د. دحمان عبد الحق
يرتكز الكثير من النقاش في الأنظمة الديمقراطية على كيفية زيادة مشاركة المواطنين في عمليات المجتمع الديمقراطي كماً وكيفاً، وذلك عبر إنشاء آليات وطرق جديدة تختلف عن تقاليد ونهج المواطنة التقليدية التي يغلب عليها الطابع القانوني أو التصور الضيق -أي أن هناك علاقة وارتباط قانوني بين الفرد والدولة يخول للمواطنين التمتع بالحقوق مقابل الإيفاء بالتزامات معينة حيال الدولة- إلى تصور أوسع يجعل المواطن يشعر بالانتماء للمجتمع، ويؤثر بشكل مباشر فيه عبر لعب دوره بفعالية مما يؤدي إلى تكريس ما يسمى بالمواطنة النشطة*، والتي بدورها تتكرس بتفعيل “المواطنة التشاركية” Participatory citizenship، إذ أن هذه الأخيرة تهدف إلى خلق مواطن نشط على المستوى المحلي والوطني قادر على معالجة القضايا الاجتماعية ذات الصلة بالمجتمع من خلال المشاركة في المبادرات المجتمعية والتموقع كمكون مهم (المشاركة كوكيل وعضو مهم في مجتمع سياسي) يساهم في تطوير الممارسة الديمقراطية وتحقيق الأهداف التنموية المنشودة في الدولة.
إن الأساس الذي تقوم عليه المواطنة التشاركية هو تفعيل وإشراك جميع الجهات الفاعلة في المجتمع (المواطن، السلطات المحلية، منظمات المجتمع المدني، مؤسسات ومعاهد التعليم العالي…) على نحو يشعر فيه الناس بأنهم مواطنين فاعلين ومستعدين وقادرين ليكون لهم تأثير على حياتهم وحياة المجتمع [1]، كما أنها ليست عملية سياسية بحتة، وإنما تتضمن أيضاً الأنشطة الاجتماعية غير الرسمية المبنية على التفاعل واحترام حقوق الإنسان والديمقراطية والعدالة والمساواة بين الجنسين [2].
ويتم التعبير عن المواطنة التشاركية كعملية دينامنكية يتم تشكيلها ضمن سياق وظروف معينة من خلال ثلاث ركائز أساسية:
- المقاربات والآليات التعاونية: وتشمل العمليات المعقدة والمتعددة الأبعاد، حيث تحتاج هنا المواطنة إلى منظورات متنوعة ومناهج تعاونية عديدة، وعمل متعدد الاختصاصات من أجل توفير الأرضية المناسبة لتحقيقها.
- المساحات أو الفضاءات التي يتم فيها ممارسة المواطنة: لتجسيد المواطنة التشاركية على أرض الواقع لا بد من توفير عدد كبير من المؤسسات الاجتماعية مثل المؤسسات التي توفر التوظيف والتعليم والتنظيم القانوني وغيرها، وهي فضاءات على تعزيز الفرص للأشخاص من أجل المشاركة أكثر ولفهم طبيعة وحقيقة تطبيق المواطنة.
- التشاركية: لا يقصد بها هنا فقط هنا الجانب العددي عبر تحقيق أكبر قدر من المواطنين المشاركين، وإنما أيضاً تعني “التمكين”؛ أي كيفية تمكين المواطن من الاستماع إليه والاهتمام برأيه واكسابه المزيد من الحرية والاحترام في العملية السياسي، ومختلف مجريات الحياة العامة [3].
والمواطنة التشاركية ليست غاية في حد ذاتها، وإنما هي وسيلة القصد منها تمتين الارتباط بين الموطنين والدولة ليس فقط في الأوقات المناسباتية (الانتخابات أو الاقتراع أو الاستفتاء)، بل بمدى واسع يحفز الأفراد دون تمييز، مما يساهم في تطوير النمط الديمقراطي الذي تتبعه الدولة، أما من الناحية الواقعية أو عند الحديث عن تطبيقات المواطنة التشاركية، فيمكن القول بأن الدول التي خاضت أشواطاً طويلة في الممارسة الديمقراطية كبريطانيا واستراليا وألمانيا وفرنسا وأمريكا، وبعض الدول الأخرى تشهد وجود هذا النمط من المواطنة نظراً لتجاوزها التصور التقليدي للمواطنة، والذي أصبح لا يتكيف مع متطلبات تطور هذه الدول لما حققته من إنجازات في حوكمة العملية الديمقراطية، وتحسين الأداء الوظيفي للمؤسسات الدولة، وعلى عكس هذه الدول فإن دول العالم الإسلامي والعربي لم تنخرط عملياً بشكل كبير في تجسيد هذا النمط التشاركي من المواطنة، ومازالت أغليها إلى غاية الآن تدور في فلك البعد القانوني (التمتع بالحقوق والإيفاء بالالتزامات) والنفسي ( الشعور بالانتماء)، ويرجع ذلك لعدة أسباب من بينها أن أغلب دول العالم الإسلامي والعربي هي دول حديثة الاستقلال، وإذا ما تم مقارنتها بالدول الغربية السالفة الذكر فإن تجربتها فتية في الممارسة الديمقراطية أو المواطنة بشكل عام، وبالتالي فهي تشهد تأخراً نسبياً في تطبيق المستجدات المتعلقة بالديمقراطية والموطنة إلا عادةً بعد فرضها من طرف القوى والمؤسسات الدولية عبر سياسة المشروطية، ومن خلال تقارير وتوصيات ملازمة لهذه السياسة تقدم لهم مثل تم إملاءه في نهاية التسعينيات حول ضرورة خوصصة القطاع العام والتحول من النظام المغلق إلى نظام ديمقراطي ليبرالي –التحول الديمقراطي- وقتح الأسواق وتشجيع التنافسية، وأحد الأسباب الأخرى في عدم تطبيق المواطنة التشاركية يتعلق بالأوضاع التي يعيشها العالم الإسلامي من حروب وأزمات وفوضى أمنية في العديد من دوله، وبالتالي فإن أولويات هذه الدول أمنية تهدف إلى تحقيق الأمن والاستقرار والسلام الداخلي، في حين لا تعتبر المواطنة التشاركية أحد الأولويات التي تسعى إليها، بل هي خطوة متقدمة يجب تطبيقها بعد عدة مراحل، وفي وقت زمني معتبر ودقيق، ويتعلق السبب الآخر بطبيعة الأنظمة السياسية والركود السياسي والنزعة التسلطية منذ أمد طويل، وكلها عوامل تساهم في انحسار الموطنة ضمن حيز ضيق لأن انفتاحها ربما سيؤدي حسب تصور بعض النخب السياسية إلى تآكلها أو تهديد تواجدها، لا سيما إذا تم فتح مساحات كبيرة لتمكين المواطنين في مختلف المجالات. وبالتالي فإن هذه العوامل بصفة عامة تعمل على كبح مسار الوصول إلى المواطنة التشاركية، ومدى انعكاسها على أداء الأنظمة وتعزيز مرونتها، وكذلك المساهمة الفعالة للأفراد في تطوير المجتمع.
ومن ناحية أخرى فلا بد من الإشارة إلى أن استنساخ المواطنة بشكلها العام أو المواطنة التشاركية من الغرب كما هي أمر يجب تجاوزه حتى لا تتكرر نفس الأخطاء والعقبات التي حدثت في العالم الإسلامي والعربي أثناء محاولتهما دمقرطة أنظمتهم عبر تنفيذ توصيات، ومحاكاة تجارب غربية، لأن تجسيد المواطنة التشاركية في الحقيقة يحتاج إلى مراعاة الجانب الاجتماعي والثقافي، وكذلك البيئة التنظيمية والقانونية كون البيئة الإسلامية وطبيعة المجتمعات تحتلف بشكل كبير عن البيئة الغربية من حيث عدة مستويات في المجتال الاجتماعي والاقتصادي والثقافي والسياسي، وعليه فيجب تكييف تطبيقات المواطنة التشاركية مع البيئة الإسلامية دون المساس بمتغيراتها الأساسية خاصة فيما يتعلق بالدين والهوية حتى يتسنى بناء مواطن مسلم قادر ومشارك بفعالية في فضاءات مختلفة (السياسة، القانون، الصحة، الاقتصاد…) وقادر على إيصال صوته وصناعة القرار وفق قدراته.
وفي الأخير نستطيع القول بأن المواطنة التشاركية هي أحد أشكال المواطنة النشطة والمرنة التي يستطيع من خلالها الأفرد والمؤسسات والسلطات المحلية ومؤسسات المجتمع المدني الوصول إلى نتائج يمكن عبرها دمقرطة المجتمع بشكل أكبر، وكذلك تحقيق التنمية والأهداف المنشودة في مختلف المجالات، ورغم أنها كخطوة تحتاج إلى الكثير من التدابير والإجراءات والمرونة، غير أنها أصبحت ركيزة أساسية في المجتمعات التي تعرف مستوى عالي من الديمقراطية نظراً لإدراكهم بمدى أهميتها في تقريب المواطن للسلطة ومشاركته في بناء الحياة العامة، أما عن العالم الإسلامي فإن تجسيد المواطنة التشاركية يحتاج للكثير من الخطوات بدءاً بتحقيق الأمن والاستقرار ثم معالجة بعض الأعطاب السياسية والاقتصادية حتى يتسنى فيما بعد توفير البيئة التنظيمية اللازمة التي يمكن بواسطتها تطبيق المواطنة التشاركية وفق طبيعة المجتمع مع الحفاظ على هويته الإسلامية، وهو أمر ليس بالمستحيل لكن يحتاج إلى توفر مجموعة من العوامل والمتغيرات.
قائمة المراجع
- Feansen, Thetty and others, Participatory Citizenship : Critical perspectives on Client –Centered Occupational Therapy, Sheffield Hallan University Research, Look at :http://shura.shu.ac.uk/information.html.
- Henderson, Deborah and others, Democratic and Participatory citizenship; Youth Action for Sustainability in Australia, Asian Education and Development Studies, 2016, Vol 5, N 1, p5.
* يقصد بالمواطنة النشطة هنا العمل على تحسين وتطوير المجتمع من خلال المشاركة في تحسين حياة جميع أفرده، وذلك عندما يكون المواطن جزءاً من المجتمع لديه القدرة على التأثير ولعب دور فعال فيه على النحو الذي يخلق كفاءة في العمل ويؤدي إلى نتائج مفيدة.
[1] Henderson, Deborah and others, Democratic and Participatory citizenship; Youth Action for Sustainability in Australia, Asian Education and Development Studies, 2016, Vol 5, N 1, p5.
[2] Feansen, Thetty and others, Participatory Citizenship : Critical perspectives on Client –Centered Occupational Therapy, Sheffield Hallan University Research, Look at :http://shura.shu.ac.uk/information.html.
[3] Ibıd, p p10-11.