الإبراهيمية بين السياقات الدينية والاستخدامات السياسية
د. عبدالحق دحمان
الوحدة السياسية مركز المجدد للبحوث والدراسات
مقدمة:
لطالما شكل تاريخ الفكر السياسي محور نقاش واسع بين فكرتي الدين والدولة، وذلك مع المحطات الأولى التي رافقت نشوء فكرة التنظيم السياسي والاجتماعي في الحضارات الإنسانية الأولى على غرار الحضارة البابلية والفرعونية، مرورا بالحضارة اليونانية والرومانية، التي لطالما شهدت حضوراً واسعاً لفكرة الدين كموزع للصلاحيات ومنظماً للسلطات ومصوغاً للتشريع فيها، واستمرت هذه التوليفة في الحكم مع القرون الوسطى في أوروبا أين كان اختلال التوازن واضحاً في استخدام سطوة الدين حيث تحول إلى مكبح يحول دون تقدم الفكر والابتكار، لفترة زمنية دامت لأكثر من سبعة قرون من الزمن منذ سقوط الإمبراطورية البيزنطية إلى البدايات الأولى لظهور الثورة الصناعية في أوروبا وعلى النقيض من ذلك كان الدين عاملاً محفزاً ودافعاً قوياً لتحقيق التقدم العسكري والاقتصادي، وحتى المعماري الحضاري عند المسلمين.
وإلى غاية البدايات الأولى للقرن الحادي والعشرين و إلى غاية أيامنا هذه لازالت تشكل فكرة السياقات الدينية والاستخدامات السياسية للدين قائمة بقوة، صحيح قد تكون الأساليب والوسائل متجددة وفق لغة العصر الحالي، لكن هذا لا يتنافى مع وجود الفكرة ضمن مفاهيم ومصطلحات مسايرة للتطورات الحاصلة، من هذا المنطلق شكلت فكرة توحيد الديانات الإبراهيمية -تحت مسميات عديدة منها الأخوة الدينية أو الأخوة الإنسانية أو السلام العالمي- أحد الموضوعات المهمة التي تصب في هذا السياق، والتي على ما يبدوا للوهلة الأولى أن هذه الفكرة هي أقرب ما تكون لفكرة التكامل والاندماج في الشق الحضاري والديني، وبالرغم من السياقات الوظيفية لها إلاّ أنها بقيت عاجزة أمام مواجهة فكرة السيادة، وهذا ما يزيد من تماسك الفرضية القائلة بأن هناك سياقات وظيفية أيضاً للاستخدام السياسي لفكرة الأديان الإبراهيمية، هذا الاستخدام وُجِد أساسا لغرض وهدف معين.
وتأسيساً على هذا الطرح تحاول هذه الورقة البحثية معالجة مجموعة من الأسئلة الدائرة حول فلك حقيقة فكرة الديانات الإبراهيمية؟ وما هي استخدمتها السياسية؟ ومن هي الأطراف الفعلية المستفيدة من هذا الطرح في هذا التوقيت بالذات؟
ولأجل المعالجة المنهجية لهذه الأسئلة تسعى هذه الدراسة لإتباع الخطة البحثية الآتية:
المحور الأول: حول ماهية الديانة الإبراهيمية.
المحور الثاني: الأهداف السياسية للإبراهيمية وأدوات التجسيد.
المحور الثالث: آثار التوظيف السياسي لفكرة الإبراهيمية.
المحور الأول: التعريف بنبي الله ابراهيم ورسالته
أولاً التعريف بنبي الله ابراهيم ورسالته
في البداية يجب التنويه إلى أن نبي الله إبراهيم عليه السلام قد ولد في زمن النمرود بن كنعان بن سنجاريب بن كوش بن سام بن نوح، وإن صحّ نسبه هذا فإن الملاحظ قلة الفارق الزمني بين نوح وإبراهيم عليهما السلام، وأن إبراهيم عليه السلام من سلالة المؤمنين الذين نجوا من الطوفان الذي أهلك الله به قوم نوح الكافرين، ومن ذلك قول الله: “وَجَعَلْنَا ذُرِّيَّتَهُ هُمُ الْبَاقِينَ[1]” كثر ذكر اسم إبراهيم عليه السلام في القرآن الكريم، وقد ورد اسمه في خمس وعشرين سورة من القرآن، ومجموع مرات ذكره هو تسع وستون مرة، والأصل في إبراهيم من برهم أي أدام النظر، وإبراهيم اسم أعجمي، وفي اسم إبراهيم ست لغات وهي إبراهيم وإبراهام وإبراهوم وإبرهم بغير ياء وبفتح الهاء وكسرها وضمها.
نشأ إبراهيم عليه السلام في كنف أبيه آزر، الذي كان مشهوراً بصناعة الأصنام لقومه، ولكن الله منّ على إبراهيم عليه السلام بالخير والرشد في صغره، وابتعثه رسولاً، في قوله تعالى: ” وَلَقَدْ آتَيْنَا إِبْرَاهِيمَ رُشْدَهُ مِنْ قَبْلُ” ثم اتخذه الله خليلاً، قال تعالى: “وَمَنْ أَحْسَنُ دِينًا مِّمَّنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ وَاتَّبَعَ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا ۗ وَاتَّخَذَ اللَّهُ إِبْرَاهِيمَ خَلِيلًا[2]“
بدأ إبراهيم عليه السلام دعوته بأبيه آزر، فدعاه إلى نبذ عبادة الأصنام وعبادة الله وحده، وكان أسلوبه يتسم بالرقة والإقناع، لكن أباه أصرَّ على الكفر، ولم يصدق إبراهيم، وهدده بالرجم، وقد قابله إبراهيم عليه السلام بالسلام والاستغفار، كما في قوله تعالى: “واذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إِبْرَاهِيمَ إِنَّهُ كَانَ صِدِّيقًا نَبِيًّا (41) إِذْ قَالَ لِأَبِيهِ يَا أَبَتِ لِمَ تَعْبُدُ مَا لَا يَسْمَعُ وَلَا يُبْصِرُ وَلَا يُغْنِي عَنْكَ شَيْئًا (42) يَا أَبَتِ إِنِّي قَدْ جَاءَنِي مِنَ الْعِلْمِ مَا لَمْ يَأْتِكَ فَاتَّبِعْنِي أَهْدِكَ صِرَاطًا سَوِيًّا (43) يَا أَبَتِ لَا تَعْبُدِ الشَّيْطَانَ إِنَّ الشَّيْطَانَ كَانَ لِلرَّحْمَنِ عَصِيًّا (44) يَا أَبَتِ إِنِّي أَخَافُ أَنْ يَمَسَّكَ عَذَابٌ مِنَ الرَّحْمَنِ فَتَكُونَ لِلشَّيْطَانِ وَلِيًّا (45) قَالَ أَرَاغِبٌ أَنْتَ عَنْ آلِهَتِي يَا إِبْرَاهِيمُ لَئِنْ لَمْ تَنْتَهِ لَأَرْجُمَنَّكَ وَاهْجُرْنِي مَلِيًّا (46) قَالَ سَلَامٌ عَلَيْكَ سَأَسْتَغْفِرُ لَكَ رَبِّي إِنَّهُ كَانَ بِي حَفِيًّا (47) وَأَعْتَزِلُكُمْ وَمَا تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَأَدْعُو رَبِّي عَسَى أَلَّا أَكُونَ بِدُعَاءِ رَبِّي شَقِيًّا (48) فَلَمَّا اعْتَزَلَهُمْ وَمَا يَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَكُلًّا جَعَلْنَا نَبِيًّا (49) وَوَهَبْنَا لَهُمْ مِنْ رَحْمَتِنَا وَجَعَلْنَا لَهُمْ لِسَانَ صِدْقٍ عَلِيًّا (50)[3]“.
والمتتبع لحياة النبي إبراهيم عليه السلام في الدعوة فإنه يدرك أن دعوته عليه السلام لم تقف عند أبيه، بل تعدته إلى قومه وكانوا على قسمين: عبدة الأصنام، وعبدة الكواكب، وأول ما بدأ بدعوته لقومه الذين عبدوا الأصنام فقال لهم: “وَلَقَدْ آتَيْنَا إِبْرَاهِيمَ رُشْدَهُ مِن قَبْلُ وَكُنَّا بِه عَالِمِين (52) إذ قَالَ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ مَا هَذِهِ التَّمَاثِيلُ الَّتِي أَنتُمْ لَهَا عَاكِفُونَ(53) قالُوا وَجَدْنَا آبَاءَنَا لَهَا عَابِدِينَ (54) قالَ لَقَدْ كُنتُمْ أَنتُمْ وَآبَاؤُكُمْ فِي ضَلالٍ مُّبِينٍ(55) قَالُوا أَجِئْتَنَا بِالْحَقِّ أَمْ أَنتَ مِنَ اللاَّعِبِينَ(56) قَالَ بَل رَّبُّكُمْ رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ الَّذِي فَطَرَهُنَّ وَأَنَا عَلَى ذَلِكُم مِّنَ الشَّاهِدِينَ (57) وَتَاللَّهِ لَأَكِيدَنَّ أَصْنَامَكُم بَعْدَ أَن تُوَلُّوا مُدْبِرِينَ(58) فَجَعَلَهُمْ جُذَاذًا إِلاَّ كَبِيرًا لَّهُمْ لَعَلَّهُمْ إِلَيْهِ يَرْجِعُونَ(59) قَالُوا مَن فَعَلَ هَذَا بِآلِهَتِنَا إِنَّهُ لَمِنَ الظَّالِمِينَ(60) قالُوا سَمِعْنَا فَتًى يَذْكُرُهُمْ يُقَالُ لَهُ إِبْرَاهِيمُ(61) قَالُوا فَأْتُوا بِهِ عَلَى أَعْيُنِ النَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَشْهَدُونَ (62) قَالُوا أَأَنتَ فَعَلْتَ هَذَا بِآلِهَتِنَا يَا إِبْرَاهِيمُ (63) قَالَ بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هَذَا فَاسْأَلُوهُمْ إِن كَانُوا يَنطِقُون(64) فَرَجَعُوا إِلَى أَنفُسِهِمْ فَقَالُوا إِنَّكُمْ أَنتُمُ الظَّالِمُونَ(65) ثُمَّ نُكِسُوا عَلَى رُؤُوسِهِمْ لَقَدْ عَلِمْتَ مَا هَؤُلاء يَنطِقُونَ(66) قَالَ أَفَتَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ مَا لا يَنفَعُكُمْ شَيْئًا وَلا يَضُرُّكُمْ (67) أُفٍّ لَّكُمْ وَلِمَا تَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ أَفَلا تَعْقِلُونَ(68) قَالُوا حَرِّقُوهُ وَانصُرُوا آلِهَتَكُمْ إِن كُنتُمْ فَاعِلِينَ (69) قُلْنَا يَا نَارُ كُونِي بَرْدًا وَسَلامًا عَلَى إِبْرَاهِيمَ وَأَرَادُوا بِهِ كَيْدًا فَجَعَلْنَاهُمُ الأَخْسَرِينَ(70)[4] “
فقد دعاهم إلى عبادة الله وحده وترك عبادة الأصنام، لأنها لا تنفع ولا تضر من دون الله، ولا تنفع نفسها فضلا عن أن تنفعهم، وقد كان من دعاة التوحيد، واستخدم المنطق والحجة القوية معهم لإثبات الحجة عليهم، خاصة فيما يتعلق بإتباعهم لآبائهم دون تفكير فتركهم في عيد لهم خرجوا فيه، فراغ إلى أصنامهم فحطمها إلا كبير الأصنام تركه على حاله، ولما رجعوا من عيدهم، دهشوا لما رأوا ما آلت عليه آلهتهم، فاستفسروا عن الفاعل، وبعد أن عرفوا أنه إبراهيم سألوه إن كان هو الفاعل فأجاب بأن كبير الأصنام هو الفاعل، فكانت غاية نبي الله في حواره مبنيةً على الحجة المنطقية والبرهان الواقعي، ودعاهم للإيمان بالله الواحد ونبذ الشرك، لكن قومه أرادوا حرقه والله جعل النار برداً وسلاماً على إبراهيم، هذه المواقف والقصص موجودة –على اختلاف الروايات فيها- في الكتب السماوية الثلاث (الإسلام، المسيحية، اليهودية) وتؤكد سماحة نبي الله إبراهيم وحسن خلقه نهيه عليه السلام عن عبادة الأصنام وهذا ما جعل إبراهيم عليه السلام معلماً وجامعاً وأمةً كما وصفه القرآن الكريم، لكن تحت راية التوحيد ونبذ الشرك مهما كان شكله أو نوعه، لذلك فإن أهم شروط الإبراهيمية كعقيدة أو كفكر أو حتى كديانة جامعة هو التوحيد، ولا يمكن بأي حال من الأحوال أن يطلق على دين معين أنه دين إبراهيمي مع الشرك بالله في العقيدة، لذلك فإنه من الناحية المبدأية إذا كانت الإبراهيمية تحقق التوحيد وما يتبعه من شروط أخلاقية كنبذ الظلم وإحقاق العدل وإرجاع المظالم لأهلها فهي مقبولة من الناحية العقلانية أما إذا كانت فقط استخدامات سياسية للقب الإبراهيمي الشريف فهذا أمر مرفوض أخلاقياً ودينياً وحتى عقلياً.
ثانياً نشأة وتطور فكرة الديانة الإبراهيمية
إن فكرة الديانات السماوية قد طرحت منذ فجر الإسلام، حيث كانت مرافقة لذلك الكم الكبير من الآيات القرآنية والأحاديث النبوية الساعية لتنظيم العلاقات بين المسلمين وغيرهم من منتسبي الديانات السماوية الأخرى، خاصة تلك القوانين المتعلقة بتواجد أهل الذمة في البلاد الإسلامية، وقد انطلق النقاش مع هذه الفترة حول العلاقة التي تربط المسلمين بغيرهم وخاصة تلك المتعلقة بالعلاقة التي يجب أن تربط المسلمين بالمنتسبين للديانات السماوية الأخرى، وقد تجلى ذلك في قوله تعالى: “وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقًا لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتَابِ وَمُهَيْمِنًا عَلَيْهِ ۖ فَاحْكُم بَيْنَهُم بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ ۖ وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ عَمَّا جَاءَكَ مِنَ الْحَقِّ ۚ لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا ۚ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَٰكِن لِّيَبْلُوَكُمْ فِي مَا آتَاكُمْ ۖ فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ ۚ إِلَى اللَّهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعًا فَيُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ[5]”
وفي تفسير هذه الآية قال ابن كثير بأن الله جعل القرآن الذي أنزله آخر الكتب وخاتمها، جعله أشملها وأعظمها وأكملها، لأنه- سبحانه- جمع فيه محاسن ما قبله من الكتب وزاد فيه من الكمالات ما ليس في غيره، فلهذا جعله شاهدا وأميناً وحاكماً عليها كلها، وتكفل- سبحانه- بحفظه بنفسه فقال: إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحافِظُون“، وهذا علاوة إلى الدعوة للتثبت بأحكام الدين الإسلامي عدم الانسياق وراء التجاذبات السياسية مصداقا لقوله تعالى: فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِما أَنْزَلَ اللَّهُ وَلا تَتَّبِعْ أَهْواءَهُمْ عَمَّا جاءَكَ مِنَ الْحَقِّ أمر من الله- تعالى- لنبيه صلى الله عليه وسلم، بأن يلتزم في حكمه بين الناس الأحكام التي أنزلها، أي بمعنى أن القرآن كما ذكرت لك يا محمد فاحكم بين هؤلاء اليهود وبين غيرهم من الناس بما أنزله الله من أحكام، فإن ما أنزله هو الحق الذي لا باطل معه، ولا تتبع في حكمك أهواء هؤلاء اليهود أو النصارى لأن إتباعك لأهوائهم يجعلك منحرفا ومائلا عما جاءك من الحق الذي لا مرية فيه ولا ريب[6]، ومن هذا المنطلق يتضح مبدئيا موقف القرآن الكريم وتحذيره الصريح من إتباع أهواء اليهود والنصارى خاصة فيما يتعلق بالشرائع الدينية والأحكام العقائدية.
وقد تطرق الإمام ابن القيم الجوزيه تلميذ ابن تيمية إلى الرد عن المعتنقين الأوائل للفكر الإبراهيمي في كتابه: “هداية الحيارى في أجوبة اليهود والنصارى” وقد أوضح رأيه من خلال قوله في اليهود بأنهم : ” أهل الكذب والبهت والغدر والمكر والحيل، قتلت الأنبياء وأكلت السحت، لا يرون لمن خالفهم في كفرهم وتكذيبهم الأنبياء حرمة، ولا لمن وافقهم عندهم حق ولا شفعة[7]“، وقد استشف ابن القيم قوله من بعض الآيات القرآنية والأحاديث النبوية الشريفة، ويكون بذلك التوجه نحو التصور المبني على أساس العلاقة الحذرة في تعامل المسلمين مع غيرهم من المنتسبين إلى الديانات السماوية الأخرى، خاصة في ما يتعلق بالعقيدة والتشريع.
وقد بدأ الحديث عن الميثاق الإبراهيمي The Abrahimic Covenant منذ عام 1811 الذي يجمع بين المؤمنين في الغرب، وقد استخدمه الفرنسي ” لويس ماسينيون” عام 1949، تحت عنوان: “الصلوات الثلاث لإبراهيم، أب لكل المؤمنين”، وقد لمح برنارد لويس مبكراً لفكرة الديانة الإبراهيمية من خلال كتابه: “اليهود في العالم الإسلامي” الذي علل نجاح المسلمين في الفتوحات الإسلامية في فجر الإسلام من خلال نجاحهم في استيعاب فكرة التواجد المسيحي واليهودي على الأراضي الإسلامية، ولكن هذا الاستيعاب لم يم يكن يوماً متعلقاً بالتداخل الفكري والديني بقدر ما هو احترام للآخر وعدم التدخل في حريته الدينية في البلاد الإسلامية، شرط أن يؤدي ما عليه من واجبات تفرضها الدولة المقيم فيها.
المحور الثاني: الإبراهيمية الأهداف السياسية وآليات التجسيد
منذ مطالع الخمسينات من القرن الماضي انطلقت دعواتٌ للحوار مع المسلمين من جانب الكنائس البروتستانتية، ومن جانب مفكرين كاثوليك ومستشرقين، وما كانت دوافع الكنائس البروتستانتية منفتحةً على مقولة الإيمان المشترك وحسب؛ بل كانت لها دوافع سياسيةٌ، وتحالف تلك الكنائس الوطنية مع بلدانها في عمليات الصراع والصدام السياسي، وخاصة تلك الصدامات الموجودة ضمن عالم الإسلام وفي منطقة الشرق الأوسط، ولذلك فقد انعقدت منتديات الحوار الأولى في لبنان وباكستان بوصفها آنذاك من حلفاء الولايات المتحد، وحدثت فيها جدالاتٌ سياسية وقومية بغطاء ديني مثل قضية فلسطين، وقضية كشمير، ومسائل تصفية الاستعمار، ومن هنا انطلق التركيز من طرف العلماء المسلمين على الاشتراك في الإيمان بالإله الواحد في الأديان الثلاث، والدوافع الأخلاقية الكبرى في السلام والعدالة، وفي هذه الأجواء الحواريّة في عادت الأطُروحة الإبراهيميّة للبروز من جانب مفكرين ومستشرقين كاثوليك، حتى إن مجمع الڤاتيكان الثاني 1962/1965 الذي أصدر وثائق في الاعتراف وفي التشارك الإبراهيمي مع اليهوديّة والإسلام، تحولت هذه الدعوات الفردية إلى عملٍ جماعين بحيث اتجهت المؤسسة الكنسية الكاثوليكيّة، وبعض المؤسسات الكنسية البروتستانتيّة للتحاور[8]، ومن هنا انطلق ما يسمى بالتعاون مع الدول الإسلامية، والمؤسسات الدينيّة الإسلاميّة لأجل دفع فكرة الإبراهيمية نحو الأمام ونحو جعل شعوب هذه الدول تتقبل هذه الفكرة في أوساطها التربوية والعلمية.
لقد مضى على هذه المساعي والمسارات ما يزيد عن الستين عاما، وصدرت مجلداتٌ ضخمةٌ تتضمن البيانات والإعلانات المشتركة وصارت الأطُروحة الإبراهيمية سائدةً في أكثر الخلفيات والمناقشات وصار للحوار أنصاره والعاملون عليه من الكاثوليك والبروتستانت على مضى من الإبراهيميّة إلى ما وراءها أو إلى أعماقها؛ لأنه في أطروحته العامة أدخل الديانات الآسيوية أيضا. والأطُروحة تقول”: لا سلام في العالم إلّا بالسلام بين الأديان. ولا سلام بين الأديان إلّا بوجود أخلاقٍ عالميةٍ تتضمنها تلك الأديان“[9]، وتملك الديانات الإبراهيمية تكليفاً خاصاً في هذا السياق، وذلك بسبب كثرة معتنقيها من جهة، وأنها تمتلك بالفعل قيم إيمان مشترك، ومنظومة أخلاقية كبرى ومشتركة، وكما أصدر هانز كينغ قرابة المؤلفات العشرة بعد وثيقته في الأخلاق العالمية للأديان(1991)، فإنّ لاهوتيين كباراً مسيحيين وغير مسيحيين أقبلوا بعد كينغ على تأمل الإسلام بعيونٍ جديدة.
وقد شكل إعلان الرئيس الأمريكي السابق دولاند ترامب في أكتوبر 2020 عن الدبلوماسية الدينية، من خلال تطبيع العلاقات مع إسرائيل أو ما أسموه بالاتفاق التاريخي بين الإمارات العربية والمتحدة والبحرين وإسرائيل حول: “اتفاق ابراهم”، حيث يسعى الاتفاق إلى معالجة دينية للصراع القائم في الشرق الأوسط تحت لواء ما أسموه بالدين الإبراهيمي، وهو ما يمثل بشكل مباشر روح الاستخدام السياسي للمواضيع الدينية، أي تحقيق الأهداف والمصالح السياسية عبر الأطروحات الدينية، وهي إستراتيجية قديمة تاريخياً تُطرح بأساليب جديدة، وذلك لما للدين من تأثر بليغ في حياة شعوب منطقة الشرق الأوسط، بلغة أخرى هذه الاستخدام السياسي لفكرة الإبراهيمية يمكّن من تحقيق الأهداف المرجوة بأقل تكلفة ممكنة دون الاضطرار إلى خوض الحروب العسكرية التي تعتبر ذات نتائج عكسية في كثير من الأحيان.
أولا الأهداف العملية المعلنة للإبراهيمية: باختصار يمكن أن تعتبر الإبراهيمية دلالة على جمع الأديان السماوية الثلاثة تحت دين واحد، أي جمع الإسلام واليهودية والمسيحية تحت لواء واحد، وحسب هذا الطرح فإن النتيجة هي تحقيق السعادة والسلام والأمن العالميين تحت غطاء إنساني مشترك، وبعبارة أخرى الاحتفاظ بنقاط التشارك في الأديان الثلاث ونبذ كل نقاط الخلاف والاختلاف بينها، ومن هذا المنطلق يرى جيمس روزينو أن مستقبل العالم سيركز على السلام العالمي، الذي لا يمكن تحقيقه في ظل الخلافات الدينية والعقائدية، في الديانات المتناقضة فكريا وتاريخياً -مع ذلك الكم الهائل من الحروب والصراعات التاريخية- وحتى حضارياً، وهذا يعتبر مدخلاً جديدا بحسبه لحل النزاعات في العلاقات الدولية، وكطرح بديل عن نظرية صدام الحضارات لصاموال هنتغتون ونظرية نهاية التاريخ لفوكوياما، ظهرت مفاهيم توحيد الديانات الإبراهيمية وكلها مفاهيم تصب في صميم المفاهيم الجديدة في العلاقات الدولية يسودها التسامح والسلام العالمي، ويمكن أن تختصر النقاط الأساسية للديانات الإبراهيمية فيما يلي[10]:
- نبي الله إبراهيم عليه السلام له محورية القدسية والقبول وهو بمثابة العامل المشترك بين الأديان الثلاث.
- تلاقي ممثلين من شخصيات مؤثرة ومعروفة في المجالات السياسية والدبلوماسية والدينية من الأديان الثلاث (المسيحية، الإسلام، اليهودية) للنقاش لأجل وضع ميثاق مشترك بمثابة الدين الموحد في قدسيته.
- الاعتماد على دبلوماسية المسار الثاني، وعلى ما أصبح يسمى بالدبلوماسية الروحية، لمناقشة القضايا الذات الاهتمام المشترك، والسعي لحل المشكلات العالقة بشكل يرضى كل الأطراف والجهات، لأجل إنهاء الخلافات الحاصلة في مختلف مناطق العالم.
- يعتمد ترسيخ فكرة الإبراهيمية على قادة روحيين يعتبرون بمثابة الأدوات المهمة لنشر هذا المفهوم وجذب الناس من الأديان الثلاث وإقناعهم بجدوى نشر هذا الطرح في مجتمعاتهم عبر مختلف القنوات والوسائل الاتصالية.
- الاعتماد على فكرة أسر السلام، وهي جماعات تنشر في كافة الدول في المنطقة التي تشهد نزاعات، خاصة النزاعات ذات البعد الديني، أو ما يسمى بالنزاعات الكامنة*، بهدف حل الصراعات والتسويق للإبراهيمية كمسار سلام ووئام.
- تقديم خدمات تنموية على أرض الواقع لأجل جذب المريدين والتأثير في حياة الناس اليومية من خلال إطلاق مشاريع تساهم في خلق دخل للأسر التي تعاني من دخل مالي متدني، تحت عناوين أصداقاء السلام العالمي والوحدة والإنسانية وغيرها.
- الاقتراب أكثر من القيادات الصوفية التي تعتبر الأكثر قرباً من ناحية الفكر للتعامل مع الإبراهيمية واستغلالها كبوتقة تساهم في جذب المريدين وتسهيل إقناع المسلمين من الداخل، ومن أجل تقريب وجهات النظر.
- التشجيع على إعادة قراءة الديانات السماوية وفق مناهج علمية جديدة مع التشجيع أكثر على البحث في سبل تقبل الإبراهيمية وإعطائها الصبغة العلمية والمصوغ الشرعي.
هذا علاوة على أن نشر ما يسمى بالقيم المشتركة وتوحيد وجهات النظر الدينية تحت لواء الإبراهيمية بشكل فعال يستوجب معه إيصال هذه الأفكار للأجيال الصاعدة[11]، من خلال تلبية تلك الدعاوي الرامية إلى ترسيخ هذا المفهوم في المناهج التربوية لهذه الأجيال مع تدريسهم لليهودية والمسيحية كمقررات دراسية إجبارية، وهذا يرافقه بطبيعة الحال السعي لحذف الآيات القرآنية والأحاديث النبوية التي تعلن صراحة خطر اليهود والنصارى على الإسلام والمسلمين، لذلك تم وصف هذه المساعي على أنها مساعي سياسية بحتة، في سياق استخدام القوة الناعمة لأجل بسط الهيمنة والنفوذ على ما تبقى من منطقة الشرق الأوسط وشمال إفريقيا، وذلك تدعيماً لسياسيات التطبيع بين الحكومات السياسية ونقلها لأن يصبح التطبيع محل رضا شعبي.
ثانيا الإبراهيمية: أدوات التجسيد: لقد تم ربط هذه فكرة الإبراهيمية بأهداف التنمية المستدامة باعتبارها تهدف لمكافحة الفقر العالمي عبر الحوار الخدمي، وكذا شمول أتباع الأديان السماوية الثلاثة، أي حوالي سكان نصف العالم، خاصة إذا تم إدراج هذا المشروع تحت لواء الأمم المتحدة، بهدف تحقيق الأهداف التنموية المرجوة، والمتابع لمشروعات منظمات الأمم المتحدة سيلاحظ تخصيص الدعم للأنشطة التي ترفع شعار السلام العالمي ومبادئ الإنسانية، ولأجل التسويق الجيد لهذه الأفكار قامت الإمارات العربية المتحدة بإعداد عددا من المثقفين للحديث عن ما أطلقوا عليه تسمية: “العائلة الإبراهيمية” وهذا لإظهار أي تقارب بين التابعين للديانات الثلاث، ولأجل هذا الغرض أرادت الإمارات توسيع دائرة الأديان التي تحتويها من خلال احتضان السيخ والبوذية وغيرهم من المعتقدات الدينية الأخرى، وقد سخرت الإمارات مختلف العلماء لأجل التنظير وإقناع الناس بهذا الغرض، من أمثال عبد الله بن بيه وغيرهم، وتعتبر صفقة القرن[12]* جزءا مما يجرى تنفيذه على الأرض يوميًا من مخطط التحول الثقافي العقدي السياسي في المنطقة العربية، وصولًا إلى كيان الولايات المتحدة الإبراهيمية التي تمتد من المحيط إلى الخليج، ويمرّ مشروع الولايات المتحدة الإبراهيمية حتما بتصفية القضية الفلسطينية دون أي حلول عادلة[13]، وصفقة القرن تحت الغطاء الإبراهيمي التي ستمثل تلك المرجعية النموذجية المعتمدة لأي حل مستقبلي لمختلف القضايا العالقة في المنطقة.
ويمكن أن تلخيص الأدوات التي تعتمدها فكرة الإبراهيمية في تحقيق مسعاها في النقاط الآتية[14]:
- المؤتمرات والمحافل الدولية:من أبرز المحافل الدولية التي تمثل تطبيقًا عمليًّا هي مؤتمر دافوس، الذي تُعقد على هامشه لجنة المائة التي تهدف بدورها إلى الوصول للمشترك الإبراهيمي، والتقارب بين القيادات الروحية والساسة وتوفير سبل الدعم الممكن.
- مجهودات القوى الدولية:ويأتي في مقدمة هذه القوى الولايات المتحدة حيث تبنت هذا الفكر داخل مؤسساتها الرسمية في عام 2013، حيث تم إنشاء فريق عمل حول الدين والسياسة في وزارة الخارجية بقرار من “هيلاري كلينتون”، يضم 100 عضو نصفهم رجال دين من الديانات الثلاث، يعملون جنبًا إلى جنب مع الدبلوماسيين بالوزارة، ويلاحظ أن أغلب مراكز الدبلوماسية الروحية بالعالم تحمل جنسيات محددة معظمها أمريكية، وإنجليزية، وفرنسية، وألمانية، وإسرائيلية بالأساس.
- الاستثمار في الصراعات الدينية: حيث أن هناك الكثير من الصراعاتالقائمة على الأرض بين أنصار الدين الواحد، وأهمها الصراع السني-الشيعي، فهو الممهد لقبول هذا الفكر باعتبار أن سلوك أتباع الدين الواحد هو دليل على غياب التسامح داخل هذا الدين، وهو ما سينفر أتباعه، وسيجعلهم يقبلون بالمشترك الإبراهيمي.
- الاعتماد على فكرة السياحة الدينية المشتركة: خاصة أن دول المنطقة تضم جميعها مقدسات دينية تاريخية، وتعاني -في الوقت ذاته- من مشاكل اقتصادية تحتاج لتنشيط مصدر جديد يدر الدخل كالسياحة الدينية المشتركة بين الديانات الإبراهيمية.
- المنظمات النسوية: باعتبارها أهم سبل لتحرير المرأة بالمنطقة، خاصة التي تعاني من تهميش اقتصادي، حيث تحتل المرأة مكانة مهمة داخل هذا الفكر لأنها أساس الأسرة خاصة بمنطقة الشرق الأوسط.
المحور الثالث: آثار التوظيف السياسي لفكرة الإبراهيمية.
تُبنى الأفكار والنظريات –خاصة في حقل العلوم السياسية والعلاقات الدولية- التي تسعى لتفسير أو التنبؤ بواقع أو حتى صناعة واقع معين، وهي بطبيعة الحال تهدف إلى أن تخدم جهة معينة أو تغيير واقع معين ليصب في مصلحتها، وفي ذات السياق يقول روبرت كوكس R. Cox في عبــارته الشهيرة “النظرية هي دوما من أجل شخص معين ولهدف ما”[15]، ومن باب أولى التفكير في فكرة الإبراهيمية وفق هذا المنطق، فلا يمكن أن يكون هناك قراءة صحيحة للنظريات المطروحة أو حتى مجريات الأحداث الواقعية دون فهم صحيح للأهداف المعلنة والخفية وراء كل ما يتم طرحه من أفكار ومبادئ، وذلك تمهيداً لوضع خطط وإستراتيجيات مناسبة للتعامل العقلاني مع الأفكار والطروحات الدخيلة على الدول والمجتمعات.
أولا: آثار على البُنى الهوياتية والدينية: إن ما يفرضه منطق الإبراهيمية من تصورات دينية يعتبر تهديداً للبنى الاجتماعية والهوياتية الدينية القائمة في منطقة الشرق الأوسط وشمال إفريقيا، وهذا انطلاقاً من أن التهديد الأمني ليس معطى مسبق وليس تهديداً صلباً بالضرورة بل عند البنائيين مثلاً يُبنى التهديد بإرادة جهة معينة وذلك خدمة لمصلحة معينة، ويتضح بأن هذا يشكل أحد الاختلاف الموجودة في التصور البنائي مع الافتراضات الواقعية، فعلى سبيل المثال، بالنسبة للواقعيين الكلاسيكيين فإن أعمال الاتحاد السوفياتي تشكل تهديدا موضوعيا، على النقيض من ذلك، بينما يرى البنائيون هذا التهديد انه مبني، في حين أن الدراسات الأمنية التقليدية تركز على التهديد على أنه معطى مسبق، البنائية يفترض أن الأمن هو البناء السياسي مع إعطاء الأولوية للتفاعل الاجتماعي والهوية والثقافة والقيم المجتمعية بما فيها الدين واللغة، وبالتالي فإن الأمن والتهديدات ليست موضوعية وثابتة، ولكنها قيم اجتماعية شُيِّدَ خلالها الأمن في معنى موضوعي يقيس غياب التهديدات إلى القيم الأساسية المكتسبة، ومع ذلك فإنه بالنسبة للتهديدات البنائية ليست طبيعية أو محتومة، وقد تغير الدول تصورات التهديد من خلال التطورات في البيئة والممارسات المعدلة من طرفها[16].
يُرجع البنائيون المعضلة الأمنية لكون النوايا مجهولة ويمكن أن تقلل من الهويات المعروفة من هذه المعضلة، بينما يفترض المنظور العقلاني أن الجهات الفاعلة تشعر بالحاجة الملحة لتأمين الذات في مواجهة عدم اليقين، و بالنسبة إلى البنائيين فإن عدم اليقين ليس ثابتًا ولكنه متغير، وإذا كان الواقع الدولي مشيد اجتماعيا والهويات الدينية منحازة ومنفصلة منذ نشأتها الأولى، فإن العدو والتهديد والصراعات قد تكون كذلك مبنية اجتماعيا[17] سواء من حيث العوامل المادية أو المثالية، ولكن البنائية خففت من تعصب هذا التوجه من خلال اعتمادها على التيارات ما بعد الوضعية التي تركيز على الهوية والأفكار والقيم، فالأمن لدى البنائية هو نتاج لعملية تفاعل أساسية بين الدولة كفاعل أساسي في العلاقات الدولية وبين مختلف القيم والبنى الاجتماعية، وهذا ما يزيد من تعزيز قيام الفرضية القائلة بأن الإبراهيمية والأفكار المثالية المصاحبة لها قد تحمل تهديدا مباشراً للقيم والبنى الاجتماعية القائمة.
ثانيا: دفع عجلة التطبيع وتحقيق التوافق السياسي:
كتب أول رئيس وزراء لإسرائيل ديفيد بن غوريون، في مذكراته: “إسرائيل تؤمن أن قوتها ليست في امتلاكها للسلاح النووي”، منوهًا إلى أن “تل أبيب تؤمن بأن نجاحها في ذلك لا يعتمد على ذكائها بقدر ما يعتمد على جهل الطرف الآخر وغبائه وعمالته[18]“، ومن هذا المنطلق يمكن فهم تطبيقات الإبراهيمية المصاحبة لموجة التطبيع العربي مع إسرائيل.
من هذا المنطلق أيضا يمكن اعتبار الاتفاق الذي أطلقه الرئيس الأمريكي دونالد ترامب والمسمى كما أسلفنا الذكر أعلاه بـ:”أبراهام” والذي تمخض عنه عملياً اتفاق تطبيع العلاقات بين إسرائيل والإمارات، في 13 أكتوبر2020، حيث أوضح بخصوصه السفير الأمريكي لدى إسرائيل أن سبب إطلاق تلك التسمية على الاتفاق يرجع إلى أن إبراهيم كان أبا لجميع الديانات الثلاثة العظيمة، فيشار إليه باسم (أبراهام) في المسيحية، و(إبراهيم) في الإسلام، و(أبرام) في اليهودية، لافتا إلى أنه لا يوجد شخص يرمز إلى إمكانية الوحدة بين جميع هذه الديانات أفضل من إبراهيم، ولهذا السبب تمت تسمية هذا الاتفاق بهذا الاسم، تسمية اتفاق التطبيع بين الإمارات والبحرين وإسرائيل بهذه التسمية أثارت أسئلة كثيرة حول دلالات تلك التسمية وخلفياته والغايات الحقيقية التي تقف وراء هذا الاتفاق[19].
إذ لا يمكن النظر إليها بعيدا عن جذورها وخلفياتها الدينية، التي تكشف بوضوح مدى التوظيف السياسي للأبعاد الدينية والتاريخية والحضارية الأمر الذي قد يسهل تمرير أجنداته السياسية تحت غطاء ديني، وتحت غطاء مفاهيم الإنسانية والسلام العالمي والأخوة العالمية وغيرها.
تدعم إسرائيل والدول الغربية على رأسها الولايات المتحدة الأمريكية نشر فكرة الإبراهيمية لأن هناك العديد من الأهداف الإستراتيجية المرجوة من وراء هذا الاتفاق الديني تحت غطاء ما أصبح يسمى بالدبلوماسية الروحية، من بين أهم هذه الأهداف الإستراتيجية فكرة ضمان السلام والأمن لإسرائيل وفض النزاع العربي الإسرائيلي أو ما أصبح يسمى بعد اتفاقية كامب ديفيد النزاع الفلسطيني الإسرائيلي، بل والأكثر من ذلك فبحسب الصهيوني دان شوفتان في مقالة له بصحيفة “إسرائيل هيوم” يرى بأن انسحاب أمريكا من أفغنستان فرصة لإسرائيل لقيادة حلف يضم الدول العربية، وذلك لأجل سد الفراغ الذي تركته الولايات المتحدة الأمريكية في أفغنستان[20]، إذن يتضح بأن إسرائيل لا تبحث فقط عن الأمن والسلام مع الدول العربية في منطقة الشرق الأوسط، بل أبعد من ذلك فهي تهدف إلى القيادة والهيمنة على دول المنطقة حكومات وشعوب.
خاتمة:
من خلال ما سبق نستنتج بأن طرح فكرة الأديان الإبراهيمية وفق منطق السياسة أو بالأحرى بقيادة سياسية ولأهداف سياسية بالأساس، في الحقيقة يضعنا وجهاً لوجه أمام خطر الهوية الدينية وانتفاء الخصوصية العقدية والتشريعية للدين الإسلامي على وجه الخصوص، وذلك كله بداعي المصطلحات المثالية كالسلام العالمي والأخوة الإبراهيمية والقيم التاريخية والعقائدية المشتركة ونبذ مواضع الاختلاف والخلاف، وبداعي الحفاظ على الأمن والسلم بمنطقة الشرق الأوسط.
ولكن هذا الأمر يضعنا أمام مجموعة واسعة من الأسئلة الواقعية، والتي يمكن أن يكون أهمها محل النزاعات القائمة والتي يعتبر الاحتلال الفلسطيني من طرف الصهاينة أهمها وأولاها وأكثرها إلحاحاً؟ وما محل مسجد الأقصى وقدسيته في الدين الإسلامي كأولى القبلتين وثاني الحرمين؟ وما محل كل تلك الآيات القرآنية التي تحذر من خطر التآلف مع اليهود والنصارى ومحاباتهم؟ وما محل قضايا التوحيد التي تعتبر أساس الدين الحنفي الإبراهيمي الصحيح، بينما تقوم المسيحية على سبيل المثال على فكرة الثالوث (الله، الإبن، روح القدس)؟ وغيرها من الأسئلة المحورية التي ينبغي طرحها ضمن النقاش الإبراهيمي.
ولكن يجب التنويه في الختام إلى أن عدم التوافق مع الإستخدامات السياسية لفكرة الإبراهيمية لا ينفي على الدين الإسلامي والمسلمين قدسية نبي الله إبراهيم وباقي الأنبياء والرسل، وإيمانهم بهم جميعا دون التفرقة بينهم مصداقاً لقولة تعالى: “آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنزِلَ إِلَيْهِ مِن رَّبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ ۚ كُلٌّ آمَنَ بِاللَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِّن رُّسُلِهِ ۚ وَقَالُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا ۖ غُفْرَانَكَ رَبَّنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ[21]“
قائمة المراجع:
[1] صورة الصافات، آية 77.
[2] صورة النساء، آية 125.
[3] صورة مريم، الآية 41-50.
[4] صورة الانبياء، الآية 52-70.
[5] صورة المائدة، الآية 48.
[6] أنظرتفسير ابن كثير، على الموقع الإلكتروني الآتي، تاريخ التصفح 20/01/2022. http://www.quran7m.com/searchResults/005048.html
[7] ابن القيم الجوزي، هداية الحيارى في أجوبة اليهود والنصارى، طباعة مؤسسة مكة، المدينة المنورة، السعودية، ص8.
[8] رضوان السيد، الديانات الابراهيمية من الاختلاف إلى الإئتلاف، راجع الموقع الإلكتروني، تاريخ التصفح، 26/01/2022
https://tafahom.mara.gov.om/storage/al-tafahom/ar/2018/061/pdf/05.pdf
[9] المرجع نفسه.
[10] هاني رمضان طالب، الإبراهيمية: التعايش والسيطرة، مركز دراسات الوحدة العربية، راجع الموقع الإلكتروني،
* النزاعات الكامنة هي تلك النزاعات الداخلية والتي تعتبر من مهددات الاستقرار في بنيوية الدول، وعلى الرغم من القواسم المشتركة بين سكان الدول العربية، كاللغة والدين والهوية والحدود المشتركة، إلاّ أن داخل الدولة الواحدة قد تجد النزاعات الكامنة، وذلك عندما تكون هناك محفزات لنشأة تلك النزاعات، كتغييب معايير العدالة والشفافية وغياب سيادة القانون وغياب العدالة الاجتماعية والتهميش علاوة على بث النزاعات الاثنية والطائفية لتغطية فشل الحكومات وفسادها، لمعلومات أكثر انظر:
محمد نور البصراتي: النزاعات الداخلية ومسارات إعادة الإعمار في الدول العربية، مجلة كلية السياسة والاقتصاد، العدد الرابع، أكتوبر 2019.
[11] يوسف أحمد، الديانة الإبراهيمية الجديدة التي يروج لها الصهاينة والأمريكيون بعد موجة التطبيع، مجلة المجتمع راجع الموقع الإلكتروني، تاريخ التصفح، 23/01/2022
https://mugtama.com/hot-files/item/130306-2021-09-25-07-46-40.html
[12]* مشروع أطلقه الرئيس الأمريكي السابق دولاند ترامب طرح على العلن في شهر جانفي 2020، والذي يتضمن أفكاراً أريد لها إنهاء القضية الفلسطينية، وتجاوز حق الشعب الفلسطيني في استعادة أراضيه المسلوبة وبناء دولته كاملة الاستقلال، التي تم احتلالها منذ وعد بالفور 1917. وللإشارة فإن هذا المشروع يزيد من الإستيطان الإسرائيلي في الأراضي الفلسطينية المتفق عليها بعد 1967، لمعلومات أكثر أنظرـ:
قسي ابراهيم يونس الحجوج: الصراع العربي-الصهيوني بين سياسات التسوية ومشاريع التصفية/أنموذج صفقة القرن، رسالة مقدمة لاستكمال درجة الماجستير في العلوم السياسية، جامعة الشرق الأوسط 2021.
[13] ناجي خليفة الدهان، مشروع الولايات المتحدة الإبراهيمية، مركز أمية للبحوث والدراسات الإستراتيجية، راجع الموقع الإلكتروني، تاريخ التصفح، 21/01/2022
[14] هبة جمال الدين، الدبلوماسية الروحية والمشترك الإبراهيمي: بين صفقة القرن والمخطط الاستعماري للقرن الجديد، راجع الموقع الإلكتروني، تاريخ التصفح، 22/01/2022
https://ecfa-egypt.org/2019/10/08/
[15] صخري محمد، النظرية النقدية الاجتماعية في العلاقات الدولية، راجع الموقع الإلكتروني، تاريخ التصفح، 22/01/2022
https://www.politics-dz.com/
[16] Nilüfer Karacasulu – Elif Uzgören, explaining social constructivist contribution to security studies, look at the site, at: 22:26, 30/12/2021
http://sam.gov.tr/wp-content/uploads/2012/02/KaracasuluUzgoren.pdf
[17] المرجع نفسه، ص9.
[18] ناجي خليفة الدهان، مشروع الولايات المتحدة الإبراهيمية، مرجع سبق ذكره.
[19] بسام ناصر، الترويج للديانة “الإبراهيمية” في زمن التطبيع.. ما وراءه؟، أنظر الموقع الالكتروني، تاريخ التصفح، 27/01/2022.
https://arabi21.com/story/1301432
[20] يوسف أحمد: الديانة الإبراهيمية الجديدة التي يروج لها الصهاينة والأمريكيون بعد موجة التطبيع، مرجع سبق ذكره.
[21] صورة البقرة، آية 285.