العولمة وإزالة الحدود الإقليمية
Küresel Yurtsuzlaştırma Operasyonu
إبراهيم كرثيو
مركز المجدد للبحوث والدراسات
في عالمنا اليوم، حيث تسود الرقمنة والشبكات الافتراضية فإن الابتعاد عن هذا التأثير العالمي يتطلب بذل جهود خاصة، في حين أن اتجاهات التوطين مدرجة أيضًا على جدول الأعمال من وقت لآخر. إن تتبع هذه الاتجاهات (العولمة والتوطين) والتي ظهرت بعد سبعينيات القرن الماضي واكتسبت زخمًا تدريجياً، في القارة الأفريقية يعني أحيانًا مواجهة أخبار رائعة وأحياناً مثيرةً للسخرية.
بالنظر إلى جهود الشركات العالمية العملاقة مثل Google و Microsoft و Alibaba لرقمنة القارة الأفريقية وتوسيع استخدام شبكات التفاعل عبر وسائل التواصل الاجتماعي في القارة وكذلك التسوق عبر الإنترنت، وحقيقة أنها استثمرت مليارات الدولارات في هذا الاتجاه؛ يُنظر إلى القارة الأفريقية الآن على أنها منطقة جغرافية اقتصادية لا يمكن للشركات العالمية تجاهلها، نظرًا لعدة أسباب من بينها حجمها الاقتصادي المتزايد، وتشكيل طبقات وسطى مع زيادة القوة الشرائية، وتزايد التركيبة السكانية بشكل كبير. وفي الوقت الذي تواصل فيه هذه الشركات العملاقة السعي إلى إعادة هيكلة وهندسة القارة من أجل تعظيم أرباحها، فإن التجمعات البشرية لا تزال محاطة بتهديدات مختلفة مثل: التلوث البيئي والتفكك والإبادة الجماعية الثقافية. وفي الوقت الذي يتم دفع الناس إلى نوع من إعادة التوطين وعدم التقسيم، فإنه من الناحية أخرى، يتم وعد هؤلاء الأشخاص بهويات افتراضية وعوالم جديدة واعدة على شبكة الإنترنت.
وفي هذا الصدد، كان من الأخبار الرائعة في الأيام الماضية أن مشروعًا بميزانية ضخمة نفذته أمازون، أحد أشهر منصات التسوق عبر الإنترنت في العالم، قامت محكمة في جنوب إفريقيا بوقفه. تم تقديم هذا مشروع إلى المحكمة، والذي يحرض ضد مجموعة الخويسان، وهو مجتمع محلي في جنوب إفريقيا، نظراً إلى الضرر الذي يلحقه هذا المشروع لمحميات المجتمع والبيئة. كما قررت محكمة ويسترن كيب العليا أن السكان الأصليين لم تتم استشارتهم بشكل كافٍ وقررت وقف المشروع في الوقت الحالي.
أما شركة أمازون، التي تريد إنشاء مركز عمليات إقليمي للقارة الأفريقية في جنوب إفريقيا، فقد أعطت إشارة الانطلاقة العام الماضي لتنفيذ مشروع بقيمة 350 مليون دولار. ومع ذلك فإن الموقع المسمى River Club في كيب تاون مكان تنفيذ المشروع، هو مكان يرعى فيه مجتمع الخويسان حيواناتهم ويُنظم فيه أحداثًا مختلفة، والأهم من ذلك المكان مخصص كمحمية طبيعية. إذا تركنا التفاصيل جانبًا، في الأساس، فيبدو أن شركة أمازون تحاول المساس بشيء مقدس لهذا المجتمع. لهذا السبب، تم تفكيك الوحدة والنزاهة بين الخويسان، حيث انجذب بعض أعضاء مجتمع الخويسان للوعود بأن الاستثمار سيوفر لهم فرص عمل وسيتم إنشاء متحف تذكاري داخل المجمع، بينما ظهرت أصوات معارضة وقام بعض أعضاء مجتمع الخويسان باحتجاجات ضد المشروع وتم إحالته للمحكمة. في هذه المرحلة، من المفهوم أن قرار المحكمة بالتوقف يهدف الى توجيه أصحاب المشروع إلى مزيد من المشاورات.
مجتمع خويسان، الذي يعيش في الأجزاء الجنوبية من القارة الأفريقية، هو أول مجتمع في جنوب أفريقيا قاوم الاستعمار. إن العامل الأكبر في حقيقة أن سكان هذا المجتمع- الذين قاوموا القوى الأجنبية والتي أرادت دخول الأراضي في جنوب إفريقيا خلال المرحلة الاستعمارية المبكرة مثل البرتغال ثم هولندا – عدده اليوم صغير جداً (حوالي 400 آلف مشتتين في مختلف البلدان) حيث تعرض هذا المجتمع للإبادة الجماعية والنفي وعانى من معاناة كبيرة.
هذا الموقف، الذي يجعل شركة أمازون ومجتمع خويسان وجهاً لوجه، يحتوي في حد ذاته على مفارقات ملحوظة. في حين أن شعوب الأمازون هم آخر معقل للسكان الأصليين الذين يقاومون العولمة في أمريكا الجنوبية اليوم، فإن الشركة-ومن المفارقات- تسعى لغزو العالم بأسره من خلال التسوق. ومن المفارقات الأخرى أن هذا الصراع يحدث بين الأقوى والأضعف. من ناحية، هناك شركة عملاقة تبلغ قيمتها السوقية 1.6 تريليون دولار، ومن ناحية أخرى، هناك مجتمع ضعيف اقتصاديًا. في رأيي، تكمن المفارقة الأكثر إثارة للدهشة في حقيقة أن المجتمع الأصلي، الذي كان ينظر إليه على أنه ‘غير عقلاني’ من قبل الأوروبيين في التاريخ وصُنف على أنه غير قادر على استخدام الأرض بكفاءة، فقد أعطى قدسية للأراضي الأكثر خصوبة؛ وشركة أمازون كذلك، والتي تمثل العقل ‘العقلاني’، يبدو أنها اختار هذا المجال للاستثمار.
إن الوضع الذي يواجه مجتمع خويسان، في جوهرها، لا تختلف عن المأساة المروعة التي عانى منها سكان بلدة بورانلى. حيث قامت شركة عالمية تأسست وتعمل في أماكن أخرى من العالم (موسكو أو نيويورك أو لندن، …) بالاستيلاء على الموطن الأصلي لهؤلاء السكان، مما أدى إلى تغيير نمط الحياة هؤلاء السكان وتدميرها. لذلك ليس من الغرابة أن ما يسمى بالاستعمار يبنى في الغالب أكتاف هذه الشركات العالمية. في هذا الصدد، تجبر المجتمعات الصغيرة وتدفع للخروج خارج مواطنها الأصلية والتخلي عما هو مقدس عندها – الأرض- وبذلك تكون مجتمعات غير منظمة وأقل تماسكاً، الأمر الذي يسهم في التخلص منها بسهولة. ومن ناحية أخرى يتم دعوة هذه الشعوب لتصبح جزءًا من شبكات الشركات العالمية والحصول على أوطان افتراضية. عملية نزع الملكية العالمية مستمرة بلا هوادة، وتعمل هذه الشركة على تجفيف وتفريق وتدمير منطقة جديدة كل يوم.
الأحداث التي تنذر بقدوم عصر الفوضى في أماكن مثل سوريا واليمن وليبيا وأوكرانيا وفلسطين وميانمار اليوم ليست بمعزل عن هذه العملية، بل على العكس، بل هي في قلبها. في حين أن المناطق التي لا تتوافق فيها الرؤية العالمية مع الرؤية المحلية تتعرض لأزمة، كما أن عدم المساواة في الدخل في العالم آخذ في الازدياد، والأثرياء يزدادون ثراءً والفقراء يزدادون فقرًا. باختصار، بينما تنمو الشركات العالمية يومًا بعد يوم، يتم إلقاء الملايين من الأشخاص الذين تم عزلهم بشكل عشوائي إلى اليمين واليسار، ويسعى البعض إلى القانون والمحاكم كمحاولة منهم لإنقاذ مقدساتهم من هذا الدمار.