المدرسة العقلية الإسلامية وأثرها (2)
بقلم عبد الرحمن جميعان
أوائل المدرسة العقلانية الحديثة
سقطت الدولة العباسية عام ٦٥٦ للهجرة، على يد المغول والتتار، فكانت الواقعة كارثة حقيقية على الأمة، فقد سقطت الخلافة، وقتل الخليفة، وعاث العدو في البلاد، وسفك الدماء واستباح الأعراض، وعاث فسادا في كل شيء، وخرب الديار والآثار ودمرها تدميراً، ولكن الله تعالى لا يترك دينه، فكان بدء قيام دولة بني عثمان التي وحدت العالم الإسلامي وجاهدت الكفار النصارى وغيرهم، ولكن سنة الله باقية، ولا تتغير، فما دامت الدول تتغير، فالتغيير حتمي عليها، ولهذا لما غير بنو عثمان، تغير حالهم، فدب داء الأمم من الشقاق والنزاع، وكانت طوابير النفاق تعمل عملها المدمر ضد الدولة، وكان من أهم العاملين هم نصارى الشرق([1])، ومدرسة العقلانية الحديثة بدءا من الأفغاني والطهطاوي([2])، ثم عبده والكواكبي إلى شبلي الشميل وفرح أنطون وطه حسين ولطفي السيد والبستانيان، وغيرهم على مرور الحقب الزمانية منذ العهد العثماني في القرن الثامن عشر وإلى وقتنا الحالي.
لقد لعبت هذه المدرسة العقلانية في التراث، وأثرت في عقول الكثيرين من المفكرين المسلمين، وغير المسلمين، ورواد التغيير، وكان لها أثر خطير جدا، في السياسة والاقتصاد والمجتمع والدولة والسياسة، والتحزب والأفكار مثل الحرية والعقلانية والديمقراطية، وكان أثرها على السياسة والتراث الإسلامي، وعلاقات المسلمين بالكفار وعلى تفاسير القرآن، وعلى أمور كثيرة أشد خطرا، وقد تناول الكثيرون هذه المدرسة بالنقد والتحليل بما يغني عن ذكرهم والتوسع في تاريخهم، ولكن سنذكر ما يتصل بالحديث هنا عن التأثير تاركين التاريخ وغيره لمن يريد أن يذهب إي المراجع الأصلية للاستزادة، والبحث.
أ-التغيير في الدولة العثمانية([3]):
مثلت الدولة العثمانية، العالم الإسلامي منذ القرن التاسع أو العاشر الهجري، وحكمته، واستطاعت حفظ الإسلام والمسلمين، أكثر من خمسة قرون متواصلة، ولكن كأي دولة تبدأ فتية قوية، ثم تتوسط ثم تضعف كما يذكر ذلك ابن خلدون في مقدمته، ولكن التغيير السياسي في نظام الحكم بدأ مبكرا جدا في عصر هذه الدولة، وكانت له آثار مدمرة مع تعاقب العصور، والحكام على قيادة الأمة، بخاصة إذا علمنا أن الحكام ليسوا على مستوى واحد من فهم العقيدة، ولا السلوك، بل كان بعضهم-قلة-، سليم الأول على سبيل المثال، يؤمن بوحدة الوجود ويدافع عن ابن عربي من ملحدة الصوفية([4])، مع ما له من أعمال جبارة قوية([5])! ومعارك حاسمة حقق فيها انتصارات مذهلة.
ورد حديث شريف منطوقه “بدأ الانحراف في سياسة الملك، بالتأثر في الصناعات الغربية (الكافرة)، وبدأ استيراد هذه الصناعات إلى أرض المسلمين، وليس هناك استيراد إلا ويتبعه فكر وهذا ما حصل فعلا، وبدأ تدمير الدولة العثمانية، من داخلها، ومن ثم تدمير الأمة وتمزيقها انطلاقا من هذه الأفكار، مثل الوطنية والقومية والمساواة، وتحرير المرأة وتطوير التعليم!
على أي حال، فقد بدأ التغيير مبكرا في الأمة، وابتدأ الانحراف الكبير في السلطة السياسية، وانفصال طبقة العلماء عن الحكم والسلطة، وكانت سياسة الاستبداد بالرأي، وتسليط الحاكم دون مشورة الأمة، واستبداد الأسر الحاكمة بالسلطة والمال والنفوذ منذ الدولة الأموية، واتسع إلى يومنا الحاضر!
وفي الدولة العثمانية، التي توارثت هذا الانحراف، كان لها النصيب الأوفر في ذلك، حيث بدأ الانحراف مبكرا فيها، وهي لا تشعر، ثم رويدا رويدا إلى أن سقط الرأس ثم تساقطت الأعضاء وتفكك الجسد الإسلامي شذر مذر!
يعتبر محمد الفاتح رحمه الله، أول من (وضع القانون المدني وقانون العقوبات، فأبدل العقوبة العينية، ووضع مكانها غرامات نقدية، كما عني بوجه خاص برجال القضاء..)، وهذه العقوبات العينية، (ظلت سارية المفعول من بعده..)([6])، بل و(كان محمد الفاتح إلى حد ما، على اهتمام عام بالمدنية الغربية، فدعا بعض الرسامين ورجال الأدب الايطاليين إلى بلاطه، وأمر بترجمة مؤلفات بطليموس وبلوطارخوس([7]) إلى اللغة التركية)([8]) …الترجمات! كما بدأها المأمون وجرت الويلات على الأمة، ها هم الخلفاء يعيدون نظام المأمون!
في معاهدة ١٥٣٦ م، بين العثمانيين والفرنسيين، جاء فيها (من حق فرنسا أن تمنح رايتها في الشرق لمراكب الأوربيين غير الفرنسيين، ومدة المعاهدة مرهونة بالصداقة بين العثمانيين والفرنسيين، وإعفاء الرعايا الفرنسيين من الضريبة، ولفرنسا حق البحث عن الأرقاء الفرنسيين في أراضي العثمانيين([9])، وهذه كانت البدايات للتدخل الفرنسي الأوربي في الشؤون العثمانية، والوصول إلى ديار الأمة الإسلامية([10]).
وقد (كان عالما بالحقوق والآداب، فالقوانين التي وضعها مع شيخ الإسلام أبو السعود أفندي، بقيت نافذة المفعول حتى بداية القرن ١٩، لم تبدل بعض مواده حتى نهاية الإمبراطورية.
إن قانون نامة سلطان سليمان (دستور السلطان سليمان)، هو دستور مكمل لدستور الفاتح، والقوانين الأخرى التي سنت ونشرت في عهده، كثيرة، وقد وضع قوانين كثيرة للإيالات، كذلك راعى فيها الظروف الخاصة بتلك الأقطار، كيّفها ولاءمها أبو السعود أفندي مع الشريعة والقواعد العرفية، بمهارة فائقة! لقد وضع مواد قانونية متقدمة جدا، ومرعية حاليا لدى العالم المتمدن بكافة، وما كانت يمكن أن تخطر على بال في ذلك العصر.
أحدها: تمتع الرعايا بحقوق متساوية! وتطبق العقوبة الموضوعة بالنسبة للجرم المقترف على الأشخاص الذين اقترفوها مهما كانت منزلتهم)([11]).
)في عهد باكر عاد من فرنسا مبعوث خاص بتقرير مشبع بالإعجاب بها، وحاولت الحكومة العثمانية مرارا ابتداء من ثلاثينيات القرن١٨، إنشاء جيش على أسس أوربية.
وفي حقبة السنوات العشر تلك (منذ ١٧٢٠ تقريبا)، طلب السلطان من مرتد فرنسي، اسمه دي بونفال، أن يفتح مدرسة للهندسة العسكرية، فلم تعمر طويلا…..وفي سبعينيات ذلك القرن أنشأت مدرسة الرياضيات لضباط البحرية، كان أول أستاذ فيها جزائري يعرف لغات أوريا، كما كانت الكتب المدرسية فيها أوربية مترجمة إلى اللغة التركية!
وفي عام ١٧٨٩ تسنم العرش سلطان ذو أفكار إصلاحية، هو سليم الثالث، فبدأ بإصلاح الجيش على نطاق واسع، وفتح مدارس كان معظم أساتذتها من الفرنسيين، ..) ..(وترجمت في هذه الفترة إلى اللغة التركية كتب في الرياضيات والملاحة والجغرافيا والتاريخ …… وحاول إصلاح الجيش بمساعدة ضباط واختصاصيين فرنسين، بعد مشاورة)([12])، وكانت هناك محاولات بما يسمى بالإصلاحات، وكانت هناك ثلاث مجموعات مختلفة حول سبل عودة العثمانيين إلى سابق قوتهم وعهدهم([13]):
١-المحافظون، المطالبون يطالبون بإحياء المؤسسات القديمة القوية.
٢-الرومانطيقيون: المطالبة على بقاء النظام مع الاستفادة من تكنلوجيا أوربا.
٣-الراديكاليون: الانقطاع عن الماضي، والبدء باستيراد تكنلوجيا أوربا مع نظامها.
وكانت الغلبة لهذه الأخيرة، فبدأ عهد ما يسمى النظام الجديد، مع أن الراديكاليين ليسوا مجموعة واحدة:
فمنهم من يرفض أي تركي أو إسلامي أو عثماني([14])، النفعيون، ورجال الدولة المخلصون([15])، (واستقدم من أوربا الضباط والمهندسين والبحريين، وألبس الجيش ملابس بطراز مستنبط من اللباس الأوربي)([16])، وكان هذا السلطان محط نقد الشعب، فقد كان مولعا بالفنون الجميلة، والعزف على الناي وعلى الطنبور والغناء واللجن، بل وكن أخواته يحيين حياة تكاد تكون أوربية في السرايا([17])
نخلص من ذلك كله، إذن بأن مع مرور السنوات تشكل جيل أو أفراد لهم ميول أوربية أو جزءا من المجتمع الأوربي، مشبعا بأفكاره……مثل أحمد وفيق باشا الذي كان جده أو المترجمين الأتراك الجدد، وأبوه من العاملين في السفارة في باريس، حيث تلقى علومه فأصبح في جيل لاحق كبير الوزراء! وبحكم هذا المنصب، نشأت علاقة حميمية بينه وبين السفير البريطاني، …، ومن هذا الرعيل مصطفى رشيد باشا، تلقى تعليمه في باريس، ..ودرس الكثير من أدب أوربا السياسي، ومن هذه الدراسة عاشت الدولة العثمانية طوال نصف قرن)([18])
والانحراف يستمر في التوسع، والانجراف نحو الغرب والتغريب، يتقدم، حتى جاء عهد محمد علي وابنه، فكانت الطامة الكبرى في التبديل والتغيير، والارتكاس إلى حمأة الغرب والتغريب.
يعتبر محمد علي حامي التنوير والتنويرين، في العالم العربي، والمدافع عن التغيير في بنية المجتمع والدولة([19])، وكان متأثرا جدا بالأوربيين، وبالفرنسيين بخاصة([20])، (وكان حريصا على إبراز عصريته مقابل تخلف العثمانيين، سواء لأسباب ذاتية، أو لتحسين علاقته بالغرب)([21])
ولم يكن العلماء من مستشاريه المقربين، كما غيرهم والأجانب بخاصة([22])، وقد اعتمد نظام البعثات الذي رام من وراءه التطوير والتقدم والرقي، كما حصل في أوربا، وهذه البعثات (انكبت على دراسة أفكار سان سيمون وفولتير وآدم سيمث وديفيد ريكاردو ومونتسكيو وميكافيلي)، ولم تقتصر على ذلك، بل تمكنت من نشر أفكارها المتأثرة بمن ذكرنا من خلال إنشاء مراكز جديدة انشر ثقافة علمانية غربية، مما جعل تعدد مراكز الثقافات مخالفة عن الأزهر والثقافة الدينية وفي غالب المجالات العلمية وغيرها، كما صاحب هذا النشر الفكري، مع اهتمام محمد علي بالتعليم والتصنيع، واستقدام الخبراء الأجانب في إعداد كوادر النهضة والتنمية المطلوبة([23]).
وقد تغير المجتمع المصري في عهده، إلى مقدمات نمط رأسمالي([24]) وقد ذكر توينبي شيئا من هذا، حيث قال(إن مصر بدأت تتجه نحو الاصطباغ بالصبغة الأوربية، منذ أيام محمد علي متفوقة على تركيا([25])) وكذلك جعل من خلال التعليم تحويله إلى نظام تعليم مدني([26])، وإضعاف سلطة العلماء والتعليم الديني، المتمثل بالأزهر([27])، وكان محمد على ذا سياسة قائمة على المساواة الدينية، فكان المسيحيون واليهود من مختلف البلدان يدخلون مصر بالترحاب، فتضمن حقوقهم ويؤيد نشاطهم التجاري([28])، كما أنه أنشأ المدارس المهنية وأوفد الطلاب والبعثات إلى أوربا، وترجم المؤلفات الاوربية بعد عودة الطلاب، واستعاض عن اللغة الإيطالية التي كانت تدرس فيها المواد بالفرنسية، والتي حملت بدورها أفكار فولتير وروسو ومونتيسيكيو، ودخلت مؤلفاتهم المدارس المصرية، فكانت لغة التعليم الفرنسية، ويشاهد الطلاب الحياة الفرنسية([29])، وهكذا بدأ العالم العربي من طريق مصر يغزا فكريا وعقديا، وتدخل الأفكار المخيفة إلى صلب العلم والعقيدة والسلوم، كما سيكون ذلك على يد محمد عبده ومدرسته، وخير الدين التونسي في المغرب، مما جعل مسيو جومار، المشرف على شؤون البعثة المصرية يتفاءل كثيرا، وبخطاب بالغ الدقة ذكره في نهاية الرحلة ، ابتهاجا بنجاحها إذ قال (فمن المنتظر أن الخرافات الشرقية -الإسلام يعني لا شك-ستنمحي من عقولهم، وأن الحجب الكثيفة التي تغطي أعين الشرقيين وتقيدهم بسلاسل الطفولة ستسقط تدريجيا) ([30]).
لقد وضع د جمال سلطان حفظه الله في كتابه جذور الانحراف يده على الجرح، وتحسس بأصابعه النتوء الحاد في الفكر المستورد تماما، فشخص الحالة الجديدة والمنكوبة والمنهزمة نفسيا والمتأثرة باستعلاء الحضارة الأخرى على المسلمين، حيث قال:
أن الإشكال الأساسي لقضية استيراد الأفكار (ماذا نأخذ من الإسلام وماذا نأخذ من الحضارة الغربية، أي أن الخلل وضع تراث الإسلام على قدم المساواة مع الحالة الأوربية، في إمكانية أن نأخذ منه أو ندع، فما تركوه من الإسلام، لم يقل أحد منهم أنه تركه لأنه هو الإسلام، وإنما تأول لنفسه وتمحل الأعذار، من (١) تقديم المصالح على النصوص، إلى (٢) أسبقية روح الشريعة ومقاصد الدين، على المحددات الجزئية الصارمة، إلى (٣) إمكانية أن يكون هذا الحكم أو ذاك خاصا بزمن النبوة دون غيره من الأزمان…)([31])…إلى غير ذلك من تأويلات!
وهكذا، دخلت الأفكار، من باب السياسة للتصنيع والتطوير، فلا صناعة بدون فكر، ولا نهضة بدون تفكير، ومن يأتي بالآلات يأتي بمن يعمل بها وفيها، وبدوره يحمل ما يريد من فكر ونمط تفكير وسلوك، تلك حقيقة ماثلة، رضينا أم أبينا!
يتبع!!!!
([1]) انظر د محمد محمد حسين كتاب الإسلام والحضارة الغربية- الفصل الثاني التغريب
([2]) انظر د جمال سلطان جذور الانحراف في الفكر الإسلامي-
([3]) انظر د سفر الحوالي العلمانية- من ص٥٦٣ وما بعدها
([4]) يلماز أوزتونا -تاريخ الدولة العثمانية- -١/٢٣٨
([5]) انظر د محمد سهيل طقوش العثمانيون من قيام الدولة إلى الانقلاب على الخلافة- /-١٥٩، ١٦٤
([6]) د محمد سهيل طقوش العثمانيون من قيام الدولة إلى الانقلاب على الخلافة- -دار بيروت المحروسة- ١١٧-١١٩-تاريخ الدولة العلية- محمد فريد بك المحامي-دار النفائس -ص١٧٨
([7]) انظر الملحق للتعريف بالأعلام
([8]) ألبرت حوراني الفكر العربي في عصر النهضة ١٧٩٨-١٩٣٩- -دار النهار للنشر-بيروت-ص٥٩-٦٠
([9]) انظر طقوش -مرجع سابق ص٢٢٦-٢٢٧، وكذلك ١٨٤-ونص المعاهدة في تاريخ الدولة العلية-ص٢٤-٢٣٠
([10]) انظر تاريخ الدولة العلية ص٢٣٠
([11]) تاريخ الدولة العثمانية-يلماز-١/٣٥٥
([19]) البرت حوراني ٧٢ -مرجع سابق- وكذلك د سعيد بن ناصر الغامدي الانحراف العقدي في أدب الحداثة- ٦٧
([20]) -انظر د جبرا الشوملي -العلمانية في الفكر العربي المعاصر دراسة حالة فلسطين- -مركز دراسات الوحدة العربية-ص١١٨ وما بعدها.
([21]) د غسان سلامة- المجتمع والدولة في المشرق العربي- -مركز دراسات الوحدة العربية-ص١٠٢
([23]) – العلمانية في الفكر العربي المعاصر -١١٩
([24])- العلمانية في الفكر العربي المعاصر ص١٢٠
([25]) انظر د سفر الحوالي العلمانية – مكتب الطيب-٧٣-٧٤
([26])-العلمانية- ٥٩٠-٥٩٣ (مهم جدا)
([30]) جورجي زيدان بناة النهضة العربية ١/١٢٩ الهلال-عن جمال ص١٨
Thank you very much for sharing, I learned a lot from your article. Very cool. Thanks. nimabi