لماذا سيد قطب رحمه الله!
بقلم: عبد الرحمن جميعان
من منطلق الفهم الصحيح للفكر الإسلامي الذي كان ينادي به هذا الرجل وأمثاله، يعد سيد قطب رحمه الله تعالى من أكبر وأعظم منظري الفكر الإسلامي والدعوة في العصر الحديث. والكلام عنه كلام في صلب الواقع، وفي زخم الأحداث. ولئن عجزت جماعة الإخوان أن تلد مثله، فقد برزت رؤوس أخرى في غيرها هي البركة والعطاء، والنماء، ورواسخ العمل والدعوة وتكوين الدعاة!
ولكن مع كل ما يبذله هؤلاء الأكارم الأفاضل من جهد علمي ومعرفي، إلا أننا وجدنا خيطا رفيعا بينهم؛ يتمثل في حضور سيد رحمه الله في كثير من مواضيعهم ومؤلفاتهم، وما ذاك إلا لأنهم يعدونه أحد المرجعيات الفكرية في هذا العصر، متجاوزين عن كل ما يقال عنه وفيه، لإدراكهم قيمة كلامه وأهميته لمنطقة الفكر والعمل اليوم! بل نكاد نجزم أنه قد طرق أفكارا في ظلاله، لم تخطر على بال أحد، وفتح بقلمه فتوحات كبيرة في فهم النص القرآني وبخاصة مقدمات السبع الطوال!
المبغضون
وقد وجدت صنفين من الناس يبغضون هذا الرجل، وكلتا الفئتين غالبهم لم يقرأ ولم يطلع على ما كتب الرجل، بل سمع ما نقل عنه، وذلك حيف وظلم يُسألون عنه، لظلمهم له ومجافاتهم من غير حق!
- الفئة الأولى: هم فئة الجامية التي تعادي كل شخص مستقيم، وكل من لم يسلم بمنهجهم وبدعهم، وتلك فئة لم تقتصر على ظلم هذا الرجل فحسب، بل ظلمت معه دعاة وأكابر وعلماء، وهي فئة لا نملك معها حديثا ولا تواصلا، ولا نريد أن يكون لنا حديثا معها أو عنها، لأنها فئة مجرمة ظالمة، وهي للعدو أقرب، وللطواغيت أعبد!
- والفئة الثانية: تشمل بعض العلماء وطلبة العلم الصادقين. مع تأثرهم بما يقال في الساحة، دون تمحيص، متلقفين الكلام دون تمحيص أو تدقيق، ولم يطلعوا على تبرئ الرجل من كثير مما كتب، وبعضه أخطأ فيه كما أخطأ غيره، ولكن بقيت عنده بعض الآثار كما بقيت عند غيره من كثير من العلماء، بل إن سيدا قد يكون أفضل من بعض العلماء فيما أخذ عليه، وتلك مسألة نوقشت في بعض الرسائل العلمية، ونخص بالذكر منها، رسالة د. ماجد محمد شبالة-حول سيد قطب ومنهجه في العقيدة: جزءان، مطبوعات دار الايمان ودار القمة-الإسكندرية. وهي رسالة مهمة جدا، تطرق صاحبها لرد غالبية الشبهات العقدية والتي لها صلة بالعقيدة مثل الطعن بالصحابة.
كثرة سهام البطش والطيش
يبقى السؤال:
لماذا توجهت السهام القوية والكثيرة لهذا الرجل تحديدا، حتى من بعض جماعة الإخوان المسلمين وقاداتها، واتهموه باتهامات باطلة؟
نرى أن سيد رحمه الله تعالى قد عرى دعاة السوء، مثلما عرى حكام السوء والمطبلين لهم، بل كشف عورات النظام الدولي والغرب الكافر، وهتك ستر أهل التواصل معهم والملتحفين بإزارهم! وهذه من أهم النقاط التي ينبغي أخذها بالاعتبار، وتحضرنا هنا كلمة العلامة أبوبكر زيد رحمه الله تعالى عندما اندفع بقدر من الله، بعد سماعه شتم المدخلي وتشويهه وزيادة العيار الثقيل من الاتهامات ضد سيد، فما كان منه إلا أن قال قرأت كتب السيد، وما وجدت فيها إلا خيرا، وفيها بعض المخالفات التي لا يخلو منها عالم ولا طالب علم! وكذلك كلام المحدث الألباني رحمه الله تعالى وابن باز وغيرهم كثير، بحيث أن تزكيته غطت على أهل الجهل ممن يطعنون به ويكيلون له الاتهامات جزافا!
هذا هو مربط الفرس، لا غيره، وإلا فإن اتهم بالتكفير فقد اتهم غيره بأشد من ذلك، ولم نر تشنيعا من هؤلاء عليهم، وإن اتهم ببدع في بعض تفسيره فنعم، ولكن لا يقر عليه كذلك، كما اتهم غيره ممن يعتمد عليهم ويوثق بكلامهم، ولكنها تؤخذ عليه وتكبر ويشنع عليه، لأنه كما قلنا عرى الباطل وكشف الطواغيت وأعوانهم، بقوة بيان وصرامة أسلوب ، وقوة حجة، وسطوع فكر، فقد كان رحمه الله له أسلوب بارع في توضيح الآيات بأسلوب عصري ناصع وجلي، وكذلك اسقاطات الآيات على واقعنا المعاصر!
سهام جاهلية
كذلك قد رأينا كلاما في معنى الجاهلية، وأنها ليست فترة معينة عند شيخ الإسلام ابن تيمية في اقتضاء الصراط المستقيم. يقول المحقق وهو يعرض لموضوعات الكتاب: «كذلك يدخل في مسمى الجاهلية، ما كان عليه أهل الجاهلية قبل الإسلام، وما عاد إليه كثير من العرب اليوم، من صفات وأعمال وعادات الجاهلية» ص51- وقال شيخ الإسلام: «ذم في الحديث من دعا بدعوى الجاهلية، وأخبر أن بعض أمر الجاهلية لا يتركه الناس كلهم ذما لمن لم يتركه، وهذا كله يقتضي أن ما كان من أمر الجاهلية وفعلهم فهو مذموم في دين الإسلام، وإلا لم يكن في إضافة هذه المنكرات إلى الجاهلية ذم لها، ومعلوم أن إضافتها إلى الجاهلية خرج مخرج الذم وهذا كقوله سبحانه وتعالى: {وَلَا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجَاهِلِيَّةِ الْأُولَى} [الأحزاب: 33] فإن في ذلك ذما للتبرج وذما لحال الجاهلية الأولى، وذلك يقتضي المنع من مشابهتهم في الجملة».
ومنه قوله لأبي ذر رضي الله عنه لما عير رجلا بأمه: «إنك امرؤ فيك جاهلية» ص235-236-وكذلك: «لما دعا كل منهما طائفة منتصرا بها أنكر النبي صلى الله عليه وسلم ذلك وسماها دعوى الجاهلية حتى قيل له: إن الداعي بها إنما هما غلامان لم يصدر ذلك من الجماعة فأمر بمنع الظالم، وإعانة المظلوم ليبين النبي صلى الله عليه وسلم أن المحذور إنما هو تعصب الرجل لطائفته مطلقا فعل أهل الجاهلية، فأما نصرها بالحق من غير عدوان فحسن واجب أو مستحب» ص241! وكذلك للشيخ محمد بن عبد الوهاب كتاب في مسائل الجاهلية وهكذا، فليس من البدعة أن يوصف زمن أو شخص بالجاهلية!
بعض المآخذ على سيد
قبل أن نخوض في هذا البحر، لا بد أن تعلم قاعدة مهمة في التعامل، وهو أنه «يحمل كلام المسلم المحمل الحسن ما وجد إلى ذلك سبيلا»، ثم يقرر إن كان خطأ فيرد على صاحبه، وإن كان يحتمل فيحمل على الأحسن، ثم قاعدة أخرى وهي أنه «كل يؤخذ منه ويرد إلا النبي صلى الله عليه وسلم»، والخطأ واقع من الصحابة فما بالك بمن دونهم وبعدت عنهم المسافة!
1- تأويل الاستواء:
وتأويله هذا هو متأثر بالأشاعرة، فإن المنهج في الأزهر وغيره في مصر هو المذهب العقدي الأشعري، وكل الأشاعرة مثل القرطبي رحمه الله والرازي وغيرهم يتأولون الصفات، وذلك مبحث ليس هنا مجاله، ويكفي أن تشير إليه ثم تتجاوزه ولا تقف عنده! (أنظر شبالة 1/ 738-751 وأثبت المؤلف فارقا بين طبعتي الظلال واختلافات دالة على تجديد فهم الرجل وزيادة علمه وقربه من منهج السلف في هذه المسائل العقدية.
2- وحدة الوجود
وهذا والله هي الطامة الكبرى والمصيبة العظمى، بل إننا نقولها بملء الفم أن من يدعي ذلك هو متعمد، وهو مسؤول أمام الله تعالى عن هذه الفرية، فانظر ما الذي جعل الأغبياء ينطقون بهذا:
قال سيد رحمه الله تعالى في سورة الإخلاص: ({قل هو الله أحد}.. وهو لفظ أدق من لفظ واحد.. لأنه يضيف إلى معنى واحد أن لا شي ء غيره معه. وأن ليس كمثله شيء.
إنها أحدية الوجود.. فليس هناك حقيقة إلا حقيقته. وليس هناك وجود حقيقي إلا وجوده. وكل موجود آخر فإنما يستمد وجوده من ذلك الوجود الحقيقي، ويستمد حقيقته من تلك الحقيقة الذاتية.) …إن المنصف سيقول هذه ليس فيها وحدة الوجود ألبته، لأن أصحاب وحدة الوجود لا يعتقدون بوجود اثنين، خالق ومخلوق، بل الكل واحد، وهذه ذكرناها بتفاصيلها في كتابي حول التصوف والصوفية-تحت الطبع.
وهنا سيد يقول: لا شيء غيره معه، وقد صدق فليس هناك أحد مع الله تعالى، بل هو فوق سماواته مستو على عرشه، وقد يكون خانه التعبير في بعض الكلمات، ولكن من خلال قراءة بقية كلامه وكتبه يتبين عكس ما يقوله هؤلاء. ثم انظر ماذا قال بعد ذلك بأسطر: «وهذه هي مدارج الطريق التي حاولها المتصوفة، فجذبتهم إلى بعيد! ذلك أن الإسلام يريد من الناس أن يسلكوا الطريق إلى هذه الحقيقة وهم يكابدون الحياة الواقعية بكل خصائصها، ويزاولون الحياة البشرية، والخلافة الأرضية بكل مقوّماتها، شاعرين مع هذا أن لا حقيقة إلا الله. وأن لا وجود إلا وجوده. وأن لا فاعلية إلا فاعليته.. ولا يريد طريقاً غير هذا الطريق! »، فهو يريد أن يرتبط قلب المسلم بالله تعالى وحده فقط، ولا يرتبط بالأسباب الدنيوية، ولا يهملها، ولكن توكله على الله وحده، ولا يرى له ناصرا ومعينا في الوجود إلا الله تعالى!
وانظر التتمة
(من هنا ينبثق منهج كامل للحياة، قائم على ذلك التفسير وما يشيعه في النفس من تصورات ومشاعر واتجاهات….. الانطلاق عند الإسلام ليس معناه الاعتزال ولا الإهمال، ولا الكراهية ولا الهروب.. إنما معناه المحاولة المستمرة، والكفاح الدائم لترقية البشرية كلها، وإطلاق الحياة البشرية جميعها.. ومن ثم فهي الخلافة والقيادة بكل أعبائهما، مع التحرر والانطلاق بكل مقوماتهما…. إن الخلاص عن طريق الصومعة سهل يسير. ولكن الإسلام لا يريده. لأن الخلافة في الأرض والقيادة للبشر طرف من المنهج الإلهي للخلاص. إنه طريق أشق، ولكنه هو الذي يحقق إنسانية الإنسان. أي يحقق انتصار النفخة العلوية في كيانه.. …والانحرافات التي أصابت أهل الكتاب من قبل، والتي أفسدت عقائدهم وتصوراتهم وحياتهم، نشأت أول ما نشأت عن انطماس صورة التوحيد الخالص. ثم تبع هذا الانطماس ما تبعه من سائر الانحرافات.
على أن الذي تمتاز به صورة التوحيد في العقيدة الإسلامية هو تعمقها للحياة كلها، …..
{الله الصمد}.. ومعنى الصمد اللغوي: السيد المقصود الذي لا يقضى أمراً إلا بإذنه. والله سبحانه هو السيد الذي لا سيد غيره، فهو أحد في ألوهيته والكل له عبيد. وهو المقصود وحده بالحاجات، المجيب وحده لأصحاب الحاجات. وهو الذي يقضي في كل أمر بإذنه، ولا يقضي أحد معه.. وهذه الصفة متحققة ابتداء من كونه الفرد الأحد.
….. {أحد} ولكن هذا توكيد وتفصيل.. وهو نفي للعقيدة الثنائية التي تزعم أن الله هو إله الخير وأن للشر إلهاً يعاكس الله بزعمهم ويعكس عليه أعماله الخيرة وينشر الفساد في الأرض.
وأشهر العقائد الثنائية كانت عقيدة الفرس في إله النور وإله الظلام، وكانت معروفة في جنوبي الجزيرة العربية حيث للفرس دولة وسلطان!!
هذه السورة إثبات وتقرير لعقيدة التوحيد الإسلامية، كما أن سورة الكافرون نفي لأي تشابه أو التقاء بين عقيدة التوحيد وعقيدة الشرك.. وكل منهما تعالج حقيقة التوحيد من وجه. وقد كان الرسول صلى الله عليه وسلم يستفتح يومه في صلاة سنة الفجر بالقراءة بهاتين السورتين.. وكان لهذا الافتتاح معناه ومغزاه.. »!!
ولو جئنا بالنصوص من كتب أخرى له، لتبدد ظلام هذه الفرية، وبان عوارها، وانكشفت سوأتها، ولكنه اليسير يطفئ لهيب الشبهات! ولكن انظر تفصيلا جميلا في شبالة 532-560 وقد ناقش المؤلف كلام المدخلي صاحب الاتهام فارجع إليه لزاما!
3- اتهام الأنبياء والصحابة
وتلك ثالثة الأثافي، وقائمة من قوائم عرش الظلم عليه، وقد أجاد د. شبالة في عرض المسألة وكان مما أكده، أن ما طعن وشنع عليه في الأنبياء والصحابة، كان في الطبعات القديمة، أما الكتب الجديدة أو تجديد الطبعات، فقد تغير الرجل تماما، وعلم أنه كان على خطأ، بل كان على جهل بالدين والتاريخ والعلم الشرعي، ولهذا نلاحظه-من يقرأ الظلال- أن هناك اختلافا واضحا في الظلال من الفاتحة إلى يوسف، تقريبا، وبين الباقي، لأنه لم يكمل التنقيح وأعدم، رحمه الله تعالى وغفر له.
في هذه المقالة محاولة لإماطة الأذى عن سيد، وعن منهجه، ما بين المبغضين، والمتربصين والدارسين والمنصفين. وهذا ما ندين الله به، وهذا موقفنا منه، وهو موقف المسلم الملتزم، ألا يترك كل من أخطأ، بل كل يوزن بميزان الحسنات والسيئات، والله يغفر للمؤمنين، ويرحمهم ويشملنا معهم!