ” ([17]) وإن رسائل النور لا مصدر لها سوى القرآن ، لا أستاذ لها إلا القرآن ، ولا ترجع إلا إلى القرآن ، ولم يكن عند المؤلف كتاب آخر حين قام بتأليفها فهي ملهمة مباشرة من فيض القرآن ، وتنزل من سماء القرآن ” ([18]) ولذلك فإن النورسى ينسب جميع المزايا الموجودة في رسائل النور إلى القرآن.
وانطلاقا من أهمية التجديد اللغوى لعلم الكلام سعى النورسى إلى تقريب رسائله لغوياً من الناس باستيحاء المنهج القرآني ولغته في ضرب الأمثال حتى تتوافق رسائل النور مع أفهام العامة والخاصة معاً ، ولا تقتصر الرسائل على الخاصة فيقول:” إن القرآن – وكذلك الحديث الشريف – قد ضربَا أمثالاً كثيرة لتقريب الحقائق العظيمة لأفهام الناس ، وحيث أن رسائل النور تفسير للقرآن الكريم ، فإنها كذلك قد أوردت كثيراً من الأمثال التي يمكن أن يعد ضرب الأمثال طابعها المميز” ([19]).
ويرى النورسى أن ما يظهر من جمال وجلال في رسائله إنما هي لمعات ضرب الأمثال الموجودة في القرآن ، وهذه المنهجية فعالة في تقريب قضايا العقيدة إلى أفهام الناس على اختلاف مداركهم فيقول ” أنعم الله علىّ بشعلة ضرب الأمثال التي هي أسطع معجزات القرآن ، وأوضحها رحمة منه جل وعلا لعجزي ، وضعفي ، وفقري ، واضطراري لأنير بها كتاباتي التي تخص خدمة القرآن الكريم ، فبمنظار ضرب الأمثال قد أظهرت الحقائق البعيدة جداً أنها قريبة جداً ، وبسلم ضرب الأمثال قد توصلت إلى أسمى الحقائق وأعلاها سهولة ويسراً ، ومن نافذة ضرب الأمثال قد توصلت إلى أسمى الحقائق وأعلاها سهولة ويسراً ، ومن نافذة ضرب الأمثال قد حصل اليقين الإيماني بحقائق الغيب وأسس الإسلام” ([20]).
إن رغبة النورسى في اقتفاء أثر المنهجية القرآنية في ضرب الأمثال قد أسهم في تجديد لغة علم الكلام وقضايا العقيدة ، وتقريب قضايا هذا العلم إلى الجماهير والعوام ، وذلك لأن ” الذى يضمن رؤيتهم ، ويحقق إدراكهم إلباس المجردات وإكساؤها زى مألوفاتهم تأنيساً لأذهانهم كي يروا المجردات ويعرفوها بمشاهدتها من خلال صور خيالية “ ([21] ) لقد عمد النورسي إلى الانتقال من المجردات إلى المشاهدات ، وتغيير قوالب علم الكلام التقليدي المجرد ، حتى يوسع دوائر الفهم لدى قطاعات عريضة من المتلقيين لخطابه الفكري والعقائدي .
وقد أراد النورسى أن ينقل علم الكلام من الخاصة إلى العامة ، ومن المجرد إلى المتعين عبر التجديد اللغوي في قالب منهجية ضرب الأمثال ، وذلك حتى يحقق تجديد الإيمان في المجال العام للمجتمع ، فيقول النورسى: ” فما دام القرآن مرشداً فمن شأنه بلاغة الإرشاد ، ومماشاة نظر العوام ، ومراعاة حسن نظرهم ، ولا يشوش فكرهم ، ولا يتشرد حسهم بلا مصلحة ، فأبلغ خطاب معهم أن يكون بسيطاً سهلاً لا يعجزهم ، وجيزاً مجملاً فلا يلزم تفصيله ، ويضرب الأمثال لتقريب ما رق من الأمور إلى فهمهم ” ([22]) ويختط النورسى لنفسه من المنهجية القرآنية لغة خاصة في رسائله تسعى إلى تقريب قضايا العقيدة إلى نظر العوام ، وتوسع دائرة اهتمام عوام المسلمين بقضايا ذلك العلم التي كانت مقصورة على قطاع الخواص دون الناس ، والمتخصصين فقط فيها فمن مدخل التجديد اللغوى ينقل النورسي علم الكلام من الخواص إلى العوام ، وذلك حتى يرفع من فاعلية العقيدة فى الممارسة الإيجابية الفعالة فى حياة الأفراد ، وفى المجتمع عامة .
3- من الكوني والمتعين إلى الغيبي : عَمد النورسي إلى تجاوز معالجة علم الكلام التقليدي لقضايا العقيدة بصورة مجردة ، فأراد أن ينزل قضايا العقيدة من السماء إلى الأرض ، ليخاطب جموع الناس على الأرض بلغة الأرض التي يفهما البشر ، وذلك عبر سعيه إلى إثبات قضايا العقيدة من خلال التأمل الكونى والمتعين ، وليخاطب أدوات الإنسان المعرفية كلها من حس وعقل وقلب ، وليس فقط بالعقل المجرد الذى لا يفهمه سوى الخاصة .
وإذا كان الملاحدة في عصر النورسى ينطلقون من الطبيعة الكونية والإنسانية لنفي أي وجود متجاوز لقضايا الدين والعقيدة ، مثل الله واليوم الآخر ، فإن النورسى يركز على ضرورة الانطلاق من المسلمات نفسها التي ينطلق منها الملاحدة والماديون ليثبت وجود الله واليوم الآخر ، ولعل تلك المزية الكبرى لم تكن كائنة في السياق التقليدي لعلم الكلام الذى اعتمد على المجردات العقلية في إقرار قضايا العقيدة ، وهو ما يميز رسائل النور بميزة كبرى باعتمادها على الكونيات عبر التأمل الأنفسي والآفاقي لإثبات قضايا العقيدة ، فيقول النورسى :” إنه يبدأ من الآفاق ، ويشاهد صاحب هذا المنهج تجليات أسماء الله الحسنى وصفاته الجليلة في مظاهر تلك الدائرة الآفاقية الكونية الواسعة، ثم ينفذ إلى دائرة النفس ، فيرى أنوار تلك التجليات بمقاييس مصغرة في آفاق كونه العقلي ، فيفتح في هذا القلب أقرب طريق إلى الله تعالى ، ويشاهد أن القلب حقاً مرآة الصمد فيصل إلى مقصوده ومنتهى أمله” ([23]) ومن ثم يبدو الإنسان بقلبه الصغير يمثل كوناً صغيراً في مقابل العالم وهو الكون الكبير. وقد اعتمد النورسى في إثبات وجود الله على التأمل فى الآفاق ، وبرز ذلك من خلال تأمل الكون في أدلة التعاون ، والعناية ، والاستقراء الكوني ، والنظام .
وإذا كان النورسي يبدأ من تأمل الآفاق ثم يتجه إلى النفس الإنسانية ، فإنه يتجه أيضاً من النفس إلى الكون ، فيقول :” إن السير الأنفسي يبدأ من النفس ، ويصرف صاحب هذا السير نظره عن الخارج – الآفاق – ويحدق في القلب مخترقاً أنانيته ، ثم ينفذ منه ، ويفتح في القلب ، ومن القلب سبيلاً إلى الحقيقة ، ومن هنا ينفذ إلى الآفاق الكونية فيجدها منورة بقلبه ، فيصل سريعاً لأن الحقيقة التي شاهدها في دائرة النفس يراها بمقياس أكبر في الآفاق ، وأغلب طرق المجاهدة الخفية تسير وفق هذا السبيل ، وأهم أسس هذا السلوك هو كسر شوكة الأنانية ، وتخطيها ، وترك الهوى وإماتة النفس “ ([24]).
وإذا تساءلنا عن مدى علاقة التأمل الآفاقى بالتأمل الأنفسي ظهرت الإجابة مشحونة بالوجدانيات الصوفية فيرى النورسى” أن المعلومات الآفاقية لا تخلو من الأوهام ، والوساوس ، وأما إذا استندت إلى الأنفس ، اتصلت بالوجدانيات المشعورة تصفت عن الاحتمالات المزعجة” ([25]) وهنا نرى النورسى يميل إلى ادماج الكونى بالوجدانى القلبى حتى يؤثر فى قلب الإنسان، واستند النورسى فى التأمل الأنفسي والآفاقى إلى القرآن ( سنريهم آياتنا في الآفاق وفي أنفسهم حتى يتبين لهم أنه الحق ) (فصلت :53) ، ولاشك أن ذكر القرآن للكائنات هو ذكر استطرادي لبيان طريق الاستدلال على وجود الله .
ولم يكن التأمل الآفاقى والأنفسى لإثبات قضية وجود الله فقط ، ولكن أيضا لإثبات قضية الحشر واليوم الآخر فيستشهد النورسى بالربيع على قيام الحشر من خلال القدرة الإلهية فيقول:” إن القدرة الإلهية وحكمتها المطلقة التي لا إسراف فيها ، ولا عبث ، والتي تحيي جنائز الأشجار الميتة وهياكلها المنتصبة ، تحييها وهى لا تعد ولا تحصى على سطح الأرض في كل ربيع ، وفي كل سنة بأمر” كن فيكون ” وتجعلها علامة على ” البعث بعد الموت ” فتحشر ثلاثمائة ألف نوع من طوائف النباتات وأمم الحيوانات ، تنشرها فتظهر بذلك مئات الألوف من نماذج الحشر والنشور ، ودلائل وجود الآخرة “ ([26]).
ولم يكتف النورسي بالانتقال من الآفاق إلى إثبات الحشر، بل ينطلق أيضاً من التأمل الأنفسي لإثبات الحشر فيقول:” انظر في وجود الإنسان فإنه ينتقل من طور إلى طور ، من النطفة إلى العلقة ، ومنها إلى المضغة ،ومنها إلى العظم واللحم ، ومنه إلى الخلق الجديد ، ولكل من تلك الأطوار قوانين مخصوصة ، ونطاقات معينة ، وحركات مطردة ، يشف كل منها عن قصد وإرادة واختيار ، ثم تأمل في بقائه ، فإن هذا الوجود يجدد لباسه في كل سنة ، ومن شأنه التحلل والتركب ، أى انقضاض الحجيرات وتعميرها بدل ما يتحلل من المادة اللطيفة الموزعة على مناسبة للأعضاء التي يحضرها صانعها بقانون مخصوص ، ثم تأمل في أطوار تلك المادة اللطيفة الحاملة لأرزاق الأجزاء كيف تنتشر في أقطار البدن انتشاراً تحار فيه العقول ، الخلاصة أن من تأمل في النشأة الأولى لم يبق له تردد في النشأة الأخرى” ([27]) ومن هنا نلاحظ مدى قدرة النورسى على توظيف الأدلة العقلية ليس فقط فى الإلهيات ، ولكن أيضا فى القضايا السمعية ، وعلى رأسها الحشر فيقدم الأدلة العقلية لإثبات قضايا الحشر والإيمان باليوم الآخر.
4- من حِجاج العقل إلى حيوية القلب( فاعلية العقيدة) : إذا كان علم الكلام التقليدي قد قام على الحجاج العقلي الخالص فإن أزمة العقل في التعامل مع قضايا الدين أنه آلة حيادية يستطيع أن يوظفها المؤمن لإثبات قضايا العقيدة ، ويستطيع أن يوظفها الملحد لنفي قضايا العقيدة ، فالعقل آلة متكافئة في التعامل مع قضايا العقيدة ، ولذا نرى أن أهم نقطة في قضية الإيمان هى التصديق القلبي ، لأن قناعات العقل وحدها لا تكفى لكي تحرك الإنسان نحو تنفيذ التكاليف الواردة في الشريعة ، ولكن الإحساس القلبي بقضايا العقيدة هو وحده ما يدفع الإنسان نحو الإقرار بالربوبية وممارسة التكاليف، فتأسيس العمل الإيجابى لا يكون إلا عبر عقيدة حية في قلب الإنسان، وعلى الرغم من أن رسائل النور قد وسعت آفاق العقل في قضايا العقيدة سواء في الرد على الدهرية أم إقامة الأدلة على وجود الله وإدخال العقل في قضايا السمعيات حين حاول النورسى أن يقيم الأدلة على وجود اليوم الآخر عقلاً ، ورغم توسيع مدارات العقل عند النورسي في قضايا العقيدة فإنه كان يرى أن اقتناع العقل وحده ليس بكاف لتجديد الإيمان ، فلابد أن ترتكز تلك القناعات العقلية على تصديق قلبي حتى يرتوى العقل بمعين القلب ، ولا شك أن هذا يكشف عن أثر التصوف في منهجية النورسى في تجديد علم الكلام ، والتي جعلته يقول : ” لا تحسبن أن ما أكتبه شىء مضغته العقول والأفكار، كلا بل فيض على روح مجروح ، وقلب مقروح ، بالاستمداد من القرآن الكريم ، ولا تظنه أيضاً شيئاً سيالاً تذوقه القلب وهو يزول ، بل أغوار من حقائق ثابته انعكست على عقل عليل ، وقلب مريض ، ونفسي عميي ” ([28]).
ويؤكد الإمام النورسى أن رسائل النور التي تخاطب كل مستويات الفهم البشرى ، وتسعى إلى مخاطبة كل أدوات الإنسان المعرفية وأنها كانت نبعاً من فيوضات قلبية ، وهبة ربانية فيقول: ” مسائل رسائل النور ليست نابعة من العلم ، والفكر ، وبالنية والقصد والإرادة ، بل هي بالأكثرية المطلقة سانحات ، وظهورات قلبية ، وتنبيهات و إخطارات على القلب” ([29]) إن هذه الرسائل صدرت عن قلب حى لتخاطب قلوب المؤمنين بضرورة تجديد الإيمان القلبي بقضايا العقيدة ، وذلك الهدف كان هو الهدف المركزي لرسائل النور .
كان النورسى يعي أن تطوير النظر في قضايا العقيدة إنما يكون فقط بضرورة ارتكازها ليس فقط على العقل ، وإنما بتأسيس النظر العقلي على حيوية القلب ، لأن إيمان القلب هو الذى يؤدي إلى التغيير ، وأن قناعات العقل لا تكفى للتغيير داخل النفس ودفعها إلى العمل الإيجابي في المجتمع ، والدليل على ذلك أن قطاعاً كبيراً من علماء الكلام الذين خاضوا فيه بالحجاج العقلي الجاف انتهوا في نهاية حياتهم إلى القول ” اللهم إيماناً كإيمان العجائز ” نتيجة لإدراكهم المتأخر أن الصورة التقليدية لعلم الكلام لم تحقق لهم اليقين المرجو ، ولذلك أدرك الإمام النورسي بحس المتصوف أن ما يمنحه الإيمان القلبي في تغيير الإنسان لا يمكن أن يعادله الوقوف عند حدود الدليل العقلي الجاف فقط .
إن منهجية النورسى المرتكزة على مركزية القلب قد استطاعت أن تحول الإيمان إلى فاعلية خلاقة في حياة الإنسان المؤمن ، فحين يتذوق المؤمن الإيمان القلبي يتحول إلى صاحب فاعلية إيجابية في حياة المجتمع، وكان النورسي يرى أن القلب أو الوجدان الحى هو نفسه يتجه لإثبات وجود الله في كل شئ فيقول ” إن الوجدان لا ينسى الخالق مهما عطل العقل نفسه ، وأهمل عمله ، بل حتى لو أنكر نفسه ، فالوجدان يبصر الخالق ويراه ، ويتأمل فيه ، ويتوجه إليه (….) والعشق الإلهي يسوقه ويدفعه دوماً إلى معرفة الله تعالى ” ([30]) ويمكن القول بأن النورسى فى تركيزه على ضرورة إحياء دور القلب فى مسائل العقيدة وعلم الكلام ، وذلك من منطلق جعل العقيدة لها دور فاعل في العمل الإيجابي فى حياة المؤمنين ، لأن إيمان القلب هو وحده الذى يدفع الإنسان إلى التغيير وممارسة العمل الإيجابي الفاعل بإحساس متقد، وهذا ما يدفعنا إلى بيان دور العقائد فى ممارسة العمل الإيجابى فى رسائل النور .
ب- علم الكلام وممارسة العمل الإيجابي :
- الإيمان بالله ودوره فى العمل الإيجابى:-
استطاع النورسى من خلال تجديد منهجية النظر في علم الكلام خَلق قلب حي لدى المؤمن المطلع على قضايا عقيدته عبر رسائل النور المرتكزة على القرآن ، ولم يكتف النورسى بذلك بل كان حريصاً على بيان كيفية تحول العقائد إلى فضاء وطاقة فعالة في حياة المؤمن الشخصية والاجتماعية ، في علاقة المؤمن بالعالم والكائنات ، والوجود ، فلم يقف النورسي عند حدود العرض النظري لقضايا العقيدة ، ولكنه نظر إلى الإيمان بالله والقدر واليوم الآخر كفاعلية وحياة وجدانية لها دورها البارز في خلق ممارسة إيجابية وفعالة للمسلم داخل حياته وفي علاقته بالآخرين ، ولذا يمكن القول بأن هدف النورسى من تجديد منهجية النظر في علم الكلام إنما كان مقدمة لتأصيل الممارسات الإيجابية الفعالة للإيمان في الحياة الاجتماعية . وذلك حتى يستطيع الإنسان أن يحيا بسلام مع أفراد مجتمعه ، وأن يشكل بنفسه طاقة خلاقة في الحياة الاجتماعية عبر الإيمان بإله واحد.
ويتخلق دور الإيمان في الممارسة الإيجابية في صناعة إنسان مستقر الحال ، وذلك لأن الإنسان حين يسند الأشياء وخلقها إلى ذاتها ، أو إلى الأسباب الطبيعية يعيش حالة من الاضطراب والحيرة ، ولا يتم إرضاء تلك الحيرة والاضطراب وإطفاء جذوة القلق الإنساني إلا من خلال الإجابات المطمئنة التي يقدمها التوحيد للإنسان حول حقيقة وجوده ، وعلاقته بالكائنات ، وعلاقته بالعالم والطبيعة ، فمن خلال مفاتيح الإيمان ينفتح كل مغلق في حالة الحيرة التي يواجهها الإنسان في علاقته بالعالم ، فبسر التوحيد تتكشف للإنسان الإجابة عن الأسئلة المحيرة في خلق الموجودات وعلاقتها بعضها بالبعض الآخر” لولا التوحيد لما انكشفت جميع مزايا الكون وكمالاته المذكورة أيضاً ، ولانقلبت تلك الحقائق السامية الراقية إلى أضدادها ، فبسر التوحيد تكتسب الأشياء والموجودات قيمتها ” ([31]).
ويركز النورسى على بيان أثر الإيمان بالله ، وأثر التوحيد في الممارسات الإيجابية للإنسان ولأنه ” لولا التوحيد لأصبح الإنسان أشقى المخلوقات ، وأدني الموجودات ، وأضعف الحيوانات ، وأشد ذوي المشاعر الحزينة ، وأكثرهم عذاباً وألماً ، ذلك لأن الإنسان يحمل عجزاً لا متناه ، وله أعداء لانهاية لهم ، وينطوي على فقر دائم لا حدود له ، ومع ذلك فإن ماهيته مجهزة بآلات ومشاعر متنوعة ، وكثيرة إلى درجة يستطيع أن يستشعر بها مائة ألف نوع من الآلام ، وينشر مئات الألوف من أنواع اللذائذ ، فضلاً عن أن له من المقاصد والرغبات ما لا يمكن تلبيتها إلا من قبل من ينفذ حكمه في الكون بأسره” ([32])ومن ثم فإن الإنسان بضعفه وحيرته وعجزه لا يجد سلوى سوى الاستناد إلى قوة الإيمان بالله لكي تمنحه القدرة على المواجهة الفعالة لحالات العجز والضعف والفقر التي تتملكه في مواجهة أعباء الحياة الإنسانية .
ويتضح دور الإيمان في تحقيق الممارسة والعمل الإيجابي الفعال في تأسيس التوحيد لعلاقة اتساق وانسجامية واضحة فى علاقة الإنسان بالكائنات وأرجاء العالم وما فيه ، فالإيمان بالله يهب الإنسان من الأنس الروحي مع أرجاء الكائنات ، فيقول النورسى:” إن نور الإيمان بالله سبحانه وتعالى ، والنظر إلى الكون من خلاله ، يجعل الأشجار بل حتى البحار كأنهم أصدقاء مؤنسون ، فضلاً عن ذوي الشعور من عباده ، حيث يكون لتلك الموجودات كلها في نظر المؤمن خدام مؤنسون ، وموظفون أخلاء “([33])، ويترتب على ذلك ” بأنه يتولد بذلك الشعور الإيماني ، والانتساب إلى الأخوة مع جميع أهل الكمال والفضل ، وعندها لا يضيع ، ولا يمحي الذين لا يعدون ولا يحصون من أهل الكمال والفضل ، فالإيمان يورث بقاء لا يعد من الأحبة مع الذين يرتبط بهم بحب وتقدير وإعجاب “ ([34]).
وإذا كان الإيمان يخلق حالة إيجابية للفرد المؤمن في علاقته بأرجاء الكائنات في الكون فإن الإيمان يتكشف دوره في الممارسة الإيجابية الفعالة في خلق روح الوحدة بين أصحاب العقيدة الواحدة ، فيقول النورسى ” إن الإيمان بعقيدة واحدة يستدعى توحيد قلوب المؤمنين على قلب واحد ، ووحدة العقيدة هذه تقتضى وحدة المجتمع ، فأنت تشعر بنوع من الرابطة مع من يعيش معك في طابور واحد ، وبعلاقة صداقة معه إذا كنت تعمل تحت أمر قائد واحد ، بل تشعر بعلاقة أخوة معه لوجودكما في مدينة واحدة، فما بالك بالإيمان الذي يهب لك من النور والشعور ما يريك من علاقات الوحدة الكثيرة وروابط الاتفاق ، ووشائج الأخوة الوفيرة ” ([35]).
ويرى النورسى أهمية دور الإيمان بأنه لا إله إلا الله في أنه ينجى الإنسان من الآلام ، ويقوى روح الإنسان فيقول :” إن روح الإنسان المتلهفة إلى حاجات غير محدودة ، والمستهدفة من قبل أعداء لا يعدون ، هذه الروح المبتلاه بين حاجات لا تنتهي ، وأعداء لا يحضرون ، تجد في هذه الكلمات العظيمة ” لا إله إلا الله ” منبعاً من الاستمداد بما يفتح خزائن رحمة واسعة ترد منها ما يطمئن جميع الحاجات ، وبهذه الرؤيا السديدة ، والتعرف على الله الواحد الأحد ، هذه الكلمة تنجى روح الإنسان من ظلام الوحشة والأوهام ، وتنجى روحه من آلام الحزن والكمد بل تضمن له فرحاً أبدياً وسروراً دائماً “ ([36]) ” إن الإنسان بما يحمله من ماهية جامعة يتألم من الحمى البسيطة كما يتألم من زلزال الأرض وهزاتها ، ويتألم من زلزال الكون العظيم عند قيام الساعة ، ويخاف من جرثومة صغيرة ، فما دام الإنسان هكذا لا معبود له ، ولا ولى ، ولا ملجأ ، ولا منجى إلا لمن بيده مقاليد السموات والأرض وزمام الذرات والمجرات ، وكل شىء تحت حكمه وطوع أرضه ” ([37]) ومن ثم يرى النورسى أن الإيمان نور، وهو أيضاً قوة ، ” فالإنسان الذي يظفر بالإيمان الحقيقي يستطيع أن يتحدى الكائنات ، ويتخلص من ضيق الحوادث مستنداً إلى قوة إيمانية فيبحر متفرجاً على سفينة الحياة ، في خضم أمواج الأحداث بكمال الأمان والسلام ” ([38]).
ويكشف النورسي عن دور الإيمان بالله في قدرته هو الشخصية على مواجهة الآلام والصعاب والعمل الإيجابي الفعال رغم الصعاب والمحن التى عاش فيها فيقول ” إن معرفتي بالشعور الإيماني بأن وجودي هذا أثر من آثار واجب الوجود ، وصنعة من صَنعته ، جعلني أنجو من ظلمات لا حد لها ، وتورثها أوهام موحشة ، وأتخلص من آلام لا حد لها ، نابعة من افتراقات وفراقات غير متناهية ، دافعتني لأمد روابط أخوة وثيقة إلى جميع الموجودات ، وعلمت أن هناك وصلاً دائماً بهذه الروابط مع جميع ما أحبه من الموجودات “ ([39]) .
2- الإيمان الفعال بالقضاء والقدر : ومن منطلق الكشف عن الأثر الفعال للإيمان بالعقائد في العمل الإيجابي الفعال ، وفي الممارسة الإيجابية للإنسان يمكن أن نوضح أثر الإيمان بالقدر في العمل الإيجابي ، وفي خلق إنسان فَعال بعقائده ، حيث تعرضت عقيدة القضاء والقدر للاتهامات من قبل المستشرقين والنخب العلمانية حيث رأوا أن الإيمان بعقيدة القضاء والقدر يؤدي إلى السكون والخنوع ، وذهب البعض أنه ” ليس في البشر من ينسب أمراً إلى القدر إلا عن الجهل بسببه ستراً لجهله ، أو عجزاً عن فعل الخيرات ، ودفع الشر ستراً لعجزه ، وحيث غلب على المسلمين جهل بأسباب المسببات الكونية ، والعجز عن كل عمل التجئوا إلى القدر والزهد تمويهاً لا تديناً “ ([40]) ورأى مصطفى صبرى”أن ثمة دافعاً اجتماعياً خاصاً بأصحاب العقليات الجديدة المتآمرين برعاية الغربيين ضد عقائد الإسلام ، وهو ظنهم بأن عقيدة الإيمان بالقدر المنتهي إلى الجبر تثبط الهمم وتسوق الإنسان إلى التعطيل والتكاسل”([41]).
ويقدم النورسى رؤية إيجابية لأثر الإيمان بالقدر في تحرير روح الإنسان من المخاوف السلبية نتيجة لتسليمه أموره إلى قدر الله ، وأن للقدر دوره الكبير في خلق وتحديد طبيعة الوجود سواء كان مادياً أم روحياً ، لأن كل شىء في العالم يسير وفقاً للقدرة الإلهية ، ولذلك فعلى الإنسان أن يتحرر من المخاوف والوساوس ، ويمارس الفعل بشكل إيجابي فيقول النورسي :” إن المقدار المنظم لكل شىء يبين القدر بوضوح ، فلو دقق النظر إلى كائن حي لتبين أن له شكلاً ومقداراً كأنه قد خرج من قالب في غاية الحكمة والإتقان ، بحيث أن إتخاذ ذلك القدر والشكل والصورة إما أن يأتي من وجود قالب مادي خارق في منتهى الانثناءات، والانحناءات ، أو أن القدرة الإلهية تفضل تلك الصورة، وذلك الشكل ، وتلبس الشجرة بقلب معنوي علمي موزون أتى من القدر” ([42]).
ويطلب النورسى من الإنسان المؤمن أن يؤمن بدور القدر في تخطيط أمر العالم حتى يتمكن من التعايش مع من حوله ، وذلك لأن عالم الشهادة المنتظم الأجزاء في قوالب ومقادير يراه النورسى في ضوء فاعلية القضاء والقدر فيقول: ” ليس إلا يدالقضاء والقدر هى التي قدرت على مقدار قامات الأشياء تعينت أولاً ، فبينت الأشياء على هندستها فإن شئت فانظر إلى بدنك في اعوجاجاته، ويدل بأصابعها فينتقل بالحدس الصادق من هذا القدر الضروري إلى القدر النظري في المعنويات والأحوال ، إذ أنها هي أيضاً نهايات ، وغايات مثمرة ، وحدود وآجال منتظمة ، وهي مقاديرها ، وهى قوالبها ترسمت بين القضاء والقدر فكتبت القدرة كتاب المعنى على سطر القدر” ([43]) ولاشك أن هذا الإيمان بأثر القدر في بناء العالم ،وإحالة الخلق إلى سطور القضاء والقدر يحرر الإنسان بتسليمه من الأوهام والصراعات ، ويحرره من المخاوف.
وإذا كان العالم قد ترسم وفقاً لقضاء الله وقدره بما يعنى تصالح الإنسان مع العالم كمخلوق لله ، فإن النورسى يدعو الإنسان المؤمن إلى الإيمان بالقدر عن يقين ، لأن في ذلك سلامة للنفس الإنسانية فيقول: ” أيتها النفس المتضجرة القلقة إن كل أحوالك في التعين والنقش في جبهتك بقلم القدر كطلوع الشمس وغروبها فإن أردت أن تضربي سندان القدر برأسك العليل ، فتضجرى واعلمي يقيناً أن من لا يستطيع أن ينفذ من أقطار السموات والأرض ، لابد أن يرضى رضا محبة وربوبية من ( وخلق كل شىء فقدره تقديراً ) (الفرقان :2) ” ([44])
ويرفض النورسى إتهام عقيدة الإيمان بالقضاء والقدر بأنها مُكبلة ، وأنها تسلب من الإنسان الإحساس بالحرية ، وأنها تولد ثقلاً على القلب ، وضيقاً في الروح ، ويذهب النورسى إلى أن ” الإيمان بالقدر لا يورث ضيقاً ، فإنه يمنح خفة بلا نهاية ، وراحة بلا غاية ، وسروراً ونوراً يحقق الأمن والأمان ، والروح والريحان ، لأن الإنسان إذا لم يؤمن بالقدر يضطر لأن يحمل ثقلاً بقدر الدنيا على كاهل روحه الضعيف ، ضمن دائرة ضيقة ، وحرية جزئية ، وتحرر مؤقت ، إلا أن قدرته وإرادته لا تكفى لإبقاء واحد من مليون من تلك المطالب والمقاصد ، ومن هنا يفهم مدى ما يقاسيه الإنسان من ثقل معنوي في عدم الإيمان بالقدر” ([45]).
ومن جانب آخر يمنح الإيمان بالقضاء والقدر الإنسان الإحساس الداخلي بعدل الله ، لأن عقيدة القضاء والقدر هي عين العدل ، ومنزه عن الظلم لأن القدر رحمة إلهية ، ومن ثم ” إن ما يبدو من ظلم في بعض الحوادث إنما يكون نتيجة لنظر الإنسان إلى الأحداث في أسبابها الظاهرية في حين أن لكل حادثة سببين اثنين : الأول سبب ظاهري يحكم الناس على وفقه وكثيراً ما يظلمون ، والثاني : سبب حقيقي يقضى القدر الإلهي على وفقه فيعدل تحت ظلم البشر في الحادثة نفسها “ ([46]) ولاشك أن إحساس الإنسان بالعدل الإلهى يدفعه إلى العمل الإيجابى الفعال لأن الله لم ولن يظلم أحدا.
ويكشف لنا النورسى عن مدى فاعلية الإيمان بالقدر في العمل الإيجابي ، فنجده يفسر عزلته عن الناس فيقول:”إن لهذه العزلة سبباً ظاهرياً وآخر حقيقاً، وقد أصبح أهل الدنيا سبباً ظاهرياً أما القدر الإلهي فهو السبب الحقيقي فحكم علىّ بهذه العزلة ، والسبب الظاهري ظلم ، أما السبب الحقيقي فقد عدل ، والسبب الظاهري فكر على هذا الخط أن هذا الرجل يخدم العلم والدين بإفراط فلربما يتدخل في أمور دنيانا ، أما القدر الإلهي فقد رأى أننى لا أخدم الدين والعلم خدمة خالصة كاملة فحكم علىّ بهذا النفي ، وحول ظلمهم المضاعف إلى رحمة مضاعفة ” ([47]) وهنا يتضح أن الإيمان بالقدر لدى النورسى وتلاميذه كان له دوره البارز فى تحمل الصعاب والمشاق، ويتجلى أثر الإيمان بالقدر واضحاً في فقه الدعوة عند النورسى وتلاميذه ، فحين يتحدث عن سجنه هو وتلاميذه عدة مرات ، فيرى أن القدرهو الذى ساقهم إلى هذا السجن ، وعليهم أن يسلموا بلا ضجر ، وأن يصبروا على تحمل المشقات فيقول:” لعل القدر الإلهي هو الذي ساقنا إلى هذا السجن ، أما نحن فإن مرشدنا القائل (من آمن بالقدر أمن من الكدر) لذا فقد عقدنا العزم على تحمل جميع صنوف مضايقتكم بكمال وصبر ” ([48]).
3- فاعلية الإيمان باليوم الآخر : يتحدث النورسى عن أثر الإيمان باليوم الآخر في خلق فاعلية وممارسة إيجابية للإنسان في الحياة الاجتماعية فيقول إن الإيمان باليوم الآخر ينقذ الإنسان من الإعدام الأبدي ، ومن ثم فإن ” النجاة من الإعدام الأبدي ، والخلاص من السجن الانفرادي ، وتحويل الموت إلى سعادة أبدية إنما يكون بالإيمان بالله ، وطاعته ليس إلا ” ([49]) وذلك لأن الموت لأهل الإيمان تسريح من الوظيفة ، والأجل هو بطاقته فالموت إذن تبديل مكان ، ومقدمة لحياة باقية، وباب إليها، وهو انطلاق من سجن الدنيا إلى بساتين الأخرة ([50])
وإذا كان علم الكلام التقليدي قد تناول الحشر كقضية سمعية فإن النورسى قد ركز على بيان فاعلية الإيمان بالحشر على مجمل الحياة الإنسانية والاجتماعية فيقول:” إن عقيدة الآخرة هي أساس الأساس لحياة الإنسان الاجتماعية والفردية ، وأساس كمالاته ومثله وعاداته “ ([51]) وذلك لأن الإيمان باليوم الآخر له تأثير فعال على حياة الإنسان وفاعليته ، وفي نظرته لنفسه وللعالم فيقول النورسى:” إن الأجهزة المعنوية الممنوحة للإنسان إذا ما استعملها في سبيل النفس والدنيا غافلاً ، وكأنه مخلد تصبح تلك الأجهزة المعنوية منابع أخلاق سيئة دنيئة ، ومصادر إسراف في الأمور ، ومنشأ لعبثية لا حائل وراءها ، ولكن إذا ما وجه أحاسيسه تلك الخفيفة منها إلى الدنيا ، والشديدة منها إلى العقبى وأعمال الآخرة ، والأفعال المعنوية فإنها تكون منشأ للأخلاق الفاضلة ، وسبيلاً مجهزاً إلى سعادة الدارين ، ومنسجمة انسجاماً تاماً مع الحكمة والحقيقة ” ([52]).
ويبرز النورسى أثر الإيمان باليوم الآخر على حياة الإنسان من الطفولة إلى الشيخوخة وهو أثر يسهم في تدعيم الممارسة الإيجابية الفعالة للإنسان في مواجهة آلام الحياة ، فيقول النورسى:” إن الأطفال الذين يمثلون نصف البشرية لا يمكنهم أن يتحملوا الحالات التى تبدو مؤلمة ومضجعة أمامهم من حالات الموت والوفاة إلا بما يجدونه من أنفسهم وكيانهم الرقيق اللطيف من القوة المعنوية الناشئة من الإيمان بالجنة ذلك الإيمان الذى يفتح باب الأمل المشرق أمام طبائعهم الرقيقة التي لا تتمكن من المقاومة والصمود وتبكى لأى سبب فيتمكنون من العيش بهناء وفرح وسرور ، أما بالنسبة للشباب فإن الشباب المراهقين الذين يمثلون محوراً للحياة الاجتماعية لا يهدئ فورة مشاعرهم ، ولا يمنعهم في علاقاتهم الاجتماعية إلا الخوف من نار جهنم، فلولا هذا الخوف من عذاب جهنم لقلب هؤلاء المراهقين الطائشين الممثلين بأهوائهم الدنيا إلى حمم تتأجج على الضعفاء والعجائز ، واستطاعوا بذلك أن يحولوا الحياة الإنسانية إلى حياة حيوانية سافلة “ ([53]).
وأماعن الأثر الإيجابي للإيمان باليوم الآخر على حياة الشيوخ ، وعلى ممارساتهم وفعلهم الإيجابي ، وعلى زيادة قوة وقدرة هؤلاء الشيوخ على تحمل الأعباء ، وفلأن الإيمان باليوم الآخر يمنحهم قوة وفاعلية حيث فإنهم لا يجدون من الصبر والسلوان من قرب انطفاء شعلة حياتهم العزيزة عليهم ، ولا من انفلات باب دنياهم الخلوة الجميلة في وجوههم إلا في ذلك الإيمان ، فهؤلاء الشيوخ الذين عادوا كالأطفال ، وأصبحوا مرهفى الحس في أرواحهم وطبائعهم إنما يقابلون ذلك اليأس القاتل الأليم الناشىء من الموت والزوال ، ويصبرون عليه بالأمل والحياة الآخرة ، فلولا الإيمان بالآخرة لشعر هؤلاء الآباء والأمهات اضطراماً روحياً واضطراباً نفسياً ، وقلقاً قلبياً ولضاقت عليهم الدنيا بما رحبت ، ولتحولت سجناً مظلماً رهيباً ، ولانقلبت الحياة إلى عذاب أليم “ ([54]) ومن ثم يرى النورسى أن الإيمان بالآخرة ينقذ الإنسان من التردى والسقوط ، ويرفعه إلى أعلى عليين فيقول ” إن الإيمان بالحشر ينقذ الإنسان والمخلوقات جميعاً من التردى إلى هاوية أسفل سافلين ، وهو الفناء المطلق ، ويرفعه إلى أعلى عليين ، وهو الرفعة والبقاء ، وتقلد الواجبات” ([55]).
ومن ثم فإن الإيمان بالآخرة يمثل طاقة إيجابية فعالة في مواجهة الإنسان للحياة ، لأن الذى لا يؤمن بالغيب يعيشون في جحيم ، وذلك ” لأن الذين لا يؤمنون بالغيب تكون الأزمنة المقبلة معدومة بالنسبة إليهم ، وذلك لعدم إيمانهم بالغيب فمثلاً الفراقات الأبدية التي لا تنقطع ، تجعل حياتهم كظلمات قاتمة ما داموا جاحدين بالبعث والنشور ” ([56]).
وإذا كان للحشر كل هذا التأثير على حياة الإنسان بصفة عامة ” فإن الحياة العائلية التي هي مركز تجمع الحياة الدنيوية ولبها ، وهي حب السعادة ، وقلعتها الحصينة ، وملجؤها الأمين ، وإن بيت كل فرد هو عالمه ، ودنياه الخاصة ، فلا سعادة لروح الحياة العائلية إلا بالاحترام المتبادل الجاد ، والوفاء الخالص بين الجميع ، والرأفة الصادقة ، والرحمة التي تصل إلى حد التضحية والإيثار، ولا يحصل الاحترام الخالص ، والرحمة المتبادلة إلا بالإيمان بوجود علاقات صافية أبدية ورفقة دائمة ومعية سرمدية في زمن لا نهاية له ، وتحت ظل حياة لا حدود لها ترتبط بها علاقة أبوية محترمة مرموقة ، وأخوة خالصة نقية ، وصداقة وفية ونزيهة “ ([57]).
وكذلك فإن الإيمان بالحشر له دوره الكبير على حياة المظلومين والمرضى والفقراء والمساجين وذلك لأن” المرضى والمظلومين أمثالنا من ذوي المصائب والفقراء والمساجين الذين حوكموا بعقوبات مشددة ، كل هؤلاء يمثلون الجزء الأهم من البشرية ، فإن لم يعنهم الإيمان بالآخرة ، وإن لم يتسلوا به، فإن الموت الذى يجدونه أمامهم دائماً بما عندهم من مرض ، وإن الإهانة التي يرونها من الظلمة ، وإن اليأس النابع من أموالهم وأولادهم من الضياع في الكوارث ، وإن الضيق الشديد الناشىء من آلام ذلك السجن وعذابه لسنوات : كل ذلك يُصير الدنيا – بلا ريب – سجناً كبيراً لهؤلاء المنكوبين ، ويجعل الحياة نفسها عذاباً أليماً لهم ، ولكن ما أن يمدهم الإيمان بالآخرة بالعزاء والسلوان إلا ينشرحون نوراً ، ويتنفسون الصعداء لما يروى عنهم من الضيق واليأس ، والقلق والاضطراب “ ([58]) ومن هنا نلاحظ مدى التأثير الإيجابى الفعال للإيمان باليوم الآخر فى حياة المؤمن.
ويرى النورسى أن الإيمان بالحشر له أثره الكبير على المجتمع البشري ككل ، فإن كل مدينة بيت واسع لسكنتها فإن لم يكن الإيمان بالآخرة مسيطراً على أفراد هذه العائلة الكبيرة فيستولى عليهم الحق والمنافع الشخصية ، والاحتيال والأنانية، والتكلف ، والرياء ، والرشوة ، والخداع ،وإذا ماحكم الإيمان بالآخرة هذه البيوت ،وسيطر فإن الفضائل تتكشف وتنبسط ، وتتوضح فيها فتظهر الاحترام المتبادل ، والرحمة الجادة ، والمحبة الخالصة بلا غرض ، وتشيع الفضائل الأخرى” ([59]).
ويسأل النورسى علماء الاجتماع والسياسة والأخلاق بأنه إن لم يكن هناك الإيمان بالحشر موجوداً بماذا كانوا سيداوون آلام الناس ، فيقول النورسى: ” فليصغ السمع علماء الاجتماع والسياسة والأخلاق من المعنيين بشئون الإنسان وأخلاقه واجتماعه ، وليأتوا ليبنوا بماذا سيملئون هذا الفراغ ، وبماذا سيرون هذه الجروح الغائرة العميقة “ ([60]) وقد اتفق أحد المعاصرين مع النورسى في دعوته فيقول محمد رشيد رضا:” إن الإيمان باليوم الآخر، وما يكون فيه من البعث والحساب والجزاء على الأعمال هو الركن الثاني للدين الذى بعث الله به الرسل عليهم السلام ، وبه يكمل الإيمان بالله ، ويكون باعثاً على العمل الصالح وترك النواجس ، والمنكرات ، والبغي ، والعدوان ” ([61]).
ومماسبق نلاحظ مدى العلاقة الوثيقة بين سعي النورسي إلى تأسيس منهجية جديدة للنظر فى علم الكلام تبتعد عن المسائل الخلافية فى هذا العلم ، وتؤسس لتجديد العلم بناء على التجديد اللغوى ، وتسعى إلى التركيز على المتعين والكونى للوصول إلى الغيبى ، وتروى آفاق العقل بمعين الوجد والقلب ، وذلك حتى يتجدد للمؤمن حضور العقيدة فى القلب بما يمكن أن تسهم فى الممارسة الفعالة والإيجابية فى حياة المؤمن الخاصة والإجتماعية ، فيحدث تناسق وانسجامً بين المؤمن وكافة الموجودات فى أرجاء الكون ، ولذا وجدنا النورسى يسعى إلى بيان أثر الإيمان بالله ، والقضاء والقدر ، واليوم الآخر على حياة الإنسان وعلاقاته المختلفة بما يمكن أن يدعم الممارسة الإيجابية له فى حياته.
الحواشي
([1]) ابن خلدون ، المقدمة ، تحقيق على عبد الواحد وافى ، الهيئة المصرية العامة للكتاب 2006، جـ 3، ص966
([2]) الإيجي ( عضد الدين ) ، المواقف في علم الكلام ، مكتبة المتبنى ، القاهرة ، بدون ، ص
([3]) الغزالى( أبو حامد ) ، إحياء علوم الدين ، دار البيان العربي ، بيروت ، بدون ، 1/ ص 84
([4]) السيوطى ( جلال الدين ) ، صون المنطق والكلام عن فن المنطق والكلام ، تحقيق على ساس النشار ، مكتبة الخانجى، القاهرة ، 1947 ، ص 31 .
([5]) ابن تيمية ( أحمد ) شرح العقيدة الأصفهانية ، تقديم حسنين مخلوف ، دار الكتب الإسلامية ، القاهرة ، بدون ، ص 104 .
([6]) محسن عبد الحميد ، تجديد الفكر الإسلامي ، دار الصحوة ، القاهرة ، ط 1 ، 1984 ، ص 87 .
([7]) سعيد النورسى ، ملحق قسطموني ، الملاحق ، ترجمة إحسان قاسم ، دار سوزلر للطباعة والنشر، القاهرة ، ط2 1995 ، ص 196 .
([8]) النورسى ، ملحق بارلا ، الملاحق ، ص 75 .
([9]) النورسى ، ملحق فسطموني ، الملاحق ، ص 208 .
([10]) النورسى ، الشعاع الرابع ، الشعاعات ، ترجمة إحسان قاسم ، دار سوزلر ، القاهرة ، ط2 1993 ، ص 148 .
([11]) النورسى ، رسالة القدر ، الكلمة السادسة والعشرون ، الكلمات ترجمة إحسان قاسم ، دار سوزلر ، القاهرة ، ط 2 1992 ، ص 544 .
([12]) النورسى ، السنوحات ، صيقل الإسلام ، ترجمة إحسان قاسم ، دار سوزلر ، القاهرة ، ط2 1995 ، ص 339 .
([13]) النورسى ، الملاحق ، ص 309 .
([14]) النورسى ، الملاحق ، ص 175 .
([15]) النورسى ، اللمعة الرابعة عشر، اللمعات ، ترجمة إحسان قاسم، دار سوزلر ، القاهرة، ط2 1993 ص 38 .
([16]) النورسى ، الملاحق ، ص 229 .
([17]) النورسى ، الشعاع الرابع ، الشعاعات ، ص 95 .
([18])النورسى ، ملحق قسطموني ، الملاحق ، ص 214 .
([19]) إحسان قاسم ، النورسى حياته وآثاره ، دار سوزلر ، القاهرة ، ط3 1988، ص 178 – 179 .
([20]) النورسى ، سيرة ذاتية ، إعداد إحسان قاسم ، دار سوزلر ، القاهرة ط1 1998، ص 243 .
([21]) النورسى ، إشارات الإعجاز في مظان الإيجاز ، دار سوزلر ، القاهرة ، ط1 1994، ص 175 ، وأيضاً صيقل الإسلام ، ص 59 .
([22]) النورسى ، المثنوي العربي النورى ، دار سوزلر القاهرة ، القاهرة ط1 1995 ص، وأيضاً صيقل الإسلام ، ص 59 .
([23]) النورسى ، رسالة التلويحات التسعة ، المكتوب التاسع والعشرون ، المكتوبات ، دار سوزلر للطباعة والنشر، القاهرة ، ط2 1993 ، ص 575.
([24]) النورسى ، رسالة التلويحات التسعة ، المكتوب التاسع والعشرون ، المكتوبات ، ص 575 .
([25]) النورسى ، حبة من نواتات ثمرة من ثمار القرآن ، المثنوي العربي ، ص 226 .
([26]) النورسى ، رسالة الشيوخ ، اللمعة السادسة والعشرون ، اللمعات ، ص 348 .
([27]) النورسى ، رسالة الحشر ، الكلمة العاشرة ، الكلمات ، ص 97 ، وأيضاً إشارات الإعجاز ، ص 65-66 .
([28]) النورسى ، سيرة ذاتية ، ص 167 .
([29]) النورسى ، ملحق قسطموني ، الملاحق ، ص 205 .
([30]) النورسى ، نقطة من معرفة الله جل جلاله ، المثنوي ، ص 431 .
([31]) النورسى ، الشعاع الثاني ، الشعاعات ، ص 14 .
([33]) النورسى ، الكلمة الثانية ، الكلمات ص 11 .
([34]) النورسى ، الشعاع الرابع ، الشعاعات ، ص 21 .
([35]) النورسى ، المكتوب الثاني والعشرون ، المكتوبات ص 341 .
([36]) النورسى المكتوب العشرون ، المكتوبات ، ص 290 .
([37]) النورسى ، الكلمة الثالثة والعشرون ، الكلمات ، ص 352 .
([38]) النورسى ، رسالة الشيوخ ، اللمعة السادسة والعشرون ، اللمعات ، ص 391 .
([40]) عبد الرحمن الكواكبي ، أم القرى ، المطبعة العصرية ، حلب ، بدون تاريخ ، ص 27 .
([41]) مصطفى صبرى ، موقف العقل والعالم من رب العالمين وعباده المرسلين ، مكتبة الإيمان ، القاهرة ، 1950 ، جـ 3، ص 391 .
([42]) النورسى ، رسالة القدر ، الكلمة السادسة والعشرون ، الكلمات ، ص 549 .
([43]) النورسى ، قطرة من بحر التوحيد ، المثنوي ، ص 121 .
([44]) النورسى ، حبة من نواتات ثمرة من ثمار القرآن ، المثنوي ، ص 225 .
([45]) النورسى ، رسالة القدر ، الكلمة السادسة والعشرين ، الكلمات ، ص 522 .
([46]) النورسى ، الشعاع الثالث ، الشعاعات ، ص 356 .
([47]) النورسى ، المكتوب الثالث عشر ، المكتوبات ، ص 58 .
([48]) النورسى ، دفاع محكمة دنيزلي ،الشعاع الثاني عشر ، الشعاعات ، ص 331 .
([49]) النورسى ، الكلمة الثالثة والعشرون ، الكلمات ، ص 357 .
([50]) النورسى ، الشعاع الثاني ، الشعاعات ، ص 21 .
([51]) النورسى ، رسالة الحشر ، الكلمة العاشرة ، الكلمات ، ص 618 .
([52]) النورسى ، المكتوب السادس ، المكتوبات ، ص 41 .
([53]) النورسى ، رسالة الحشر ، الكلمة العاشرة ، الكلمات ص 105 وأيضاً الشعاع التاسع ، الشعاعات ، ص 292.
([54]) النورسى ، رسالة الحشر ، الكلمة العاشرة ، ص 105 ، الشعاع الثامن عشر ، الشعاعات ، ص 280.
([55]) النورسى ، رسالة الحشر ، الكلمة العاشرة ، الكلمات ص 74 .
([56]) النورسى ، الكلمة الثالثة عشر ، الكلمات ، ص 161 .
([57]) النورسى، رسالة الحشر ، الكلمة العاشرة ، الكلمات ص 106 ، وأيضاً الشعاع الحادي عشر ، الشعاعات ص 582 .
([58]) النورسى ، رسالة الثمرة ، الشعاع الحادي عشر ، الشعاعات ، ص 281 .
([59]) النورسى ، رسالة الثمرة ، الشعاع الحادي عشر ، ص 283 .
([60]) النورسى ، رسالة الحشر ، الكلمة العاشرة ، ص 106 .
([61]) محمد رشيد رضا ، الوحى المحمدى، الزهراء للإعلام العربى ، القاهرة ،1988 ، ص 213 .
قائمة المصادر والمراجع
1- مؤلفات النورسى :-
- النورسى ، الملاحق ، ترجمة إحسان قاسم ، دار سوزلر للطباعة والنشر، القاهرة ، ط2 1995 .
- —–، المثنوي العربي النورى ، دار سوزلر القاهرة ، القاهرة ط1 1995 .
- —– ، صيقل الإسلام ، ترجمة إحسان قاسم ، دار سوزلر ، القاهرة ، ط2 1995.
- —– ، الشعاعات ، ترجمة إحسان قاسم ، دار سوزلر ، القاهرة ، ط2 1993 .
- —–، الكلمات ، ترجمة إحسان قاسم ، دار سوزلر ، القاهرة ، ط 2 1992 ، .
- —–، إشارات الإعجاز في مظان الإيجاز ، دار سوزلر ، القاهرة ، ط1 1994
- —–، اللمعات ، ترجمة إحسان قاسم، دار سوزلر ، القاهرة، ط2
- —–، المكتوبات ، دار سوزلر للطباعة والنشر، القاهرة ، ط2 1993 .
- —–، ، سيرة ذاتية ، إعداد إحسان قاسم ، دار سوزلر ، القاهرة ط1
2- مصادر ومراجع عامة:-
- ابن خلدون (عبد الرحمن)، المقدمة ، تحقيق على عبد الواحد وافى ، الهيئة المصرية العامة للكتاب 2006.
- ابن تيمية ( أحمد ) شرح العقيدة الأصفهانية ، تقديم حسنين مخلوف ، دار الكتب الإسلامية ، القاهرة ، بدون.
- إحسان قاسم ، النورسى حياته وآثاره ، دار سوزلر ، القاهرة ، ط3 1988.
- الغزالى( أبو حامد ) ، إحياء علوم الدين ، دار البيان العربي ، بيروت ، بدون تاريخ .
- السيوطى ( جلال الدين ) ، صون المنطق والكلام عن فن المنطق والكلام ، تحقيق على ساس النشار ، مكتبة الخانجى، القاهرة ، 1947 .
- الإيجي ( عضد الدين ) ، المواقف في علم الكلام ، مكتبة المتبنى ، القاهرة ، بدون تاريخ ،
- عبد الرحمن الكواكبي ، أم القرى ، المطبعة العصرية ، حلب ، بدون تاريخ ،
- محسن عبد الحميد ، تجديد الفكر الإسلامي ، دار الصحوة ، القاهرة ، ط 1 ، 1984 ، ص 87 .
- محمد رشيد رضا ، الوحى المحمدى، الزهراء للإعلام العربى ، القاهرة ،1988.
- مصطفى صبرى ، موقف العقل والعالم من رب العالمين وعباده المرسلين ، مكتبة الإيمان ، القاهرة ، 1950.