د. عبد الحق دحمان
الوحدة السياسية
المجدد للبحوث والدراسات
يقصد بالخطاب الديني عادة كل أشكال التعبير التي توظف الدين في الشأن العام (السياسي، والاقتصادي، والاجتماعي، والثقافي) بهدف إيصال فكرة ما، ومحاولة إقناع المجتمع أو الفئة المستهدفة بها، ويلعب هذا الخطاب دوراً مركزياً في الكثير من التحولات التي يشهدها المجتمع اليوم، ولكن في نفس الوقت قد ينحرف الى حد ما إذا تم تسييسه في سياق سلبي معين لمآرب تتعلق بالسياسة ودائرة المصالح الضيقة، وهو ما يعرف بــ: “تسييس الخطاب الديني”.
فأول عناوين الصراع الحاصلة في السنوات الأخيرة في العالم الإسلامي كانت تتعلق تقريباً بهذا الجانب، إذ غالباً يتم اتهام أطراف معينة (بعض السياسيين، والأحزاب السياسية، والجماعات الإسلامية) بتوظيف الدين وتسييس خطاباتهم وتحويل المساجد والمنابر السياسية كأدوات لتوجيه المسلمين والمصلين نحو مشاريعهم الايدلوجية والسياسية والفكرية، خاصة إذا تحدثنا عن بعض الاتجاهات الجديدة في العالم الإسلامي كالتوجه الإبراهيمي، أو تبرير الإرهاب في سوريا والعراق أثناء مرحلة نضج تنظيم الدولة الإسلامية. ويرجع هذا التسييس بالدرجة الأولى إلى إدراك مستخدميه بأنه وصفة نموذجية لكل البشر في كل الأوقات، كونها تجبر وتحرك الشعوب البسيطة أكثر من أي متغير آخر، خاصة إذا افتقر الواقع والجانب الديني إلى ألسنة خطابية مجتهدة.
ومما لا شك فإن هذا الإشكال الذي برز بشكل واضح خصوصاً في الاثنتي عشر سنة الأخيرة خلال الحراك العربي بعد ظهور دعوات لتجديد الخطاب الديني كمخرج للمجتمعات الإسلامية، وكبديل سياسي وحضاري ممكن لإدارة وحل العديد من المشاكل التي تعاني منها مختلف المجتمعات المسلمة.
فما هي إذن مظاهر تسييس الخطاب الديني في الحاضر الإسلامي؟ وما هي أسباب اللجوء إليه؟ وما هي سلبياته وإيجابياته؟
إن الحديث عن علاقة الدين بالسياسة في العالم الإسلامي اليوم أصبح يتصف بكونه القضية الإشكالية، خاصة بعد اتساع تأثير تيار الهيمنة (العلمانية) ذات المصدر الخارجي كفكرة، وكتوجه يحاول إعادة تنظيم، ورسم أسس العلاقة بين البعدين على نحو من التمايز والاستقلالية المتبادلة بينهما، بحيث لا يتم تسييس الدين (تأثير السياسة على الدين، والتدخل فيه)، أو العكس تديين السياسة (الدين كمحرك للسياسة)، لاعتقاد الكثير من المؤيدين لهذه الفكرة بأن الدين شأن خاص بالأفراد، في حين أن السياسة شأن عام، فالسياسة تتضمن العلاقة بين السلطان والرعية، بينما الدين يتضمن العلاقة بين الإله والمخلوق، لكن في الحقيقة هذا التوجه مثالي وجامد لا يمكن تطبيقه وتعميمه على مختلف مجالات الحياة حتى في الدول التي تدعي العلمانية، ولا يمكن تطبيقه في العالم الإسلامي؛ لأن هوية المجتمع المسلم وعلاقته بالسياسة لا يمكن فصلها عن الإسلام، فإذا استقرأنا المضامين الوحيانية للإسلام فسنجده يتحرك في ثلاثية متفاعلة تتعلق بالعلاقة بين الخالق والمخلوق، المخلوق والمخلوق، والمخلوق ونفسه، وهو بذلك برنامج شامل يغطي مساحات واسعة من حركة الحياة التي لا تتوافق مع التوجه العلماني الذي يريد عزل الدين عن السياسة . وبالتالي فإن هذا الواقع ذات المصدر الخارجي لا يتوائم مع طبيعة المسلمين الذين يعتبرون الإسلام منهجاً يوجههم في الكثير من شؤون الحياة. ومن جانب آخر فضمن هذه العلاقة بين السياسة والدين، فلقد تصاعد توظيف هذا الأخير عبر تحريف النص في سياقات أخرى ذرائعية ومصلحية، لا سيما إذا كانت الجهة المعنية به غير متبنية للقضية، ولا تؤمن بالدين، ولا يدخل ضمن اهتماماته، غير أنها تعمل على احتكاره، والتستر تحت عباءة الدين من خلال توظيف الخطاب الديني وتوجيه المساجد والزوايا، ودعم جماعات وأحزاب دينية معينة من أجل البقاء في السلطة وضمان مصالحها.
ولقد تحول الخطاب الديني إلى ورقة مهمة ليس فقط في أيدي التيارات الإسلامية كما يعتبرها البعض، بل حتى لدى الأنظمة الحاكمة من أجل ضمان موقعها، والبقاء في السلطة، وكذلك البحث عن موقع مهم، ومؤثر اجتماعياً، ضف إلى ذلك مجموعة من الأسباب على النحو الآتي:
- محاولة جذب شعبية المسلمين لإدراك السياسيين بأن الدين هو أفضل متغير محرك لمشاعرهم وسلوكاتهم، وذلك من خلال تجييش مشاعرهم عبر الخطاب، واستقطاب أكبر عدد من المناصرين في مجتمعات يحتل فيها الدين الإسلامي مكانة جد مهمة، ورئيسي، وبالتالي يسهل لهم الأمر استعمالهم للدين كورقة ضاغطة ضمن لعبة الصراع السياسي على السلطة.
- التأثر بالمعطى الخارجي، ومدى تعاطي الشعوب مع تسييس الخطاب الديني في منطقة معينة، فإذا نجح في مكان معين ، فإن امتداداته ممكنة في مناطق أخرى مجاورة، خاصة إذا تشابهت الظروف والعوامل المجتمعية والاقتصادية، وهنا عادة ما تعمل بعض الفئات باستغلال الدين وتوظيفه من أجل الوصول إلى مصالح ضيقة تعكس توجهاتها وأهدافها الخفية.
- تمرير مشاريع عديدة تحت مسمى “الإسلام الوسطي” أو “الإسلام كيوت” أو “العائلة الإبراهيمية” الذي يبحث عنه الغرب وفقاً لتصوراته وتوجهاته وأهوائه بدلاص عنا، والغاية من هذا الجانب هو نيل الرضا الخارجي قبل الداخلي، ومن أمثلة ذلك ما يروج له حالياً من تسييس وتوظيف للدين للدعوة إلى تبني المشروع الإبراهيمي الذي يطرح من طرف الإمارات العربية المتحدة، ومن بعض الجهات الأخرى بعد عملية التطبيع مع الكيان الصهيوني، وهو مشروع يهدف إلى مصادرة الاعتقاد والإيمان والاختيار إلى دين واجتماع إنساني واحد يستحيل تطبيقه على أرض الواقع.
أما عن الشق الإيجابي لتوظيف الدين في الخطاب السياسي، فربما لا يختلف أحد حول تجلياته إذا تم توظيفه على حث الناس على احترام العقود والقوانين والالتزام بالقيم، وتطويرها، والمساهمة في عملية التنمية والنماء الحضاري، والبحث عن حلول للكثير من المشاكل العالقة مثلما تم تعاطيه في مراحل سابقة من الخلافة الإسلامية وعهد الخلفاء الراشدين، إذ كانت الغاية من توظيفه تمت بصلة إلى المنفعة العامة، وهادفة إلى خدمة الخلافة، ومصالح المسلمين لا فئات ضيقة عكس ما تفعله بعض الأحزاب والجهات السياسية الضيقة التي وظفت الخطاب الديني بشكل سلبي يعكس مصالحها، مما أدخلهم في دائرة اللامبدأ، وجعلهم يعيشون في وضع جد محرج داخل الأنظمة السياسية .
وكخاتمة فإن مسألة تسييس الخطاب الديني تقتضي وجود فكر نقدي يحاول تشخيص أبرز مضامين هذا الخطاب وتوجهاته، وكذلك المخاطر التي تنبثق عنها في الكثير من الحالات على حياة ومصير المجتمعات المسلمة، ولا يأتي ذلك إلا بفتح مجال الحرية لترقب نوعية هذه الخطابات، ومراقبتها، ومعرفة مآلاتها بدقة، لا سيما إذا كانت في سياق الغلو والتطرف، وهو أمر جد مهم في المرحلة الراهنة، وذلك في ظل التحولات الاجتماعية والسياسية المتسارعة التي تشهدها المجتمعات الإسلامية.
ومن ناحية أخرى فإنه لا خلاف إذا استعمل الدين كورقة مهمة في سياق إيجابي من أجل بناء القيم والمساهمة في عملية التنمية والبناء الحضاري المستدام بعيداً عن الاستخدامات السلبية له في مجال السياسة، وكذلك توظيف نصوصه وفقاً لأهواء مستخدميه لنشر الغلو والتطرف وتدمير المجتمعات الإسلامية.
قائمة المراجع
السيد عصام حميدان، جدل التدين والسياسة: قراءة في الثوابت والمتغيرات، البصائر، المركز الإسلامي للدراسات الاستراتيجية، ص 115-118
Your style is compelling, it’s hard to look away.