سيادة القانون وميزان القوى في الإسلام الكلاسيكي
RULE OF LAW AND BALANCE OF POWER IN CLASSICAL ISLAM
نوح فلدمان[1] (Noah Feldman)
ترجمة: عبد الحق دحمان
الوحدة السياسية
مركز المجدد للبحوث والدراسات
ليس المفكرين الغربيون وحدهم، ولكن حتى الشرائح المثقفة في العالم الإسلامي قد أذهلوا خلال ربع الأخير من القرن الماضي من بروز حركة سياسية تدعو إلى إحياء دول إسلامية في البلدان ذات الأغلبية المسلمة. ليس هناك شك في أن العديد من الحكومات في البلدان الإسلامية في حاجة ماسة للإصلاح وخاصة في الشرق الأوسط، بعد ان فشلت الديكتاتوريات والأنظمة الملكية على السواء بشكل أساسي في تحقيق الازدهار الاقتصادي، والهيمنة العسكرية، أو حتى بناء حكومات شرعية. لكن لماذا لم تؤد هذه الحالة السيئة إلى ظهور حركات سياسية محلية تسعى إلى إنشاء انظمة ديمقراطية على غرار أوروبا الشرقية؟ وما هو سبب الاختلاف بالنسبة للعالم الإسلامي؟
ما يعمق لغز ظهور رؤية سياسية إسلامية مميزة هو حقيقة أنه في خلال القرن العشرين كانت الرؤية المعيارية السائدة بين أغلب الخبراء والباحثين داخل وخارج العالم الإسلامي هو أن الدولة الإسلامية الكلاسيكية قد فشلت. ومن وجهة النظر هذه، كان الإسلام هو المبدأ الناظم للإمبراطورية العثمانية، وأساس السلالات الإسلامية التي قبلها. وبعد انهيار الإمبراطورية العثمانية تحت وطأة رؤيتها المتخلفة للعالم، أدخلت الشعوب التي عاشت في كنفها في فترة صعبة من القهر الاستعماري. وبحلول نهاية القرن العشرين كان من الواضح أن الدول المنضوية على الصعيد القطري والتي خلفت الإمبراطورية العثمانية لم يكن أداؤها جيدًا، وأن تبنيها الفريد للقومية والاشتراكية كان في طريقه إلى التلاشي هو الآخر. ولكن لماذا كان ينبغي لذلك أن يوجه الجمهور المحبط إلى الخلف في اتجاه نوع الحكومة التي فتح فشلها الباب أمام هذا المرحلة الحرجة من تاريخ المسلمين؟
أكد معظم المهتمين الذين سعوا للإجابة على هذا السؤال على التصور السائد في العالم الإسلامي بأن العلمانية مرتبطة بفشل الدولة القومية ذات البعد الاشتراكي. وفي عضون ذلك، وعلى مدار القرن العشرين، كانت هناك دائمًا مناقشات قليلة تدعو باستمرار إلى العودة إلى الإسلام كحل للمشكلات السياسية. وفي الغالب لم يتم الالتفات إليهم، ولكن بمجرد فشل أي مشروع آخر، تتجدد التساؤلات بين الناس من قبيل: لماذا لا نجرب الإسلام؟
هناك الكثير يمكن مناقشته ضمن هذه السردية عن صعود وجهات نظر السياسة الإسلامية إلى الواجهة في السنوات الأخيرة. إذا لاحظ الكثير أن الإسلام قد قدم على مدار ثلاثين مائة عام الماضية، الخطاب المهيمن للسياسة في الشرق الأوسط، وإذا كان اعتبار القرن العشرين على أنه انحراف قصير، فإن الحجة لا تزال تكتسب المزيد من القوة. وتبدو عودة ظهور الإسلام وكأنه عودة إلى القاعدة الأصلية، في حين يبدو ظهور القومية العلمانية وكأنه ظاهرة تاريخية تحتاج إلى تفسير مستقل. إن القدرة غير العادية للإسلام في توليد خطابات متعلقة بالعدالة تساعد أيضا في تفسير قيمتها العظيمة للأشخاص الذين يسعون إلى مقاومة الحكومات التي بدت غير عادلة. لكن حتى هذه السردية الأكثر ثراءً تفشل في شرح الهدف الذي سيتم وضعه ضمن الاجندة الأولى في البرنامج السياسي لأولئك الذين يدعون إلى إقامة دولة إسلامية: إعادة الشريعة إلى دورها المركزي في المجتمع الإسلامي.
من خلال أبسط الشعارات الموجودة والأكثرها بلاغة: “الإسلام هو الحل “بالنسبة للإسلاميين، فإن تطبيق الشريعة وحده هو ما يجعل الدولة إسلامية. إلا أنه إذا تم إخراجها من السياق، فإنها تبدو خيالية وبسيطة. كيف يمكن للإسلام وحده أن يعكس المشاكل العميقة المتمثلة في الخلل السياسي والركود الاقتصادي؟ على الرغم من ذلك، بالنسبة للإسلاميين، بل ولجمهورهم المقصود، فإن “الإسلام” يعني الشريعة التي تُفهم على أنها هيكل شامل يأمر بضبط العلاقات الاجتماعية وتوفير العدالة الاقتصادية. وكأن بعض الإسلاميين يصرون على أن “الإسلام هو دستورنا”. مرة أخرى، لا يكون الادعاء منطقيًا إذا تم اعتباره تجريدًا. لكن لفهم الشريعة كقاعدة دستورية أساسية لابد من استحضار تاريخ ثري ومعقد من القانون الدستوري والنقاشات النظرية التي امتدت لقرون.
من حيث الجوهر، فإن الدعوة إلى إقامة دولة إسلامية هي الدعوة إلى إقامة الشريعة الإسلامية. بمجرد أن نأخذ هذا المطلب على محمل الجد، يمكننا أن نبدأ في فهم سبب انجذاب الكثير من الناس في العالم الإسلامي إلى السياسة الاسلامية. بالنظر إلى دولهم، فإنهم يرون بوضوح أن السلطة وليس القانون، هي الهيكل الذي يشكل العلاقات السياسية والاقتصادية والاجتماعية. كما يرون في نفس الوقت أن دولهم محطمة. لذا يبدو القانون بمثابة الحل الذي لابد منه. علاوة على ذلك، يبدو أيضا أن القانون يحمل وعدًا كبيرًا في الذاكرة الجماعية للعالم الإسلامي، لا يزال من الصعب تذكر أن الدولة الإسلامية الكلاسيكية كانت دولة يحكمها القانون وحكمت من خلاله.
نشأة الفقه الاسلامي
بالنسبة للغربيين وحتى بالنسبة للنخبة المسلمة المتأثرة بالغرب، قد يبدو من الغريب للغاية وصف الدولة الإسلامية الكلاسيكية للإمبراطورية العثمانية والعديد من السلالات التي سبقتها على أنها قانونية أساسًا. لقد بذل العديد من المستشرقين على مدى قرون ماضية جهدهم لوصف العالم الإسلامي بأنه موطن للاستبداد الشرقي التي تغيب فيه كل معايير المسائلة والمحاسبة والتي يُفترض أنها مطبقة على الحكام الغربيين. في الواقع، استخدم العديد من المفكرين الغربيين الأكثر استنارة ومحبة للقانون – “مونتسكيو” أحد الأمثلة الشهيرة – صورة الشرق الإسلامي كأداة رمزية للتعبير عن رؤيته لأسوأ النظم غير القانونية.
في الغالب، لم يفعلوا ذلك بدافع الكراهية أو الحقد، ولكن ببساطة لأن كل قصة رمزية سياسية جيدة تحتاج إلى تناقض بين المدينة الفاضلة والواقع الحقيقي. حتى المفكرين المتمرسين مثل عالم الاجتماع الألماني “ماكس ويبر” استخدموا الإسلام في شيء من هذا القبيل؛ عندما أراد ويبر وصف القرارات الصادرة بدون قواعد قانونية ضابطة، استخدم صورة القاضي المسلم جالسًا تحت شجرة النخيل، يقيم العدل على النحو الذي يراه مناسبًا.
لا شيء يمكن أن يكون أبعد عن الحقيقة. كان من المفترض أن يحكم القاضي بما يتماشى مع القانون، وعندما يجد صعوبة في ذلك، كان يفترض به أن يحيل التحقيق إلى فقيه مؤهل يجيب على ذلك في شكل فتوى (رد قانوني). تم تحديد دور كل من القاضي والفقيه بدقة من خلال القانون والعرف. كان سيتم تعيين القاضي في منصبه من قبل مسؤول مكلف بهذه المهمة ويكون مسؤولاً في نهاية المطاف أمام الخليفة، الذي جلس على رأس هرم السلطة في الدولة الإسلامية السنية. من جانبه، كان الفقيه سيحصل على لقب مفتي، مع منحه الحق في إصدار الفتاوى، وبعد تعليم صارم على يد المزيد من كبار العلماء الذين احتفظوا بالحق في تفويض طلابهم للانخراط في هذا النظام القانوني الرسمي.
كان التنظيم الذاتي لمجمع العلماء فيما يتعلق بالقانون جزءًا كبيرًا من النظام القانوني كما كان القاضي، الذي يتم تعيينه عادةً من بين رتبهم. ولكن على عكس القضاة، الذين أصبحوا جزءًا من جهاز الدولة بقبولهم تعيين الخلافة وما جاء به من رواتب، لم يتم تسمية أعضاء هيئة العلماء من قبل أي شخص مرتبط بالحكومة. وإنما أصبحوا علماء عن طريق التعليم والوقار، وتحدد وضعهم من خلال السمعة التي تمتعوا بها بين زملائهم العلماء. وكونهم علماء، وليسوا قضاة، فقد مارسوا حقهم الحصري في تفسير شريعة الله.
فكيف حدثت هذه التراتبية؟ وكيف أصبح العلماء وهم أفراد لا يتمتعون بأي سلطة سياسية مباشرة، ولا جيوش، ولا مناصب حكومية في كثير من الأحيان، كحراس الوحيدين على الشريعة، بأن صاروا الضباط الوحيدين بالنسبة لسلطة الحاكم؟ تعود الإجابة إلى الطريقة التي تطورت بها الشريعة الإسلامية نفسها جنبًا إلى جنب مع الدولة الإسلامية.
في طوال حياته، كان الرسول محمد صلى الله عليه وسلم في حياته بمثابة الزعيم الديني والسياسي لمجتمع المسلمين. وكان وحيه، أي القرآن، يحتوي على بعض التوجيهات الدينية التي تتعلق بالشعائر والميراث على وجه الخصوص. لكنه لم يكن كتابًا قانونيًا بشكل أساسي ولم يتضمن رمزًا قانونيًا مطولًا مقارنة بما هو موجود في التوراة. وعندما احتاج الجيل الأول من المؤمنين المسلمين إلى إرشادات حول موضوع معين لم يتم تناوله في الأحاديث التي سمعوها، لجأؤوا مباشرة إلى محمد صلى الله عليه سلم. فإما يجيبهم من تلقاء نفسه، وإذا لم يكن متأكدًا، فإنه ينتظر التوجيه الإلهي في شكل وحي ينزل إليه
وبوفاة النبي محمد صلى الله عليه وسلم توقف الوحي عن النزول. فانتقل موقع القيادة السياسية والدينية المشتركة إلى سلسلة من الخلفاء الذين خلفوا النبي. لذا الكلمة العربية خليفة تعني الاحتياطي أو البديل.
يبدو أن بعض الخلفاء الأوائل اعتبروا أنفسهم على أنهم خلفاء عن الله. فكان من المفترض أن يمنحهم ذلك سلطات قوية للتحدث نيابة عنه، حتى لو لم يزعموا أنهم انبياء. ومع ذلك، وبعد تعاقب بضعة أجيال، أصبح مقبولا أن الخليفة كان بديلًا عن النبي محمد صلى الله عليه وسلم، وليس لله. وقد ترك ذلك الخليفة في موقف صعب إذا تعلق الأمر بحل المسائل القانونية الصعبة والمستجدة. فقد امتلك الخلفاء السلطة التي كانت لدى النبي محمد صلى الله عليه وسلم، ولكن ليس لهم حق الوصول مباشر إلى الوحي الإلهي. مما ترك المجتمع في مأزق. فإذا لم يتحدث القرآن عنها بشكل واضح، فكيف كان سيُشتق القانون؟
كانت الإجابة للإشكالات الطارئة التي تطورت خلال القرنين الأولين من الحكم الإسلامي هي باللجوء إلى ما جاء في القرآن مباشرة ويمكن استكماله بالإشارة إلى الأقوال والافعال التي قام بها النبي محمد صلى الله عليه وسلم – بشكل جماعي، أو ما يسمى بالمنهج النبوي أو السنة. تم التقاط هذه الأفعال والأقوال في التقليد الشفهي للأحاديث التي تم تواترها من شخص إلى آخر، والتي تبدأ على الأرجح بشخص شاهد الفعل أو البيان بشكل مباشر. لكن بالطبع، حتى تقرير الحديث كان يستمد من موقف واقعي معين ولا يمكنه الإجابة على معظم المشاكل القانونية التي تنشأ في القضايا المستقبلية. لذلك كان من الضروري التفكير بالقياس من حالة إلى أخرى. كان هناك أيضا احتمال أن يكون هناك إجماع مجتمعي حول ما يجب القيام به في ظل ظروف معينة، وكان يُعتقد أيضا أن ذلك له وزن كبير.
إن الجمع بين مصادر التشريع الأربع المجتمع عليها؛ القرآن، والسنة النبوية كما وردت في جموع الروايات، بالإضافة الى الاستدلال القياسي، والإجماع كان بمثابة أساس لنظام قانوني. لكن من يستطيع أن يقول كيف تتوافق هذه العوامل الأربعة معًا؟ في الواقع، من الذي كان له السلطة ليقول إن هذه المصادر وليس غيرها هي التي شكلت مصادر القانون؟ كان الخلفاء الأربعة الأوائل، الذين عايشوا النبي شخصيًا وكانوا يقودون إمبراطورية سريعة التوسع وتركز على الفتح أكثر من التركيز على الحكم، ربما كانوا قادرين على تقديم هذا الادعاء لأنفسهم. لكن بعدهم، واجه الخلفاء مجموعة متزايدة من الأفراد الذين أكدوا بشكل جماعي أنهم يمكنهم التأكد من القانون عبر المصادر المتاحة. أصبحت المجموعة التي نصبت نفسها بنفسها والتي أكدت سلطة تحديد القانون تُعرف بالعلماء – وعلى مدى بضعة أجيال، بمساعدة بلا شك الحاجة إلى نظام قانوني منظم في إمبراطورية كبيرة، دفعوا الخلفاء للاعتراف بهم كأوصياء على القانون.
العلماء كورثة للأنبياء
العملية الدقيقة التي بموجبها وضع العلماء الشريعة الإسلامية في وقت واحد كفئة منفصلة ورسخوا أنفسهم كمترجمين نهائيين لها تظل غامضة إلى حد ما. هذا ليس غريباً على الإطلاق بالنسبة لأصول النظام القانوني. غالبًا ما يكون تاريخ الأنظمة القانونية غامضًا، ولذا فمن المرغوب دائمًا أن تتصرف الطبقة التي تتحكم في القانون كما لو كانت دائمًا مسؤولة. في القانون العام الإنجليزي، تعامل القضاة مع مشكلة الأصول هذه من خلال الادعاء بأن القانون نفسه يعود إلى زمن بعيد عن إدراك الإنسان. في حين أن علماء المسلمين، يؤكدون عكس ذلك. حيث تعود ذاكرة الأفراد إلى زمن النبي، والواقع أن هذه الذاكرة كانت المصدر الأساسي للأقوال التي قدمت دليلاً على منهج النبي. أبسط شيء يمكن فعله هو التصرف كما لو أنه منذ لحظة وفاة النبي، كان هناك دائمًا علماء يجمعون روايات عن ممارسته وتفكيره من هذه الاستنتاجات القانونية. بمعنى ما يجب أن يكون هذا هو الحال بالتأكيد، حيث يحتاج الناس دائمًا إلى حل الخلافات الملموسة. وبدا من الطبيعي أن يفهم العلماء قصص الخلافات على الملكية بين فاطمة ابنة النبي وأبو بكر الخليفة الأول على سبيل المثال من حيث الأصول القانونية التي افترض أنها كانت تعمل فيها.
لا يعني ذلك أن العلماء افترضوا ببساطة أن كل ما قيل عن النبي صحيح. وإنما بدأوا في وقت مبكر نسبيًا في التاريخ الإسلامي في محاولة التمييز بين الأحاديث الموثوقة وتلك التي قد تكون نشأت عن طريق الخطأ أو التلفيق. مع انتشار الأحاديث، والمحفوظة، أصبح من المهم بشكل متزايد التمييز بين الصحيحة والمزيفة.
في النهاية، تم تطوير مجموعة من المعايير للقيام بذلك، تعتمد بشكل كبير على سلسلة نقل الأحاديث من مرسل إلى آخر، والتي تم دمجها وحفظها بشكل ملائم إلى جانب الأحاديث نفسها. بحلول الوقت الذي تم فيه تدوين مجموع الأحاديث (الآن أكثر من ثلاثة قرون بعد تحقيق الأحداث)، قيل إنه كان هناك “علم تحقيق الأحاديث” الذي يقيم شخصيات الناقلة ومدى وموثوقيتها وسلامة المسند بأكمله. كان تقييم السير المتعلقة بالنبي أحد مكونات الدراسة القانونية. ولكن من وجهة نظر العلماء، فإن الأمر المهم هو أنه مثل الحلقات الأخرى من عملية التفكير القانوني، ظل حكرا عليهم حصريا.
ومن أجل جمع المواد القانونية ذات الصلة وتفسيرها، يمكن حقًا تسمية العلماء على حد تعبير إحدى السير بأنهم “ورثة الأنبياء”. من الناحية الموضوعية، لا يستطيع العلماء وضع القانون؟ وإنا الله وحده يستطيع أن يفعل ذلك، والأنبياء فقط هم من يستطيعون أن يخبروا أنه فعل ذلك. وفقًا للعقيدة التي اعتنقها المسلمون على نطاق واسع، كان النبي محمد صلى الله عليه وسلم “خاتم الأنبياء”، والذي بوفاته انقطع الوحي. وقد ترك للعلماء في تفسير وتطبيق شريعة الله. من الناحية النظرية، اكتشف العلماء القانون بطريقة لا تختلف تمامًا عن أسلوب القضاة الإنجليز الذين ادعوا اكتشاف القانون العام من خلال الاستدلال على السوابق القديمة في الممارسات العملية، على الرغم من ذلك، كانت كلا المجموعتين من القضاة موفقة في سن القانون – ليس بالاختراع الكامل، ولكن من خلال القوة الهائلة للتفسير.
مع مرور الوقت، تجمعت مدارس الفكر القانوني المختلفة بين العلماء وحول شخصيات رئيسية معينة امتد تأثيرها إلى مناطق جغرافية معينة كانت تحت الحكم الإسلامي. من علامات النظام القانوني الناضج، كان لمدارس الفكر القانوني مكون مؤسسي انبثق نتيجة تماسكها الفكري. فكان لعالم شاب أن يربط نفسه بمدرسة معينة، مما يعني الانتساب إلى مذهب أو مدرسة محددة والالتزام باتباعها عندما يتعلق الأمر بإصدار أحكام قانونية فعلية. كانت المدارس المختلفة تدرك بعضها البعض، وكثيراً ما كانت تحدد مذاهبها من خلال نوع من الحوار غير المباشر. عادةً ما احتفظ كبار العلماء بالحق في اتخاذ قرار بشأن قضية معينة بناءً على تعاليم إحدى المدارس التي لا ينتمي إليها، أو من خلال النظر خارج مذاهب المدرسة تمامًا والعودة إلى المصادر الأصلية. لكن بالنسبة لمعظم الفقهاء العاديين، فإن الالتزام بالبقاء ضمن القيود العقائدية لمدرسته خلق قدرًا معينًا من الانتظام والقدرة على التنبؤ. بعد كل هذا، فإن الشيء الوحيد الذي يجعل النظام القانوني فعالًا وشبيهًا بالقانون هو أن قرارات الفاعلين القانونيين تتشكل أو حتى تتحدد من خلال المواد القانونية الموجودة أمامهم وأساليب التفسير الموثوقة التي يعترف بها النظام نفسه .
العلماء في مقابل الخلفاء
لا تتطور الهيئات القانونية كالمدارس من فراغ سياسي. لكي يكون القانون وثيق الصلة عمليًا، بدلاً من كونه تجريد نظري بحت، يجب أن يكون له بعض الارتباط بالطريقة التي يتم بها نشر السلطة من قبل من هم فيها. على الرغم من أن الشريعة الإسلامية كانت بمثابة “قانون الفقهاء” من حيث أن محتواها تم تحديده من قبل فقهاء القانون، وليس الدولة، إلا أنها كانت أيضا قانون دولة من حيث أن لديها آلية لتطبيقها من قبل الدولة. كانت تلك الآلية هي القضاء الذي يعينه الخليفة ويخضع لسلطته المباشرة.
في ظل النظرية التي طورها العلماء لشرح تقسيم العمل في الدولة الإسلامية، كان للخليفة مسؤولية قصوى في تنفيذ الأمر الرباني فيما يخص “الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر”. إلا ان أداء هذه المهمة لم يكن بمفرده. وإنما تطلب منه تفويض المسؤولية إلى الآخرين، وهم بالتحديد القضاة الذين سيطبقون التشريع الديني كما فسره العلماء. لكي يكون المرء مؤهلاً كقاضي، يجب أن يكون لديه فهم لهذا القانون، حتى لو لم يكن المرء بحاجة إلى أن يكون قادرًا على حل كل مسألة قانونية معقدة بمفرده. ويتبع ذلك أن يكون القضاة من أهل العلم. عندما يتصرفون كقضاة، فإنهم سيلبون ضمنيًا إرادة الخليفة في اتباع القانون. والذي يمكن أن يقربهم أو يبعدهم وفقا لذلك. ومع ذلك، فإن هذا لا يعني أنهم سيتبعون التفسير القانوني للخليفة، بقدر ما تم انتقاؤهم من المدرسة القانونية التي التزم بها الخليفة. جاءت السلطة القضائية من الخليفة، لكن القانون الواجب تطبيقه جاء من العلماء.
وهذا الترتيب الدقيق في غاية الأهمية لفهم ميزان القوى بين العلماء والخليفة. جادل بعض الباحثين في الدستور الإسلامي الكلاسيكي بأن العلماء لا يستطيعون تقديم أي رقابة ذات مغزى على الحاكم لأن الخليفة احتفظ بسلطة تعيين القضاة وفصلهم، ومن خلال ذلك يمكن أن يمارس تأثيرًا على القانون كما يشاء. لكن هذا الرأي يميل إلى إهمال سلطة اختيار القضاة (وبالتالي التأثير على نتائج القضايا) مع سلطة سن القانون.
يتكون القانون – وخاصة الفقه القانوني – مما هو أكثر بكثير مما يقرره القضاة في قضايا معينة. كما يحتوي على آراء مدروسة لعلماء خارج القضاء حول محتوى القانون وتطبيقه. وقد عبر العلماء عن آرائهم في الأطروحات القانونية، بإصدار فتاوى ردًا على أسئلة واشكالات طرحها عليهم أفراد أو قضاة واجهوا صعوبة في تحديد القانون الواجب تطبيقه في قضية معينة. لذا كانت بنية القانون كما شكلها العلماء معروفة لأعضاء بين مجتمع العلماء بما في ذلك القضاة. بالتالي كان القانون بمعناه الحقيقي يشكل قوة حقيقية وشبه ملموسة، وتتجسد في الخبرات والآراء الجماعية لطبقة العلماء.
ونتيجة لذلك، فإذا ضغط الحاكم على القضاة لمخالفة القانون من اجل الفصل في قضايا محددة -سيتبين للعلماء أنه فعل ذلك-. بالتالي سوف يكون الحاكم قادرًا على استخدام الضغط وصلاحيات التعيين لأجل الحصول على النتائج التي يريدها في حالات معينة. بعد كل هذا، كان القضاة كأفراد أضعف بكثير من قوة الحاكم، حتى لو كانوا ينتمون إلى طبقة أقوى منه. لكن الحاكم لا يمكنه أن يفسد مسار العدالة إلا على حساب أن يُنظر إليه على أنه ينتهك شريعة الله.
تكلفة تجاوز الشريعة الله لم تكن مسألة بسيطة. وفقًا لنظرية الحكم التي أصدرها العلماء، كان الغرض من الحاكم – سبب وجوده – هو تطبيق التوجيه الإلهي. بالتالي في حالة خرق القانون، فإن هذا هو بمثابة هو أن الحاكم غير مؤهل للحكم. وإذا استمر هذا الخرق مع مرور الوقت سيُظهر لأولئك الذين يعرفون أن الحاكم لم يكن يؤدي وظيفته على أكمل وجه في علاقته مع الشعب.
لكن هل هذا هو الجوهر؟ ما هي صفة العلماء التي يمكن لها كبح الحاكم في حالة لم يعد مؤهل للحكم؟ هذا تساؤل مهم للغاية إذا أردنا فهم توازن القوى في الدولة الإسلامية الكلاسيكية. فالجواب الأكاديمي غالبًا هو أن العلماء كانوا عاجزين بشكل أساسي في مقابل الحاكم، وأنهم قبلوا هذا الموقف الضعيف باعتباره أمرًا واقعًا عمليًا. على الرغم من أن الشريعة تعمل كدستور، “لم يكن الدستور قابلاً للتنفيذ”، لأنه لا يمكن لا العلماء ولا الخاضعين له “إجبار حاكمهم على مراعاة القانون أثناء ممارسة الحكومة”.
لكن هذه الإجابة لا يمكن ان تفسر بشكل كاف دقة علاقات القوة داخل دولة دستورية. نادرًا ما كان أي دستور ان يمكّن القضاة أو الفاعلين غير الحكوميين من “اخضاع” الرئيس التنفيذي الذي يمتلك كل وسائل القوة والعنف. إن الوسائل التي يتم من خلالها تقييد السلطة التنفيذية من قبل مؤسسات لا تمتلك قوة السيف هي دائمًا أكثر دقة، كونها مدفوعة بالخطابات والأفكار، وليس الإكراه القسري. في الواقع، كان لدى العلماء عدة أدوات مهمة تحت تصرفهم للحفاظ على الحاكم. ولمعرفة كيف تم ذلك، نحتاج إلى فحص الطريقة التي تحدث بها العلماء أنفسهم في داخل مؤلفاتهم، وبين سلوكهم الوظيفي في الواقع الحقيقي، والتي لم تكن دائمًا مطابقة لما قالوه في كتبهم.
للتأكد بأن العلماء يقولون ذلك، أعطى القانون نفسه لهم الحق في تعيين الخليفة أو عزله. حيث أكدت الكتب الفقهية للقانون الدستوري – التي كتبها العلماء بالطبع – أن الخلافة لم تكن وراثية كما ينبغي. يمكن تعيين الخليفة من قبل سلفه، أو تعيينه من قبل مجموعة من الناخبين الموصوفين على أنهم مسؤولون عن “الإلزام والتحييد” المجتمع ككل. تم فرض هذه المجموعة للتأكد من أن المرشح يستحق تولي المنصب. ثم كان من المفترض أن يبرم أعضاؤها اتفاقية تعاقدية مع المرشح واعتبروا ذلك كأنه ولاء له. في المقابل، كان ملزمًا باتباع القانون. جادل بعض العلماء بأن الخليفة الذي عينه سلفه لا يزال بحاجة إلى موافقة الناخبين. لكن في رأي كل العلماء، كان الناخبون هم العلماء أنفسهم.
كما حددت كتب القانون الدستوري بأن الحاكم الذي لا يطبق العدالة أو يعرقل المهام بطريقة تتعارض مع واجباته قد يُحرم من البقاء في الحكم. إلا انه وبالنظر إلى قلقهم بشأن الحفاظ على الاستقرار السياسي والوضع العام، كان العلماء أكثر حذراً بخصوص التأكيد صراحة أن لهم حق الإعلان عن عدم صلاحية الحاكم للحكم . ذكر أحد العلماء أن “الكثير من الناس” – ولم يقل من – “اعتقدوا أنه ينبغي خلع الخليفة الظالم والمستبد”. لكن المعنى كان حاضرا في تكاليف المصلحة والمفسدة. كان للعلماء سلطة إلزام المجتمع بالطاعة مقارنة بالحاكم، إذن، هل سيكون لديهم القدرة على تحرر من قيود الالتزام؟
في الممارسة العملية، لم يعلن العلماء بشكل صريح أن الخليفة غير مؤهل للحكم. وكان هذا من غير المنطقي، لا سيما أن العلماء لم يكن لهم قوة قهر تحت تصرفهم. ومع ذلك، كان لدى العلماء قدرة كبيرة على إبقاء الحاكم في حدود القانون. هذه القوة مستمدة من الحقائق السياسية للخلافة في العالم الإسلامي في العصور الوسطى، وهي حقائق تشكلت من خلال رفض العلماء الدستوري للخلافة الوراثية التلقائي.
في نظام توريث الملك، كما هو شائع في أوروبا مع العصور الوسطى، فإن بيت القصيد هو تقليل عدم اليقين بشأن من سيتولى المسؤولية حينما يتعلق الامر بالخلافة. مثل كهذا النظام من شأنه ان يقلل الحاجة إلى هيئة مؤسسية تقرر من سيصبح الملك بعد وفاة الملك. من الناحية النظرية، يجب أن تظهر أزمة الخلافة فقط في حالة عدم وجود وريث واضح، أو حيث يتم الطعن في الوريث باعتباره لا يصلح للحكم. على النقيض من ذلك، في نظام التعيين أو الانتخاب، غالبًا ما يكون هناك من يدعي بأحقية تولي منصب الحكم. هذا من شأنه ان يخلق الحاجة لشخص ما أو مجموعة من الناس لتأييد ادعاءاته، مما قد يظهره كحاكم في وضع انتقالي.
في البيئة الإسلامية في العصور الوسطى، كانت هذه بالضبط هي الطريقة التي تسير بها الأمور. قد يفكر الورثة الأقوياء أو غيرهم من أقارب الحاكم الحالي في إجراء انقلاب داخل القصر لإزالة سلفهم. خارج القصر، يمكن أن يكون هناك منافسون آخرون ينتظرون في الأجنحة، وبدورهم يتحينون الفرصة للاستيلاء على الدولة وتأسيس سلالة جديدة أو حتى لغزو الدولة بالقوة.
هذا الشك حول الخلافة جعل العلماء في غاية الأهمية. أول ما يحتاجه الحاكم الجديد هو تأكيد شرعيته في تولي الحكم. وهذا من شأنه أن يساعد في تعزيز سلطته ضد الرفض المبكر للمطالبين المحرومين من الفئات الأخرى. بعد ذلك، بمجرد توطيد موقعه، كان الحاكم الجالس بحاجة إلى أن يكون قادرًا على صد المنافسين والغزاة الجدد. للقيام بذلك، كان بحاجة إلى أن يكون قادرًا على الاعتماد على العلماء لتأكيد استمرار شرعية حكمه. في الحالة القصوى التي واجه فيها الغزو، سيحتاج الحاكم إلى العلماء مرة أخرى لإعلان الواجب الديني لحماية الدولة في جهاد دفاعي. لذا كان وجود العلماء إلى جانبه في أوقات التحدي والأزمات بمثابة قوة هائلة مضاعفة للحاكم الذي يمكن أن يقال إنه يتبع القانون.
أحد الأمثلة الشهيرة الداعمة للنظام من التحديات الخارجية يأتي من حياة العلامة تقي الدين ابن تيمية (1263-1328)، وهو أيقونة غزيرة الإنتاج قد تم إدانته وسجنه. معتقداته الفقهية والقانونية في ثلاث مناسبات منفصلة على الأقل (وتوفي في النهاية في السجن). على الرغم من استعداده لمخالفة العقيدة الرسمية، إلا أن ابن تيمية قدم دعمًا قويًا للدفاع عن دمشق ونظامها المملوكي ضد هجوم المغول الذين هددوا المدينة في أواخر القرن الثالث عشر. وقد تم التعرف عليه عن كثب مع الدفاع عن الدولة لدرجة أنه قيل إنه كان حاضرًا كنوع من الملحق العسكري في الهزيمة (المؤقتة) للمغول خارج دمشق عام 1299.
ما كان مهماً في دفاع ابن تيمية عن الدولة هو الدور الذي منحه للشريعة في سياق دعاية له ضد التهديد المغولي. على الرغم من اعتناق المغول للإسلام، وبالتالي كان من الممكن أن يكون لديهم ادعاء بالحكم إذا احتلوا. ومع ذلك، بصفته فقيهاً كبيرًا، أصدر ابن تيمية فتوى أعلن فيها تكفير المغول بغض النظر عن تمسكهم النهائي بالإسلام.
كان الحجة المركزية على وجه الخصوص في تحليل ابن تيمية هو فشل المغول في الالتزام بالشريعة، فاستخدام المغول لقانونهم العرفي التقليدي بدلاً من الشريعة الإسلامية كان موضع استنكار بسبب تهديده المباشر لسيادة الشريعة. رأى ابن تيمية أن الحاكم الذي لا يتصرف وفقاً لإملاءات العلماء الشرعييين لا تجوز طاعته. في الواقع بالنسبة لابن تيمية، فإن حقيقة عدم الالتزام بالشريعة قد أبطل ادعاء المغول بالشخصية الإسلامية وحرمهم بالتالي من أي ادعاء بالشرعية. تبع ذلك أن مقاومة المغول كانت شكلاً من أشكال الجهاد والحرب الدفاعية التي لابد منها ضد غير المسلمين. كانت النتيجة العملية لإعلان الجهاد هي إلزام المسلمين في كل مكان بدعم قضية المقاومة. بالتالي رأى ابن تيمية نفسه أن الحروب السياسية بين المسلمين محظورة ولا تستحق دعم أي مسلم. من ناحية أخرى، كان الجهاد واجبًا معترفًا به عالميًا.
لم يتفق كل عالم مع موقف ابن تيمية فيما يتعلق بموقفه من المغول … (ذكر) لكن يبدو أن أي عالم كان مستعد لاستيعاب موقفه بمجرد سقوط دمشق في أيدي المغول. وكان ابن تيمية نفسه على استعداد للاعتراف بإمكانية التسامح مع الحاكم حتى لو تناقضت بعض ممارساته؛ وطالما كانت الشريعة متبعة يمكن للعلماء فقط نذره وتصحيحه. ولكن مع وجود حالات للذين فشلوا في تطبيق الشريعة – لا يمكن أن يكون هناك حل وسط.
إذا كان من الممكن على العلماء فرض التزام الحاكم بالشريعة للإدعاء بأنه يمتلك الشرعية، فعدم احترام الحاكم للقانون من شأنه أن يضر بصورة العلماء الذين منحو له الشرعية. ففي هذه الحالة يمكن للعلماء إما تجاهل ممارساته، أو التأكيد مرة أخرى على شرعيته لكن بشكل ضعيف. وفي الحالات الأكثر تطرفاً يمكن للعلماء تأكيد شرعية للحاكم البديل. لهذا فتنحية الحاكم بالقوة قد يكون مصحوباً بفتوى تعلن عدم شرعية الحاكم المخلوع. وبطبيعة الحال كان إصدار مثل هذه الفتاوي تشكل خطوة محفوفة بالمخاطر. وعادة ما كان يكفي العلماء أن يقولوا القليل حتى يتولى الحاكم الجديد السلطة، ثم يقروا شرعية ذلك الحاكم باعتباره الشخص الذي يمتلك السلطة الشرعية للحكم بحكم طالما التزم باتباع القانون. ثم تبدأ الدورة من جديد. وبدون وجود جندي واحد تحت إمرتهم، كان العلماء يمثلون مصدرًا مهمًا للسلطة في الهيكل الدستوري الإسلامي.
باختصار، كانت سلطة العلماء في إضفاء الشرعية مهمة لأن تقلبات الخلافة كانت تتطلب تأكيدًا لشرعية الممارسات السياسية للحاكم. فلا عجب أن القانون الدستوري للعلماء لم يصرح مطلقًا بالخلافة لمجرد حقيقة الوراثة، رغم أن بعض الحكام أرادوا ذلك تمامًا بلا شك. بالطبع، كان الإصرار على قدرتهم على انتخاب الخليفة يمنح العلماء قوة أكبر. كان السماح بالخلافة عن طريق تعيين الحاكم السابق تنازلًا جزئيًا لسلطة الحكام ورغبتهم في تشكيل سلالة. لكن هذه التسوية ما زالت تمنح العلماء معظم ما يحتاجون إليه. ترك التعيين مجالا لحالات عدم اليقين في احتمالية تغيير الوريث المعين في أي لحظة. (في العصر الحديث، غير الملك حسين ملك الأردن خليفته المعين من أخيه إلى ابنه الأكبر قبل وفاته بأيام قليلة). إن وجود حالات عدم اليقين في ممارسة الخلافة دفع بالحاكم وخلفائه بحاجته الدائمة الى شرعية العلماء لتثبيت حكمه.
في مقابل منحهم الشرعية، كان مطلب العلماء من الحاكم يتمحور بشكل أساسي حول الالتزام بسيادة القانون. لذا من المهم ملاحظة أنه وفقًا لتفسير البنية الدستورية الإسلامية الذي أقترحه هنا، فمطالب العلماء لم تكن بدافع المصالح الشخصية. بقدر ما كانوا يؤكدون على دورهم الاجتماعي والسياسي حتى عندما كانوا يخدمون المصالح العامة المتمثلة في تعزيز الالتزام بالقانون.
فمن ناحية، استلزمت وعود الحاكم باحترام القانون وعود أخرى باحترام العلماء وموقعهم داخل المجتمع. في تأكيد هذا، كان العلماء بذلك يعززون مكانتهم الجماعية واستدامتهم كفواعل مهمة في المجتمع الإسلامي وذلك من خلال القضاة الذين تم اختيارهم من بين العلماء في إدارة النظام القانوني للدولة.
ما من شك ان تماهي العلماء مع القانون كان كاملاً وصادقًا. حيث انهم لم يطالبوا بالثروة ولم يشرعوا لها، بل أصروا على التزام الحاكم بالقانون. وهذا التزام مستمد من فهمهم للقانون على أنه يمثل شريعة الله ويسمو على الحاكم. في المقابل دعم هذا الأخير للقرارات التشريعية للعلماء فإن هذا هو اعترف بسمو القانون على المصالح الفردية. بالتالي مثل هذا الترتيب الدستوري هو ما مهد لسيادة القانون والذي أصطلح عليه في الوقت الحالي بحكم القانون.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
[1] . نوح فيلدمان أستاذ بكلية الحقوق بجامعة هارفارد وزميل أول مساعد في مجلس العلاقات الخارجية. شملت منشوراته سقوط وصعود الدولة الإسلامية (برينستون، 2008)، مقسوم على الله: مشكلة الكنيسة والدولة في أمريكا وماذا يجب ان نفعل حيال ذلك (فارار، ستراوس وجيرو، 2006)، ما ندين به للعراق: الحرب وأخلاقيات بناء الأمة (برينستون، 2004)، وكتاب بعنوان؛ بعد الجهاد: أمريكا والنضال من أجل الديمقراطية الإسلامية (فارار، ستراوس وجيرو، 2003).