أسرار الحدود والعقوبات في الإسلام:
مشروعية الحدود في الإسلام
الأستاذ فائز شبيل
مركز المجدد للبحوث والدرسات
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه أجمعين.
من القضايا التي يُثيرها أعداء الإسلام والجهلة بدينهم من أبناء الإسلام ممن يتأثرون بالشبهات وأحاديث الناقدين من تلك القضايا قضية الحدود الشرعية، فمنهم من يرى أنها مخالفة لحقوق الإنسان، ومنهم من يرى أنها شديدة، ومنهم من يريد تأويل الآيات التي جاءت في القرآن والأحاديث التي جاءت في السنة النبوية الشريفة، ومنهم من يرى أنها كانت لزمن فائت ماضٍ ولا تصلح لزمننا المعاصر، ومنهم من يدعي أن بعض الحدود مصادرة للحرية الشخصية كالزنا برضا الطرفين، ومنهم من له مؤسسات داعمة لإيقاف الحدود الإسلامية في البلدان المسلمة، وقد نجحوا في كثير من البلدان فلا تجد دولة إسلامية تقيم كل الحدود الشرعية كما أمر الله سبحانه.
ولذلك جاء هذا المقال للحديث عن جانب من الجوانب الهامة فيما يتعلق بالحدود الشرعية، وهو جانب علاقة الحد الشرعي بالجانب النفسي، ولماذا شرع الله سبحانه وتعالى هذه الحدود السبعة فقط، ولماذا لم يشرع حدوداً أخرى؟
أولاً: لوازم اجتماع الناس:
من مقتضيات اجتماع الناس في مكان واحد أن تحصل كثير من الأحداث والخلافات والتصادمات والنزعات والاعتداءات، فقد يعتدي شخص على آخر جسدياً بقتل أو يعتدي على ماله بسرقة، أو يعتدي على عرض غيره بزنا أو قذف، وقد يظهر قطاع طرق خارج ذلك المجتمع لمن أراد أن يدخله من التجار وغيرهم.
ثانياً: الوصول إلى المجتمع الفاضل:
ويحرص الإسلام على تكوين مجتمع فاضل بعيد عن الرذائل والفواحش، وذلك عن طريق الكثير من الوسائل والإجراءات والطرق، فمن ذلك:
- بناء الإيمان والتربية الرقابية لله:
فتارة يؤسس الإسلام المجتمع الفاضل عن طريق التربية الإيمانية؛ حيث إن من آمن بالله واليوم الآخر يخاف أن يُحرم الجائزة الكبرى يوم القيامة ويخاف أن يكون ممن يعاقب في الآخرة بعذاب الله الأليم، ولذلك كان النبي صلى الله عليه وسلم حريصاً على تقرير أن من يقع في الاعتداءات والآثام إنما من ضعف إيمانه، قال صلى الله عليه وسلم: «لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن، ولا يسرق حين يسرق وهو مؤمن، ولا يشرب حين يشربها وهو مؤمن، والتوبة معروضة بعد»([1]).
فمن يقع في هذا المعاصي والاعتداءات فإنه ناقص الإيمان، وفيه إشارة إلى الاهتمام بالجانب الإيماني للمجتمع وتأسيسهم على تقوى وخوف من الله.
- الإقناع العقلي:
يلجأ الإسلام لبناء المجتمع الفاضل عن طريق الإقناع العقلي والمنطقي، حيث إن كثيراً من الناس تطمئن نفسه عندما يتوافق الحكم الشرعي مع العقل، ومن ذلك أن غلاماً شاباً أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: يا رسول الله، ائذن لي في الزنا، فصاح الناس فقال: «مه» ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أقروه ادن» ، فدنا حتى جلس بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أتحبه لأمك؟» قال: لا. قال: «وكذلك الناس لا يحبونه لأمهاتهم، أتحبه لابنتك؟» قال: لا. قال: «وكذلك الناس لا يحبونه لبناتهم، أتحبه لأختك؟» قال: لا. قال: «وكذلك الناس لا يحبونه لأخواتهم، أتحبه لعمتك؟» قال: لا. قال: «وكذلك الناس لا يحبونه لعماتهم؟ أتحبه لخالتك؟» قال: لا. قال: «وكذلك الناس لا يحبونه لخالاتهم» . فوضع رسول الله صلى الله عليه وسلم يده على صدره، وقال: «اللهم كفر ذنبه، وطهر قلبه، وحصن فرجه»([2]).
- الترغيب والترهيب من الفواحش والمعاصي([3]):
مع الاهتمام بجانب التربية الإيمانية والإقناع العقلي تجد الشارع الحكيم يرغب في ترك الفحشاء ويكتب على ذلك الترك والاجتناب الأجور العظيمة، بل إن من يجتنب تلك الكبائر والفواحش يكفر الله عنه كل الخطايا الأخرى، قال تعالى: ]إِن تَجْتَنِبُوا كَبَائِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَنُدْخِلْكُم مُّدْخَلًا كَرِيمًا([4])[، وفي مقابل ذلك تهديد ووعيد لمن وقع في هذه الكبائر قال تعالى: ]وَمَن يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُّتَعَمِّدًا فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِدًا فِيهَا وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذَابًا عَظِيمًا([5])[.
فالأحكام والقوانين إن تكن محاطة بترغيب وترهيب فإنها في الغالب تكون غير قابلة للتنفيذ.
- الابتعاد عن الفواحش والمعاصي وأسبابها:
إذا حرم الشارع الحكيم شيئاً فإنه يحرم كل أسبابه، وهذا من باب سد كل المنافذ التي توصل إلى المحرم والممنوع، ليس من المعقول أن يُحرِّم الله الزنا ويبيح التبرج والنظر إلى المحرمات والاختلاء بالنساء وفتح المجال لحديث الرجال والنساء بما هب ودب والتواصل غير المضبوط والاختلاط السافر، وكشف العورات، ومصافحة المرأة، فكل ذلك حرمه الله ورسوله لأنه يقود إلى الحرام والفحشاء وهو الوسيلة إليه([6])، ولذا تجد من يمنع التحرش بالنساء ويبيح لهن أن يلبسن ما يشأنه يقع في اضطراب، فكيف تفتح باب الشر وتمنعه في نفس الوقت.
- فتح باب التوبة والاستغفار:
ومن الأمور التي يحرص الإسلام على تحقيقها في المجتمع المسلم فتح باب التوبة، فكل من أذنب ووقع في معصية فالواجب عليه أن يتوب ويرجع عما صدر منه ولا يعود له أبداً، فمن صدق في رجوعه فإن الله يغفر ذنبه، قال تعالى: ]إِنَّمَا التَّوْبَةُ عَلَى اللَّهِ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السُّوءَ بِجَهَالَةٍ ثُمَّ يَتُوبُونَ مِن قَرِيبٍ فَأُولَٰئِكَ يَتُوبُ اللَّهُ عَلَيْهِمْ ۗ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا[([7]).
وفي هذا إيجاد الشخص الذي يلوم نفسه ويراجعها ففيه إحياء ضمير المسلمين.
- الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر:
يحرص الإسلام على زرع الاحتساب والنهي عن المنكرات والأمر بالمعروف بحكمة وموعظة حسنة، حتى يخشى من يُشيعون الفاحشة من المجتمع الفاضل ويختفون ولا يجاهرون بالمعاصي والمنكرات، لأن في ترك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر هدم للمجتمع وانتشار للجريمة وتكوين مجتمع خامل سلبي ضعيف، قال تعالى: ]وَلْتَكُن مِّنكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ ۚ وَأُولَٰئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ[([8]).
ثالثاً: تشريع الحدود (العقوبات في الإسلام):
- سبب تشريع العقوبات لبعض المعاصي والمخالفات دون غيرها:
لم يشرع الله الحدود والعقوبات لكل المعاصي والفواحش، وذلك لأن الخالق سبحانه يعلم أسرار النفوس وفطرتها وخفاياها، فهناك أشياء مبغَّضة للإنسان مكروهة له ينفر منها بطبيعته التي طبع عليها، ويشترك الناس جميعًا في كراهتها ودفعها عنهم، كالبول والغائط وكنقص الأموال والأولاد مثلاً، كما أن هناك أشياء جُبل على حبها والميل إليها والحرص عليها، كحب الأولاد وميل الرجال إلى النساء وميلهن إلى الرجال مثلا، وهذه الأشياء الفطرية الجبلية المكروهة للنفوس أو المحببة إليها كثيرًا ما يكتفي الشرع بما أُودع في الإنسان تجاهها وبما جُبل عليه حيالها عن الأمر بها أو النهي عنها، ومن أجل هذا الأمر فإن أمر الشارع ونهيه غالبًا ما يكون فيما يضاد رغبات الإنسان ويخالف هواه، وبهذا يكون الابتلاء الذي من أجله خلقه الله في هذه الحياة، ولما في النهي والأمر من حكم ومصالح منها ما يظهر ومنها ما لا يعلمه إلا الله، يقول الشاطبي مقررًا هذا المعنى وموضحًا له بالمثال: ” الضروريات ضربان: أحدهما ما كان للمكلف فيه حظ عاجل مقصود، كقيام الإنسان بمصالح نفسه وعياله في الاقتيات واتخاذ السكن والمسكن واللباس وما يلحق بها من المتممات كالبيوع والإجارات والأنكحة وغيرها من وجوه الاكتساب التي تقوم بها الهياكل الإنسانية، فلما كان للإنسان فيه حظ عاجل وباعث من نفسه يستدعيه إلى طلب ما يحتاج إليه، وكان ذلك الداعي قويًا جدًا بحيث يحمله قهرًا على ذلك لم يؤكّد عليه الطلب بالنسبة إلى نفسه، بل جعل الاحتراف والتكسب والنكاح على الجملة مطلوبًا طلب الندب لا طلب الوجوب، بل كثيرًا ما يأتي في معرض الإباحة، كقوله: وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ [البقرة: 275] ، ]فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلَاةُ فَانْتَشِرُوا فِي الْأَرْضِ وَابْتَغُوا مِنْ فَضْلِ اللَّهِ[([9])، ]لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَبْتَغُوا فَضْلًا مِنْ رَبِّكُمْ([10])[، ]قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ[ [الأعراف: 32] ، ]كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ[([11]) وما أشبه ذلك، مع أنا لو فرضنا أخذ الناس له كأخذ المندوب بحيث يسعهم جميعًا الترك لأثموا؛ لأن العالم لا يقوم إلا بالتدبير والاكتساب، فهذا من الشارع كالحوالة على ما في الجبلة من الداعي الباعث على الاكتساب, حتى إذا لم يكن فيه حظ أو جهة نازع طبعي أوجبه الشرع عينًا أو كفاية كما لو فرض هذا في نفقة الزوجات والأقارب وما أشبه ذلك”([12]).
- أمور عظيمة لم يعاقب عليها الوحي:
هناك من الأمور العظيمة لم يعاقب عليها الشرع الحكيم وذلك لأن الناس بفطرتهم يقومون بها، أو يجتنبونها، كالوصية بالوالدين فإنك لا تجد لها عقوبة لمن أهمل والديه ولم ينفق عليها، وذلك لأن الأنفس جبلها الله على حب الوالدين والإنفاق عليها ورعايتهما، وكذلك الإنفاق والرعاية للأبناء، حتى إن الوالد لو قتل ولده لا يقتل به، لأن النفوس مجبولة على حب الولد، ومن المستحيل أن يقتل والد ولده، بخلاف قتل غير الولد فإن الله شرع له القصاص.
ومثل أكل ذوات السموم والنجاسات مثلاً، لم يرتب الشارع عليه عقوبة أو حدًا اكتفاء بأن الوازع الطبيعي عند الإنسان السوي يمنعه من ذلك.
- الحدود التي أوجبها الله على عباده إن هم فعلوها:
الحدود الشرعية هي:
- القتل لمن وقع في الردة عن دين الإسلام.
- القصاص لمن اعتدى على الناس بقتل أو قطع أو أذى على أحد أعضائهم.
- القتل أو الصلب أو القطع أو النفي لمن قطع الطرق وأخاف الناس.
- الجلد مئة لمن وقع في الزنا.
- الجلد ثمانين لمن وقع في قذف المحصن والمحصنات من المسلمين.
- قطع اليد لمن سرق واعتدى على أموال الناس.
- الجلد ثمانين لمن شرب الخمر وأذهب عقله.
وكلها لها حكم عظيمة في إقامة الدين وإصلاح الدنيا.
- ارتكاب المعاصي مع زوال الداعي:
من العجائب أن يقع الشخص في معاصي لا تفيده وليس هناك داعٍ لها، أي أن وسائل وأسباب الوقوع في هذه المعصية منعدمة ولكن الشخص يقع فيها، كالشيخ الهرم الكبير الذي يقع في الزنا، وكالغني السارق، وكالحاكم الذي يكذب، والفقير الذي يتكبر ويتعالى، وغيرهم ممن ليست لديه الأسباب للوقوع في تلك المعاصي ولكنه يقع فيها، قال e: “ثلاثة لا يكلمهم الله يوم القيامة ولا يزكيهم ولا ينظر إليهم ولهم عذاب أليم : شيخ زان وملك كذاب وعائل([13]) مستكبر“([14]) يقول النووي, رحمه الله: “وأما تخصيصه صلى الله عليه وسلم الشيخ الزاني والملك الكذاب والعائل المستكبر بالوعيد المذكور فقال القاضي عياض: سببه أن كل واحد منهم التزم المعصية المذكورة مع بعدها منه وعدم ضرورته إليها وضعف دواعيها عنده, وإن كان لا يعذر أحد بذنب, لكن لما لم يكن إلى هذه المعاصي ضرورة مزعجة ولا دواعي معتادة أشبه إقدامهم عليها المعاندة والاستخفاف بحق الله تعالى وقصد معصيته لا لحاجة غيرها”([15]).
([1]) صحيح البخاري (8/ 164 ط السلطانية)، برقم: (6810).
([2]) المعجم الكبير للطبراني (8/ 162)، برقم: (7679).
([3]) التصوير النبوي للقيم الخلقية والتشريعية في الحديث الشريف، لعلي صبح (ص143).
([6]) إحكام النظر في أحكام النظر بحاسة البصر لابن القطان الفاسي (ص48).
([12]) الموافقات للشاطبي 2/180.