عبدالحق دحمان
الوحدة السياسية
مركز المجدد للبحوث والدراسات
تصاعدت في السنوات الأخيرة ظاهرة التوظيف السياسي أو الأيديولوجي للرياضة بصفة عامة، وكرة القدم التي تعتبر الرياضة الأكثر شعبية في العالم بصفة خاصة نظراً لتأثيراتها المتزايدة على الشعوب والسياسيين، فقد تبدو كرة القدم لعبة عادية، لكنها قد تكون كذلك مصطبغة بالخلافات السياسية، فبدل أن تكون مجرد لعبة، فقد تؤدي إلى التقريب بين الشعوب، أو العكس، فعلى سبيل تتلقى قطر دعماً عربياً كبيراً معنوياً في مونديال 2022 من أجل إنجاح هذا المونديال الذي يعتبر الأول من نوعه في دولة عربية وإسلامية، رغم تنافسها أثناء ترشحها مع عدة دول من بينها عربية – المغرب- لاحتضان هذه النسخة من كأس العالم سنة 2022، بينما تحاول بعض الدول الأخرى خاصة منها الغربية إفشال هذه النسخة بفتح ملفات عديدة متعلقة بحقوق الإنسان، والعمل، وتشويه صورة قطر باعتبارها دولة مسلمة، وهو نوع من الكيد السياسي الذي تتخلله الكثير من النوايا السيئة سيست كرة القدم على النحو الذي يثير الخلاف بين قطر ودول مناوئة لها.
وليست حادثة قطر هي الأولى من نوعها، فكثير ما تثار خلافات سياسية عديدة بسبب الرياضة بين الدول، أو يتم تسييس الرياضات على نحو يسمح لدول لا تحمل نفس الأيديولوجية والفكر بالمشاركة في فعاليات ودورات رياضية كمنع روسيا الفيدرالية من المشاركة في المونديال الحالي المقام بقطر، أو كذلك الحملات الإعلامية والانتقادات التي وجهت للبرازيل، وجنوب إفريقيا أثناء تنظيمهما لكأس العالم كونهما من دول العالم الجنوبي بعدما تم التناوب على تنظيمه فقط في دول العالم المتقدم (الشمالي)، وهذا الأمر يثبت بأن هناك علاقة متشابكة بين الرياضة والسياسة باعتباره أنها أحد المتغيرات المهمة التي أصبحت تحظى بالاهتمام الدولي الرسمي وغير الرسمي، وتنال مكانة معتبرة في السياسات الخارجية لكثير من الدول نظراً لتصاعد دورها.
إذن فما هي العلاقة بين الرياضة والسياسة ؟ وكيف يتم توظيف الرياضة من طرف السياسيين في العديد من القضايا؟ وهل أصبحت فعلاً كرة القدم تحمل دلالات سياسية كبيرة يمكن أن تتجاوز المستطيل الأخضر؟
أصبحت الرياضة عامل جذب دولي مهم منذ عقود، لذلك فلقد استخدمت في الكثير من الأحيان كأداة من الأدوات السياسية، فرغم قدم العلاقة بينها وبين السياسة- أي أنها ليست وليدة الأمس- غير أنها أصبحت ذات شكل توظيفي يقوم على مأسسة وبناء مدروس مرتبط بالأهداف الرئيسة للدبلوماسية والعلاقات الدولية التفاعلية في العالم، حيث تعتبر الأنشطة والألعاب الرياضية اليوم من أهم الأنشطة الاجتماعية المؤثرة في المجتمعات السياسية وفي العلاقات الدولية، وتنبع هذه الأهمية من طبيعة الألعاب التي أصبحت تحظى باهتمام بالغ من الجماهير، وبذلك فلقد أصبحت ظاهرة اجتماعية تتسم باتساع قاعدتها الجماهيرية يومياً، ويتم دراسة تفاعلاتها وتأثيرها من طرف العديد من الباحثين والأكاديميين.
ومن المؤكد أيضاَ بأن هذ الأهمية وطبيعة الدور الذي تلعبه الرياضات في العلاقات الدولية قد ارتبط بتفاعل عوامل عدة، أولها تطور تكنولجيا الاتصال والإعلام الدولي مما أتاح للجمهور فرصة متابعة الدورات الرياضية في مختلف بقاع الأرض، وثانيها يرتبط بتطور هذه الرياضات من حيث التنظيم من خلال مأسستها، ووضع ضوابط وقواعد محدد لها المارساتها في كل دول العالم مما أدى إلى بروز ظاهرة وحدة الأنشطة الرياضية عبر الحدود السياسية الدولية، فعلى سبيل المثال القواعد المنظمة لمباريات كرة القدم في أوروبا هي نفسها في الخليج العربي ودول العالم الأخرى، وثالثها هو أن هذه الرياضات هي مشروع استثماري للكثير من الدول لما تعيده من فوائد وعوائد مادية خاصة إذا تعلق الأمر بالرياضات الأكثر شعبية ككرة القدم، أما رابعها فلقد أدت إلى اتسام العلاقات الدولية بطابع أكثر تعاونية، وأقل صراعية فالمفهوم الأصلي للألعاب الرياضية كما حدده “بيير دي كوبرتان” Pierre de Coubertin مؤسس الحركة الأولمبية الدولية في أنها أداة لتحقيق السلام الدولي من خلال التعارف بين الشعوب، ولكن تجدر الإشارة هنا بأن الألعاب الرياضية أيضاً ظاهرة مؤثرة في النظام السياسي الدولي، وتحولت لتصبح ساحة من ساحات الصراع الدولي وأداة من أدوات تنفيذ وتأكيد السياسات الخارجية للدول، فأصبح التداخل بين السياسة والألعاب الرياضية أمر جد حتمي، فمن المتعارف عليه مثلا أن اهتمام بعض السياسيين بكرة القدم أو الرياضات الشعبية عبر الدعم وحضور الفعاليات واللقاءات واستقبال الفرق والمنتخبات الرياضية وإيفادها شكلاً من أشكال إرسال رسائل مرتبطة بالشعبية لهذا الرئيس أو ذاك، وقد يعتبر كذلك في الكثير من الأحيان رسالة لعدة دول إقليمية وقوى عالمية في حالة استضافة الدولة المعنية لتظاهرة رياضية عالمية، فاستضافة قطر لكأس العالم الحالي هو رسالة قوية مرتبطة بنجاح النظام على عدة مستويات (تكنولوجية، تنظيمية، إعدادية، أمنية) في تنظيم كأس العالم لكرة القدم لهذه السنة بعد وجود تشكيكات وهجمات عديدة حول مدى قدرة الدولة في الإيفاء بالتزاماتها التنظيمية منذ فوزها بالترشح سنة 2009 .
ومن بين الأمثلة البارزة أيضاً في تاريخ العلاقات الدولية أثناء الحرب الباردة حول توظيف أو استثمار الرياضة لتعزيز التعاون بين الدول ذلك الأثر الذي تركته دعوة الفريق الأمريكي للبينغ بون إلى بكين من أجل تحسين العلاقات بين الدولتين، وهو ما يتوافق مع سياسة الرئيس الأمريكي “ريتشارد نيكسون” Richard Nixon الذي حاول تحسين العلاقات مع الصين بعد إدراكه بأنه لا بد من تقييم سياسته الخارجية مع هذا البلد وتحسين العلاقات معه، وبهذا فلقد جاءت عملية الانفتاح بالعلاقات بين البلدين بعد عقدين من القطيعة، وذلك عن طريق لعبة البينغ بونغ بعد زيارة وفد صيني ممثل اللعبة لليابان، والذي بدوره قدم دعوة رسمية لنظيره الأمريكي لزيارة الصين، وهذا ما تم قبوله، والترحيب به في أمريكا بطريقة فورية، إذ زار حوالي 15 لاعباً ولاعبةً، وثلاثين صحفياً أمريكياً الصين في أفريل 1971 مع استقبال حافل وكبير من طرف رئيس الوزراء الصيني “شو أن لاي” آن ذاك، وبعد زيارة الفريق زار الرئيس نيكسون الصين في 18 فيفري 1972 بعد دعوة رسمية من قادة الحزب الشيوعي الصيني .
أما من الناحية الايدلوجية فعند الحديث عن النظام الليبرالي الرأسمالي، فإن الأيدلوجية الليبرالية تنطلق من تصور مؤداه أن الألعاب الرياضية هي عبارة عن نشاطات فردية تهدف إلى بناء الفرد، أي بلورة قدراته البدنية وملكاته الذهنية، سعياً منها نحو تأكيد ذاتية المجتمع والدفاع عنه، أي أن الرياضة تعكس وجود الفرد والمجتمع، وتعبر عن ذاتيته، وتخدم كذلك الألعاب الرياضية استقرار النظام الرأسمالي، وتوظف الرياضة بالنسبة لهذا التوجه في غرس القيم الاجتماعية والليبرالية السائدة، ونجاحها في هذا الجانب يعني أن الجماهير سوف تنظر إلى الفئة الحاكمة والنخبة المسيطرة نظرةً إيجابية خصوصاً إن كان هذا البلد رائداً في الرياضات الشعبية على المستوى العالمي، كما قد تلعب الألعاب الرياضية دور المخدر الذي قد يصرف أنظار الجماهير والشعوب عن المشكلات الأخرى الاجتماعية والاقتصادية الأخرى.
أما بالنسبة للماركسيين فإن الرياضة هي أداة من أدوات الوصول إلى المجتمع الشيوعي المنشود، فهي في التصور الماركسي جزء من البناء الفوقي للمجتمع، وبالتالي فهي تتأثر بالعلاقات الإنتاجية السائدة، وفي المجتمع الاشتراكي تصير الألعاب الرياضية وسيلة لتطوير الإنسان القادر على زيادة الإنتاج، بينما اعتبرها لينين أحد السواعد الفنية التي يمكن بها بناء الشيوعية، لذلك فلقد جعلها السوفيات سابقاً جزءاً مهماً في حياة كل مواطن سوفياتي.
وهكذا فإن الاهتمام بالرياضة ينبع أيضاً من التوجهات السياسية للدول، فكل دولة تحاول تأطير هذا اللعبة وفقاً لمقتضيات السياسة التي تريد بها التأثير عليها مع الحفاظ على القواعد العامة لها، وتعتبر كرة القدم في هذا الصدد أحد أكثر الرياضات التي اشتغل فيها الباحثون لدراسة حدود الارتباط بينها كرياضة وبين عالم السياسة خاصة وأنها تنال مكانة بارزة في مخيال الشعوب منذ عقود، إذ يتم استخدامها وتوظيفها في المجتمعات التي تتميز بالتنوع العرقي واللغوي والقبلي والإثني، وكذلك تستخدم في رفع الروح الوطنية لاكتساب شرعية داخلية أكثر من الحكام، وتعزيز الاستثمار والنمو الاقتصادي .
وأخيراً، نخلص بأن الحديث عن عدم وجود علاقة بين السياسة والرياضة تفنده الكثير من الوقائع والأحداث الرياضية الحاصلة في الواقع الدولي نظراً لتشابكهما المتزايد بشكل كبير، وهذا الأمر ينطبق على كرة القدم التي لم تصبح فقط مجرد رياضة عادية، وإنما تطور سياقاتها المختلفة، واتساع دائرة الجماهير التي تتابعها جعلها أحد الأدوات التي قد يستعملها السياسييون لتوظيف العديد من الأجندات بغض النظر عن طبيعتها إيجابية أم سلبية، ويمكن الاستدلال هناك بما قاله الفيلسوف “جاك دريدا” في كتابه Into The Red بأنه : “خلف خط التماس لا يوجد شيء” كدلالة على أن هناك علاقة وطيدة بين كرة القدم والسياسة، فداخل حدود المستطيل الأخضر قد تبرز الكثير من المتغيرات والتطورات في عالم السياسة .
قائمة المراجع
- أحمد خميس، الكرة والسياسة، مركز الأهرام للدراسات السياسية والاستراتيجية، انظر الرابط الإلكتروني الآتي:
https://acpss.ahram.org.eg/News/16929.aspx. (12 :53/22/11/2022).
- محمد أحمد علي مفتي، الدور السياسي للألعاب الرياضية، مجلة العلوم الإدارية، المجلد 5، العدد 2، 1993، ص ص 427-428.
- نجيب بن محمد، بين السياسة وكرة القدم، انظر الرابط الآتي:
https://www.sasapost.com/opinion/footballl-and-politics-what-relation/. (12 :40/22/11/2028).
- هادي الشيب، وناصر سميرة، الرياضة والسياسة في عالمنا العربي، مجلة الباحث للدراسات الأكاديمية، العدد 5، مارس 2015، ص ص 76-77.
Thank you very much for sharing, I learned a lot from your article. Very cool. Thanks. nimabi