عبد الحق دحمان
الوحدة السياسية – مركز المجدد للبحوث والدراسات
منذ أزيد من 13 سنة بعد قبول الاتحاد الدولي لكرة القدم FIFA ترشحت قطر لتنظيم مونديال كأس العالم لكرة القدم إلى غاية بداية استضافته هذه السنة حضرت قطر جيداً لهذا الحدث الكروي العالمي بعد مسيرة طويلة من التجهيز بدأت من اللاشيء، وانتهت بتنظيم هذه الكأس في نسخة جد فريدة تميزت بالتنوع والاحترافية الكبيرة في الأداء خصوصاً بعد نجاح حفل الافتتاح المبهر الذي لقي ردود أفعال جد إيجابية لما تضمنه من رسائل إنسانية وثقافية حول الحوار والتثاقف بين الحضارات، ولما عكسه هذا الاحتفال من عادات وتقاليد قطرية وعربية عرضت لأول مرة لإبراز البعد الهوياتي والثقافي –القوة الناعمة- لدى أكثر من ملياري ونصف متابع لهذه المناسبة الكروية.
ورغم ذلك، فلقد تعرضت قطر إلى هجمات إعلامية عديدة من قبل بعض القنوات والأطراف الغربية قبل بداية هذه المناسبة بهدف إيقاف أو إفشال الدورة باعتبارها دولة عربية مسلمة، وذلك بتركيزهم على نقاط تثير إشكالات في الثقافة، ولا تعكس توجهات المجتمع القطري، مثل قضية المثليين والشذوذ التي ترفضها قطر لتعارضها مع الدين الإسلامي وثقافة المجتمع، ومن المتعارف عليه بأنه يجب على الدول التي ستلعب مسابقة كأس العالم أن تحترم قوانين الدول الداخلية، لأن هناك اختلافاً بين الشعوب والثقافات عند الحديث عن التراكيب الهوياتية من الناحية الجيوسياسية.
وقد حمل الافتتاح دلالات واسعة على ضرورة تقبل ثقافات الآخرين خاصة بذكر الآية 13 من سورة الحجرات، وذلك في قوله تعالى: ” يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَىٰ وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا ۚ إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ ۚ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ “، مؤكدة بذلك في رسالة واضحة بأن المجتمع الإنساني العالمي منقسم إلى شعوب وقبائل متفرقة مختلفة في الكثير من الجوانب، وأنه لا بد من وجود ثقافة الاحترام، وتقبل ثقافة الآخر، كما أنه لا يوجد فرق بين طرف وطرف آخر إلا بالتقوى.
وناهيك عن هذا الأمر، فلقد حاولت بعض الأطراف تسويق حجج واهية حول عدة ملفات أخرى مثل: قضايا حقوق الإنسان، وغياب الديمقراطية والحرية، وكذلك ارتفاع درجات الحرارة، غير أن السلطات القطرية حاولت الرد على هذه الاتهامات، وتكذيبها، وأكدت على أن هناك تكييف لقوانينها مع متطلبات العصر في كل المجالات بما في ذلك إلغاء نظام الكفالة المعمول به إلى غاية الآن في دول الخليج، وبالعودة كذلك إلى التاريخ سنلاحظ بأن هذه الإدعاءات والخرجات الإعلامية المشوهة لمونديال قطر تندرج ضمن الأدوات السياسية التي يحركها الغرب ضد الدول ذات التوجهات أو الحضارات المختلفة مثلما فُعل في جنوب إفريقيا سنة 2010 باعتبارها بلد إفريقي، وذلك في روسيا سنة 2018 لدواعي غياب الأمن وانتشار الفقر في الفيدراليات الروسية، ولكن يبدوا أن الجاهزية القطرية كان لديها دور كبير في التعامل مع هذه التصريحات سواء كان من الناحية الإعلامية بالرد عبر أذرعها على هذه الاتهامات أو بالرد العملي بالتأكيد على أن قطر دولة تحترم مسألة حقوق الإنسان، والعمالة المتواجدة من الخارج وفقاً للقوانين الدولية، وهو ما أكده رئيس الفيفا جياني إنفانتينو شخصياً على أن التحضير القطري كان متميزاً وفقاً لكل التوقعات خصوصاً مع الافتتاح المبهر الذي قدمته قطر في إطار ما يسمى بالقوة الناعمة حول الثقافة العربية.
ومن ناحية أخرى فإن المتتبع جيداً لهذا الاحتفال سيلاحظ أن هناك ترويجاً للثقافة القطرية والعربية، وكذلك نية في توظيف كرة القدم كآلية لتوحيد العالم، والتقريب بين الثقافات، وتبديد الصور النمطية عن المنطقة التي دائماً تربطها بالإرهاب والعنف والتطرف، فضلاً عن كسر حاجز الهوة بين الشرق والغرب، ولعل استقبال قطر لمختلف قادة العالم في هذا العرس الكروي من شخصيات ورؤساء دول عديدة من مختلف القارات (تركيا، الجزائر، مصر، السنغال، الأردن، السعودية، استراليا، فلسطين، مصر، الإمارات العربية المتحدة، الإكوادور، روسيا، فنزويلا، وغيرهم) دليل واضح على أن هذا الافتتاح لا يقتصر فقط على الرياضة، وإنما يتجاوزه إلى جوانب أخرى عديدة، خاصة السياسة التي تتشابك معها بشكل عميق.
فكرة كرة القدم يمكنها تقديم عدة خدمات ذات طابع سياسي على النحو الآتي:
- إزالة التمييز العنصري: إذ تمثل كرة القدم في هذا الجانب آلية مهمة لإزالة التمييز بين مختلف فئات المجتمع خصوصاً تلك التي تتميز بالتنوع العرقي واللغوي، وتنظيمها على مستوى عالمي يعني وضع حد للفروقات الموجودة بين مختلف أجناس البشر بغض النظر عن لونهم، أو طبيعتهم، وهي أبرز رسالة قدمتها قطر اثناء الافتتاح باستدلالها بالآية 13 من سورة الحجرات.
- رفع الروح الوطنية: ويرتبط هذا العنصر بجانبين؛ أولاً بأداء الفريق، وثانياً بمدى جاهزية الدولة ونجاحها في تقديم مونديال متميز على عدة مستويات، فما قامت به قطر يثير الفخر والاعتزاز لدى كل قطري حول بلاده، ويتعدى هذا الاعتزاز قطر ليشمل العالم العربي والإسلامي باعتبار أن هذه النسخة نسخة فريدة من نوعها، تم التجهيز لها بكل الوسائل المادية (220 مليار دولار)، والبشرية المتاحة من أجل إنجاحها.
- تحسين صورة الدولة في الخارج: يشير هذا الهدف أساساً إلى رغبة السلطات المحلية في إطاء الاعتبار للدولة في الخارج من خلال إثبات بأن هذه الدولة لديها القدرة على صناعة أحداث وتظاهرات عالمية مثل الدول الكبرى عبر استعراضها تفوقها في التنظيم على المستوى التكنولوجي والتنظيمي والإبداعي، وكذلك المساهمة في تحسين صورة المنطقة في الخارج التي غالباً ما يربطها الإعلام الغربي العنف والتسلح والعنف والنزاع والإرهاب.
- تقريب وجهات النظر السياسية: يقال في عالم كرة القدم في الكثير من الأحيان بأن ما تفرقه السياسة قد توحده كرة القدم، إذ أن السياسيين لم يعودوا يترددون في جعلها كذلك مفتاح للتصالح بين الدول التي تعاني من خلافات سياسية عندما تكون الظروف مواتية، لا سيما إذا كانت كرة القدم تخضع للنقاش السياسي والإعلامي.
- محاربة الآفات الاجتماعية، والمساعدة على الاندماج الاجتماعي: فكرة كرة القدم تعتبر أداة للترويح عن الشعوب ومحاربة مختلف الآفات الاجتماعية مثل المخدرات في العديد من الدول، لذلك فإن هناك إقبال واسع عليها من طرف الشباب[1].
يمكن القول بأن تنظيم هذه الفعاليات في قطر له دور جد إيجاب في تسويق طبيعة الحضارة والثقافة القطرة العربية الإسلامية، خاصة وأن هناك إدراكاً قطرياً بأن كرة القدم لم تعد مجرد ممارسة وهواية رياضية، فالأنشطة الرياضية صناعة احترافية ربحية استثمارية، وكذلك ظاهرة اجتماعية تعكس عدة جوانب سيكولوجية وهوايتية للمجتمع، ولها تأثيرات وأبعاد سياسية عديدة تتعدى حدود الدولة الواحدة، وهو أمر ليس بالغريب ما دام أن هذه اللعبة تنال اهتماماً كبيراً من طرف الشعوب.
ويعتبر تنظيم هذه الكأس في دولة مثل قطر بهذا المستوى إنجازاً تاريخياً مهماً لها كدولة، وللعالم الإسلامي والعربي لما يحمله من دلالات تتجاوز عالم الرياضة لتشمل مجالات أخرى عديدة، خاصة المجالات السياسية والثقافية حتى يتم تسويق الصورة الحقيقية للعرب والمسلمين الذين تتصف ثقافتهم بالتسامح وقبول الآخر.
قائمة المراجع
أحمد خميس، الكرة والسياسة، مركز الأهرام للدراسات السياسية والاستراتيجية، انظر الرابط الالكتروني :
https://acpss.ahram.org.eg/News/16929.aspx.
[1] أحمد خميس، الكرة والسياسة، مركز الأهرام للدراسات السياسية والاستراتيجية، انظر الرابط الالكتروني :
https://acpss.ahram.org.eg/News/16929.aspx.
التنبيهات/التعقيبات