لماذا لا توجد نظريات غير غربية في العلاقات الدولية؟ مقدمة
Why is there no non-Western international relations theory? An introduction
ترجمة: د. عبد الحق دحمان
الوحدة السياسية
مركز المجدد للبحوث والدراسات
ملخص:
سيتم التركيز في المحور الأول من الدراسة بشكل مختصر على الأساس المنطقي والمفاهيمي. بعد ذلك، نقوم بتوضيح ما نعنيه هنا بـ “نظرية العلاقات الدولية (IRT)”، والتي من شأنها أن تكون اللبنة في تناول دراسات حالة. بعدها نقوم بتناول العديد من التفسيرات المحتملة لعدم وجود نظرية للعلاقات الدولية خارج الدائرة الغربية، كالاعتقاد بأن نظرية العلاقات الدولية الغربية قد اكتشفت المسار العقلاني الصحيح لفهم هذا الحقل وبالتالي لا طائل من وجود تفسيرات أخرى بديلة، إضافة إلى ذلك الوضع المهيمن لنظرية العلاقات الدولية الغربية الذي يحول دون تقديم طروحات مغايرة. كذلك الطبيعة “الخفية لنظرية العلاقات الدولية في آسيا، فيما يتعلق بنقص الموارد والظروف المحلية التي عملت جميعها ضد تشكيل نظرية مستقلة للعلاقات الدولية، كذلك التأخر الزمني بين الغرب وآسيا في تطوير كتابات نظرية في الحقل. يتبع ذلك اقتراحاتنا حول المصادر الآسيوية المحتملة لتشكل نظرية العلاقات الدولية، بما في ذلك كتابات الشخصيات السياسية والعسكرية والدينية الكلاسيكية البارزة، كذلك الأفكار والمناهج الخاصة بالسياسة الخارجية للقادة، وعمل العلماء الآسيويين الذين أسقطوا النظريات الغربية للعلاقات الدولية في السياقات المحلية، وأخيراً، تعميمات للخبرات الآسيويين في تطوير المفاهيم التي يمكن استخدامها على نطاق أوسع.
- مقدمة:
منذ أكثر من اربعون عامًا، وفي مقال مثير أصبح منذ ذلك الحين كلاسيكيًا في هذا المجال، تناول مارتن وايت (1966، ص 20) في العدد الخاص بمجلة العلاقات الدولية لآسيا والمحيط الهادئ تساؤل مهم مفاده “لمإذا لا توجد نظرية دولية”. نعتبر سؤالًا أكثر تحديدًا من سؤال م. وايت، ولكنه مستوحى منه. نبدأ بفرضية أنه يوجد مجموعة واسعة من النظريات الخاصة بالعلاقات الدولية، إلا أن أغلبها تقريبًا تم صياغتها لأجل الغرب، بالتالي فإنها تستند إلى افتراض مفاده أن تاريخ العالم هو التاريخ الغربي بالأساس. رغم ذلك، فالتفسير بالنسبة لنا هو أن المصادر الغربية الحصرية لنظرية العلاقات الدولية تفشل بشكل واضح في التوافق مع التوزيع العالمي الحالي لموضوعاتها. بغض النظر عما إذا كان المرء يعتقد أن العالم بأسره يلعب الآن لعبة الأمم، أو أن نموذج ويستفالية ممزق بسبب التمييز بين نواته الأصلية وبين أطرافه، أو أن العولمة هي بمثابة هيكل جديد في طور النشأة، تظل الحقيقة أن الجميع الآن محاصر في العالم. العلاقات والعديد من الجهات الفاعلة في الأطراف تتمتع باستقلالية أكبر بكثير مما كانت عليه قبل نهاية الحقبة الاستعمارية. بعض الدول غير الغربية تسعى بشكل معقول لأن تتبوأ مكانة القوة العظمى. في ظل ظروف كهذه، فإن تساؤلنا هو “لمإذا لا توجد نظرية دولية خارج الدائرة الغربية”. نحن فضوليين فيما يتعلق بالغياب الواضح لنظرية غير غربية مثلما كان م. وايت فضولياً عند طرحه لسؤاله حول غياب النظرية الدولية بشكل عام. ومع ذلك، فإن تحقيقنا في هذا اللغز يتبع خط تحقيق أوسع من ذلك. كان تساؤل م. وايت المركزي هو أن الرضا عن الوضع السياسي القائم مرتبط بالسعي لتحقيق التقدم والرفاه داخل الدولة مما منع الحاجة إلى تطوير نظرية حول ما كان يُنظر إليه على أنه ميلودراما متكررة للعلاقات بين الدول. إذا كان الأمر كذلك، فقد يجد المرء تفسيرًا جاهزًا لغياب نظرية غير غربية للعلاقات الدولية، وما هو موجود منه، “غير منسق وغير منهجي بل ولا يمكن الوصول إليه في الغالب”. في الوقت الراهن، الموازن الحالي لـ ” الحياة الجيدة ” في العلاقات الدولية – السلام الديمقراطي، والاعتماد المتبادل والتكامل، والنظام المؤسسي، كذلك ” العلاقات الطبيعية والنتائج القابلة للملاحظة” – وكل ذلك موجود غالبا في البيئة الغربية، بينما لا تزال عوالم أخرى غير غربية تصارع من أجل البقاء (جولدجير ومكفول، 1992). أكد م. وايت، ” أن الحالات الشاذة بالنسبة لنظرية السياسية (كالثورة، أو الحروب الاهلية) تعتبر حالات عادية عند الحديث عن النظرية الدولية”. في حين أنه يمكن اخذ افتراضه بقليل من المبالغة فيما يتعلق بالحالة الشاذة للنظرية السياسية التي تكلم عنها وايت، فأضحت شاذة نوعا ما داخل الدائرة الغربية، أما بالنسبة للدول الغير الغربية يبدو أن حالات الغير الاعتيادية كالثورة والحروب أضحت تشكل جزء من الحياة اليومية.
مع ذلك، فإن عدم وجود نظرية غير غربية يستحق تفسيراً أكثر تعقيدا من مجرد الاعتراف بالصراع الفوضوي بين الدول الواقعة خارج النطاق الغربي. في الواقع، نحن لا نقبل فرضية م. وايت بأنه ينبغي أن تتمحور نظرية العلاقات الدولية حول البقاء فقط بعكس النظرية السياسية. بل نعتقد بإمكانية التقدم والتحول في كل من العالم الغربي والغير الغربي على السواء. لا تركز تفسيراتنا في غياب نظرية للعلاقات الدولية على غياب شروط الحياة الجيدة خارج الغرب، ولكن على القوى الفكرية والإدراكية التي تغذي التفاوتات مختلفة لكل من الهيمنة الغرامشية، وتستبعد التركيز العرقي للسياسة (أشاريا، 2000). بعض هذه التفسيرات تقع داخل الدائرة الغربية، وبعضها تقع خارجه، والبعض الآخر نتيجة تفاعل بين الاثنين. هذه التفسيرات لها علاقة كبيرة بما أطلق عليه أولي ويفر 1998 تخصص “علم الاجتماع”، والذي يعزز المتغيرات المادية كالتفاوت في القوة والثروة.
في هذا العدد الخاص، شرعنا في التحقيق في أسباب غياب نظريات غير غربية للعلاقات الدولية وما يمكن العمل حيال ذلك للتخفيف من هذا الموقف. وذلك بالتركيز على آسيا، كونها موقع التركيز الوحيد خارج الدائرة الغربية للقوة والثروة الذي يمكن مقارنته عن كثب مع الغرب، كما لآسيا أيضا تاريخ طويل من العلاقات الدولية المختلف تمامًا عن الغرب. في هذا الصدد يمثل التاريخ عامل مهم بالنسبة لنظرية العلاقات الدولية، لأنه كما سيتم تبيانه أدناه، حتى التفكير القصير لنظرية العلاقات الدولية في المنظور الغربي يكشف بسرعة أن الكثير منه مستمد بشكل واضح من النموذج الذي قدمه التاريخ الأوروبي الحديث. من جهة أخرى نحن ندرك تمامًا أننا نستبعد الشرق الأوسط، الذي يتمتع تاريخه بنفس الحق في المكانة كمصدر مميز لممارسات العلاقات الدولية، ومن خلال تناول الإسلام، قد يجد البعض إمكانية لوجود منظور للعلاقات الدولية من حيث التفاعل بين دار الإسلام (عالم الإسلام) ودار الحرب (عالم الحرب). نستثني أيضا إفريقيا، التي غالبًا ما كان تاريخ تقاليدها الحكومية مرتبطًا بالشرق الأوسط وأوروبا، والتي ربما يكون لتاريخها غير الحكومي صلة أقل مباشرة بنظرية العلاقات الدولية (على الرغم من أن هذا التصور أيضا قد يكون جزءًا مما يحتاج إلى تصحيح). نقوم بإجراء هذه الاستثناءات على أساس أن خبرتنا لا تكمن في هذه المناطق آنفة الذكر، بالتالي فتضمينها سيتطلب مشروعًا أكبر بكثير من المصادر التي لدينا للقيام بها. نأمل أن يتناول آخرون هذه المناطق كما نفعله هنا من أجل آسيا، وسيجدون النهج المعتمد هنا مفيدًا في القيام بذلك.
نظرًا لأن هذه المقدمة الخاصة هي بمثابة خطوة افتتاحية فيما نأمل أن يكون نقاشًا عالميًا موسعاً، فإن هدفنا هو التحدث إلى كل من الجماهير الغربية وغير الغربية على السواء. فبالنسبة لجمهور العلاقات الدولية الغربي، نريد تقديم تقاليد لنظرية علاقات دولية غير غربية، وسيتم ذلك جزئيًا في هذه المقالة التمهيدية ولكن بشكل أساسي في المقالات التي تتناول الصين، الهند، اليابان، وجنوب شرق آسيا. بالنسبة لجمهور العلاقات الدولية الغير غربي، فإننا نريد أن نطرح التحدي المتمثل في سبب هيمنة النظرية الغربية على الحقل، وما الذي يمكن وما ينبغي فعله حيال ذلك. نحن لا نفعل ذلك بدافع العداء للغرب، أو ازدراء نظرية العلاقات الدولية التي تم تطويرها هناك، ولأن نظرية العلاقات الدولية الغربية ضيقة جدًا في مصادرها وفي نفس الوقت مهيمنة جدًا في تأثيرها لتكون جيدة لصحة المشروع الأوسع في فهم العالم الذي نحيا فيه. نعتقد أنه بغض النظر عن أصولها وكياناتها الحالية، فليست من الضروري أن تكون نظرية العلاقات الدولية غربية بطبيعتها وحتمية أيضا. من حيث المبدأ، أنه مجال مفتوح وليس من غير المعقول أن نتوقع من غير الغربيين أن يقدموا مساهمات تتناسب على الأقل مع درجة مشاركتهم في ممارستها. هذا يثير بعض الأسئلة الفلسفية المعقدة والتي سيتم تفصيلها أدناه.
بالإضافة إلى ذلك، هناك حجة قوية لروبرت كوكس (1986، ص 207) مفادها أن “النظرية هي دائمًا لشخص ما ولغرض ما”. فلطالما بدى كوكس محايد فيما يتعلق بنظرية العلاقات الدولية، ولكن ليس من الصعب قراءة الكثير من افكاره، خاصة تلك التي لا تقدم فقط أداة للتحليل، ولكن أيضا رؤية لما يبدو عليه العالم (الواقعية، التعددية في المدرسة الإنجليزية)، أو كيف ينبغي أن تكون مثل (الليبرالية والماركسية والنظرية النقدية والمتضامنون في المدرسة الإنجليزية). من منظور كوكسيان(نسبة الى كوكس)، يمكن اعتبار الليبرالية، وخاصة الليبرالية الاقتصادية، على أنها تركز عن رأس المال، في حين تركز الواقعية والتعددية في المدرسة الإنجليزية عن الوضع الراهن للقوى العظمى وكيفية الحفاظ على دورها المهيمن في النظام / المجتمع الدولي. على الرغم من تقديمها على أنها نظريات عالمية، وتم قبولها بالفعل من قبل الكثيرين، إلا أنه يمكن أيضا اعتبار النظريات الثلاثة (أي الليبرالية والواقعية والتعددية في المدرسة الإنجليزية) على أنها تتحدث نيابة عن الغرب وتعمل في مصلحة استدامته عبر القوة والازدهار والنفوذ.
مقابل ذلك، سعت النظرية الماركسية والنقدية إلى تناول المجموعات المستبعدة أو المهمشة (العمال، والنساء، ودول العالم الثالث) لأجل تعزيز وضع أولئك الموجودين في الأطراف. فمن منظور روربرت كوكس، فإن الدول الآسيوية لها مصلحة في نظريات التي تتحدث نيابة عنها وعن مصالحها. لا الصين ولا اليابان يمكن ان تتناسب بشكل مريح مع الواقعية أو الليبرالية. تحاول الصين تجنب النظر إليها كقوة تعديلية للوضع الراهن مع تزايد قوتها، وبدلا من ذلك تركز جهودها في تطوير مدرسة صينية للعلاقات الدولية على هذا الأساس. لا تزال اليابان تكافح بشأن ما إذا كان ينبغي أن تكون قوة عظمى “طبيعية” أم لا، ووضعها “كدولة تجارية” أو “قوة مدنية” هو تناقض مباشر للتوقعات الواقعية. تتحدى رابطة دول جنوب شرق آسيا (ASEAN) منطق المدرسة الواقعية والليبرالية والإنجليزية حول أساس النظام الدولي، كون القوى المحلية تلعب دورًا مهمًا في إدارة النظام الإقليمي. ربما تتوافق كوريا الجنوبية والهند بشكل وثيق مع النماذج الواقعية، لكن لا يبدو أن أيًا منهما مؤكدًا نوعية المكانة التي تريدها ان تتبوئها في المجتمع الدولي. إلى الحد الذي يجعل نظريات العلاقات الدولية مكونًا للواقع الذي تتناوله، يكون للدول آسيا مصلحة كبيرة في أن تكون جزءًا من اللعبة. إذا أردنا تحسين نظريات العلاقات الدولية ككل، فيجب تحدي المنظور الغربي ليس فقط من الداخل، ولكن أيضا من خارج الدائرة الغربية.
2. ماذا نعني بنظرية العلاقات الدولية؟
بالنسبة إلى الاستفسار الذي يدور في ذهننا، لا نعتقد أنه من الضروري أو المناسب الانخراط في الخلافات التي لا نهاية لها حول النظرية التي تنبثق من المناقشات المرتبطة بفلسفة المعرفة. كما لا طائل من محاولة ترسيم حدود العلاقات الدولية والدخول في مناقشات حول ما إذا كان يجب أن يكون لها حدود واسعة أو ضيقة. بدلا من ذلك نحاول النظر على أوسع نطاق ممكن لعناصر التفكير الغير الغربية فيما يتعلق بحقل العلاقات الدولية. لقد وضعنا فهمنا هذا على نطاق واسع فيما ما يمكن اعتباره نظرية. يسعدنا أن نتبنى وجهة نظر التعددية في التنظير التي تشمل الفهم الصلب والوضعي والعقلاني والمادي والكمي على أحد طرفي الطيف النظري، والأكثر انعكاسية، والاجتماعية، والبنائية، وما بعد الحداثة من ناحية أخرى. على ضوء التعددية هذه، نقوم أيضا بتضمين النظرية المعيارية، التي لا ينصب تركيزها على شرح أو فهم العالم الاجتماعي كما هو، ولكن لوضع أفكار منهجية حول كيف ولمإذا ينبغي تطويرها. أن تفضيل نوع واحد من النظرية على غيره من شأنه أن يثبت إلى حد كبير الغرض من مشروعنا، وهو إجراء تحقيق أولي للعثور على “ما هو موجود” في التفكير الآسيوي حول موضوع العلاقات الدولية. بالتالي سيعطينا النهج الواسع للنظرية فرصة أفضل بكثير للعثور على نظريات محلية مقارنة بين هو موجود وضيق في النظريات المعروفة، أما بالنسبة لأولئك الذين يأخذون وجهات نظر معينة فبإمكانهم اسقاط تفضيلاتهم الخاصة للتمييز بين ما هو مهم وغير مهم بالنسبة لهم.
نظرًا لميزة العلاقات الدولية كموضوع، يجدر بنا التساؤل بشأن اعتبارها حقلاً عالمي النطاق (أي أنه ينطبق على النظام الدولي ككل) أو يمكن أن تكون استثنائية أيضا (ينطبق على نظام فرعي على أساس أنه يتمتع بخصائص مميزة). بالنسبة لمنظري علم الاجتماع فإنهم ينطلقون من تعميم عدد كبير من الظواهر والأحداث التي تشير بقوة نحو عالمية نظرية العلاقات الدولية. يرى ستيفن والتز أن نظرية العلاقات الدولية تنطبق على النظام الدولي بأكمله وصالحة لكل زمان من حيث تطبيقاتها [على الرغم من أنه يمكن لوم والتز هنا بسبب التزامه الصمت بشأن حقب تاريخية واسعة من حيث سيطرت الإمبراطوريات “العالمية”، مما طغى على منطقه الذاتي الذي يُفترض أنه غير قابل للتدمير من حيث إعادة إنتاج الفوضى الدولية (Buzan and Little، 2000)]. ومع ذلك، هناك أيضا متسع كبير للاستثنائية، والمثال الرائد في هذا السياق هو الدراسات الأوروبية، حيث أدى ظهور الاتحاد الأوروبي إلى إنشاء هيكل سياسي إقليمي لا يناسب النماذج السياسية المحلية أو الدولية. أنه بعيد جدًا عن الفوضى ليكون وستفالياً، وبعيدًا جدًا عن التسلسل الهرمي ليتم اعتباره إمبراطورية أو فضاءًا سياسيًا محليًا. هذه التجربة ما بعد الويستفالية لها ادعاء معقول بأنها استثنائية، وقد تم وضعها نظريًا ضمن “الحوكمة متعددة المستويات” وغيرها من المفاهيم المصممة خصيصًا. من حيث المبدأ، يجب أن تكون دراسة المناطق موقعًا رئيسيًا للتنظير النظامي الفرعي. بالنسبة لآسيا، تظهر عناصر من هذا في فكرة أن شرق آسيا ينطبع بالمنطق الويستفالي، لكنه لا يلعب الدور الويستفالي. بسبب ثقافتها الكونفوشيوسية، من المرجح أن تكون دول شرق آسيا في نشاط مع القوة بدلاً من منطق التوازن. خط التفكير هذا (فيربانك، 1968؛ هنتنغتون، 1996، ص 229-238 ؛ كانغ، 2003) يعرض ماضي آسيا في مستقبلها. وهي تفترض أن ما أسماه فيربانك “النظام العالمي الصيني” – شكل مركزي وهرمي للعلاقات الدولية – قد نجا داخل ثقافات شرق آسيا على الرغم من إعادة التشكيل السطحي للنظام الفرعي الآسيوي على النمط الغربي من الدول ذات السيادة. هذا الخط من التنظير الاستثنائي حول شرق آسيا ليس متطورًا بما فيه كفاية، بل ينبع بشكل أساسي من الولايات المتحدة. بالتالي تكمن مشكلة دراسات المناطق في أنها بالرغم من إمكانيتها في أن تكون الموقع المناسب للتنظير النظامي والاستثنائي، إلا أن دراسات المناطق نفسها تهيمن عليها عمومًا التخصصات التي لها اهتمام ضئيل بالتنظير، مع اعتبار الاستثناء بشكل فعال سببًا لعدم التنظير. مرة أخرى تقف أوروبا (في شكل دراسات الاتحاد الأوروبي) منفصلة.
إذا كانت كل النظرية تمثل شخصًا ما ولغرض ما، فإن هذا يجعل النظرية العالمية مستحيلة بشكل فعال بخلاف كونها تمويهًا للمصالح العالمية لأولئك الذين يروجون لها. تحذير كار (1946، ص 79) من أن “الشعوب الناطقة بالإنجليزية هم السادة الاوائل في فن إخفاء مصالحهم الوطنية الأنانية تحت ستار الصالح العام” يجسد منظور روبرت كوكس هذا بشكل جيد، خاصة وأن الهيمنة الأنجلو أمريكية على العلاقات الدولية هي أكثر من مجرد ظاهرة عابرة. والنتيجة هي تحديد التوتر الدائم في عملية التنظير حول العلاقات الدولية، سواء على المستوى النظامي أو النظامي الفرعي. هل من الممكن التطلع إلى موضوعية التنظير في محاولة لفهم وشرح كيفية عمل العالم، أو يجب أن يُنظر إلى كل هذه المحاولات على أنها جزئية بشكل أساسي، وجزءًا حتمًا من لعبة سياسية مستمرة للحفاظ على وجهة النظر المهيمنة أو التخلص منها، وبالتالي الحفاظ على أو إقصاء أولئك الذين يخدمون مصالح هذا الرأي؟
مع الأخذ في الاعتبار كل هذا، وبغض النظر عن كيفية الإجابة على السؤال الأخير، يتطلب هذا المشروع منا أن يكون لدينا بعض الفهم لما يشكل مساهمة في نظرية العلاقات الدولية، ما لم نضع بعض المعايير، سيكون من المستحيل إما تقييم الوضع الحالي أو قياس التقدم. نظرًا لأن جزءًا من هدفنا هو مسح أحدث ما توصل إليه هذا الفن، يبدو من المناسب تعيين المعايير على نطاق واسع تراتبياً، في المقام الأول. نحن ندرك أيضا أنه من المحتمل أن يكون من المستحيل بناء تعريف واضح وغير متنازع عليه من شأنه أن يفصل بوضوح بين النظري والغير النظري. على هذا الأساس، سنحسب شيئًا ما كمساهمة في نظرية العلاقات الدولية إذا استوفت شرطًا واحدًا على الأقل من الشروط التالية:
- أن يتم الاعتراف بها بشكل كبير من قبل المجتمع الأكاديمي للعلاقات الدولية على كونها نظرية؛
- أن يتم تعريفها ذاتيًا من قبل مبتكرها على أنها نظرية حتى لو لم يتم الاعتراف بها على نطاق واسع داخل مجتمع الأكاديمي السائد للعلاقات الدولية؛
- أنه بصرف النظر عن الإقرار الذي تتلقاه، فإن بنائها تتحدد على أنها محاولة منهجية للتجريد أو التعميم حول موضوع العلاقات الدولية.
سنبحث أيضا عما يمكن تسميته “ما قبل نظرية “، أي عناصر التفكير التي لا تضيف بالضرورة إلى النظرية بحد ذاتها، ولكنها توفر نقاط انطلاق محتملة للقيام بذلك. أن نظرية العلاقات الدولية هي اختصاص الأكاديميين بشكل أساسي، لكننا لن نستبعد تفكير الممارسين إذا كان يلبي معاييرنا أو يميل نحوها.
3. الأسباب المفسرة لهيمنة الغربيين في حقل العلاقات الدولية
لا جدال في أن العلاقات الدولية كحقل معرفي الذي حاول فهم ديناميكيات السياسة العالمية وتنظيرها قد نشأ في البيئة الغربية. كما أنه لا مجال للشك أيضا في أن المبادئ والأفكار الرئيسية في هذا الحقل متجذرة بعمق ضمن خصوصيات التاريخ الأوربي، الذي مهد لصعود الغرب كقوة عالمية، وفرض هيكله السياسي الخاص على دول العالم ككل. تشير هاته الحقائق على أن أي محاولة غير غربية لتطوير نقاش حول العلاقات الدولية، يجب أن يكون مشروط بالبيئة التي اوجدتها التطورات السابقة. لذلك ليس من الغريب ألا يجادل أحد في أنه بالرغم من أن العلاقات الدولية كحقل أكاديمي أصبحت نشاطا على المستوى العالمي (وأن كان ذلك بشكل غير متساو حتى داخل الغرب)، إلا أنها لا تزال تهيمن عليها التنظيرات الغربية على نطاق واسع. ومن المفيد النظر بنوع من التفصيل في أسباب ذلك. علماً أن بعض التفسيرات لا تترك مجالاً أو سبباً لاتخاذ إجراءات تصحيحية، في حين يفسر آخرون بأن الحالة الغربية من المرجح أن تكون مؤقتة.
1.3 النظريات الغربية في العلاقات الدولية كانت السباقة في اكتشاف المسار الصحيح للعلاقات الدولية.
إذا كان هذا الافتراض صحيحاً، فيمكن وضع نظرية العلاقات الدولية على قدم المساواة مع الفيزياء والكيمياء والرياضيات التي يمكن أن تدعي بشكل معقول مكانة عالمية بغض النظر عن السياق الثقافي. حينها، لن يكون لهذه المقالة أي فائدة ترجى سوى الدفع بالباحثين خارج الدائرة الغربية بالانخراط أكثر في المناقشات النظرية الموجودة. لا يتوقع من المرء أن يستبدل قوانين الفيزياء أو العلاقات الدولية لمجرد أنه تم مناقشتها من قبل الآسيويين بدلاً من الغربيين، ولكن قد يتوقع المرء أن تقوم مجموعة واسعة من ذوي الاهتمام المشترك بأن تقوم بفتح نقاش في اتجاه زيادة جودة النقد والرؤية وكذا الممارسات. رغم ذلك نعتقد أنه لا يمكن أن نبني هذا الادعاء بشكل مطلق، لأسباب عديدة أقلها أن الكثير من نظريات الغربية للعلاقات الدولية مستمدة من التاريخ الغربي الحديث. تتمثل احدى نتائج ” قيد وستفاليا” في التركيز المفرط على الفوضى وكذلك على الاحتمالات العديدة لكيفية بناء الأنظمة والمجتمعات الدولية (وقد تم بالفعل). وفي السعي أيضا وراء الوضع “العلمي”، كان التيار السائد لنظرية الغربية للعلاقات الدولية مهتماً أيضا بشكل مفرط بالاختيار العقلاني الضيق إلى حد ما، من خلال وجهات النظر المتعلقة بسياسات القوة، الاستراتيجية والاقتصاد. لقد بدأت للتو في التعامل مع مجموعة واسعة من الاحتمالات كالهوية والاحترام، والتقاليد وما إلى ذلك. بدون شك أن النظريات الغربية للعلاقات الدولية قد ولدت رؤى مهمة وتستحق أن تؤخذ على محمل الجد من قبل أغلب المهتمين بالموضوع. رغم ذلك، لا يمكن أن يكون هناك شك أيضا في أن ذلك متأصل في تاريخ محدود للغاية، وبالتالي يجب أن يكون هناك منظوراً تاريخيا أكثر للعالم من شأنه أن يفتح آفاقا إضافية جديدة.
هناك أيضا وجهة نظر لروبرت كوس الموضحة آنفاً، والتي مفادها أن أي نظرية اجتماعية في جوهرها دائمًا ما تكون لشخص ما ولغرض ما، وبالتالي لا يمكن تجنبها كونها تعكس مشروعًا سياسياً. فنظريات كتوازن القوى، أو الاستقرار المهيمن، أو السلام الديمقراطي، أو حتى القطبية الأحادية لا يمكنها إلا أن تساعد في بناء العالم الذي يزعمونه. قد يكون هناك مجال للجدل حول توازن التأثيرات بين العوامل المادية والاجتماعية، لكن الأمر يتطلب التزامًا جدياً بالمادية البحتة للقول أنه لا يهم ما إذا كان الناس يقبلون هذه الأفكار على أنها صحيحة أم لا. إن قبول فكرة أن العالم الآن أحادي القطب، كما يفعل الكثيرون، لا يمنع فقط أطرافاً أخرى لفهم النظام الدولي، ولكنه يضع الولايات المتحدة تلقائيًا في الوضع الفريد والمميز. إن استحالة فصل النظرية الاجتماعية عن واقعها الذي تتناوله تعني أنه من المهم معرفة من ينتج نظرية العلاقات الدولية، بالتالي لا ينبغي أن ينظر إلى الهيمنة الساحقة للأصوات الانجلوامريكية في حقل النظري للعلاقات الدولية بدون شك، كما أشار إليه روبرت كوكس آنفا.
2.3 اكتسب المنظور الغربي في العلاقات الدولية مكانة المهيمن بالمعنى الغرامشي
لا يرتبط هذا فيما إذا كانت النظريات الغربية للعلاقات الدولية قد أوجدت جميع المسارات الصحيحة للوصول إلى التفسير الحقيقي. بدلا من ذلك فإن النظريات الغربية قد تم حملها كونها ارتبطت بهيمنة القوى الغربية على مدى القرون القليلة الماضية، فقد اكتسب مكانة غرامشي المهيمنة التي تعمل إلى حد كبير دون وعي في أذهان الآخرين، وبغض النظر عما إذا كانت النظرية صحيحة أم لا. بالتالي يجب أن يأخذ في الحسبان التأثير الفكري للإمبريالية الغربية ونجاح الأقوياء في وضع بصماتهم المفاهيمية الخاصة في الأذهان والممارسات خارج الدائرة الغربية. على سبيل المثال، في أعقاب مرحلة ما بعد الاستعمار التي أعيد تشكيلها بشكل سيئ جداً، على غرار الدول الأوربية وشكلها “المجتمع الفوضوي” من العلاقات الدولية، فقد كان ثمن الاستقلال هو قبول النخب المحلية لهذا الهيكل ودون السعي إلى تغييره جذرياً، ويمكن تقديم حجة جيدة بأنهم لم يفعلوا ذلك تحت أدوات الإكراه فحسب، بل استوعبوا وتبنوا مجموعة واسعة من الأفكار الغربية الرئيسية حول ممارسات المتعلقة بالاقتصاد السياسي، السيادة، الأقاليم والقومية. وعلى الرغم من الجدل الذي اثارته الأفكار الغربية كالديمقراطية وحقوق الانسان والأسواق الحرة، إلا انها أصبحت واسعة التأثير والانتشار خارج الدائرة الغربية؛ ففي الوقت الذي تراجعت مفاهيم السيادة وخاصة عقيدة عدم التدخل وتآكلها نوعا ما في الغرب، فقد احتضنت نخب العالم الثالث المفهوم الواستفالي للسيادة ورسخت وجوده بل ووسعت نطاقه.
إذا كانت النظريات الغربية مهيمنة كونها تنطلق من فرضيات موضوعية، عندها لن يكون هناك مجال كبير للمساهمات غير غربية. في حين إذا كانت مهيمنة لأنها مستندة على القوة الغربية، عندها سيكون هناك مجال ودافع في نفس الوقت لأجل تطوير مساهمات غير غربية. قد يكون من المفيد هنا بشكل خاص تحديد المدى الذي لم تطغى فيه الإمبريالية الغربية على التقاليد المحلية للفكر والمعرفة فحسب، نظرا لأنها عزلت الشعوب أيضا عن تاريخها نتيجة رسم فهمها الذاتي في إطار حدود التاريخي الغربي. لذا بداية سيكون من المهم أيضا الوعي بالهيمنة الغربية، والسعي بدلا من ذلك لتجنب الوقوع في شراكها، وتجنب أيضا الانخراط في النظرية على وجه التحديد لأنها تنطوي على خطر الوقوع في التأثر بها.
3.3 المساهمات المغيبة في نظرية العلاقات الدولية خارج الدائرة الغربية
ما من شك أن هناك نظريات غير غربية في العلاقات الدولية، لكنها مغيبة عن الخطاب الغربي نظراً للحواجز اللغوية ولكن أيضا نتيجة التواجد في مناطق الدراسة خارج مجال العلاقات الدولية الذي يحدده الغرب، مما يجعلها غير معممة في المناقشات العالمية. إذا كانت أسباب عدم الاهتمام هي ثقافية و/ أو لغوية إلى حد كبير، فقد يؤدي ذلك إلى إخفاء النظريات المحلية ليس فقط عن النقاشات النظرية في الغرب، ولكن أيضا عن النقاشات غير الغربية الأخرى. على سبيل المثال من غير الواضح على الإطلاق أن النقاشات النظرية التي أجريت باللغة اليابانية، ستجد صادها في الصين أو الهند. حتى في أوروبا، هناك نقاشات حول العلاقات الدولية بلغة محلية متميزة في ألمانيا وفرنسا وأماكن أخرى مرتبطة جزئيًا فقط وغالبًا بشكل ضعيف جدًا بالمناقشات في اللغة الإنجليزية (فريدريش، 2004). أولئك الذين شاركوا في مناظرات اللغة الإنجليزية لديهم ما يكفي للقراءة ذلك إلا أنهم غالبًا ما يفتقرون إلى المهارات اللغوية للتحقيق فيما يتجاوز أبعد من ذلك. رغم ذلك يتواجد أولئك الذين يتمتعون بالمهارات اللغوية بشكل أساسي في دراسات المناطق، وهو مجال يركز بشكل عام على تفرد المنطقة قيد الدراسة، وبالتالي فهو يحمل اهتمامًا منخفضًا بالنظرية العامة.
قد تكمن أسباب الغياب أيضا في الحواجز المقصودة أو غير المقصودة أمام الدخول في نقاشات إلى جانب الخطابات الغربية. هل هناك عقدة نقص في تقبل المساهمات غير الغربية الناشئة عن المركزية العرقية للمعرفة الغربية، وميلها إلى رؤية الآخرين من خلال عدستها الخاصة، مع افتراض مسبقً عن تفوق نموذجها الثقافي مقارنة بالآخرين (انظر Acharya 2000، وللحصول على تفاصيل أكثر حول موضوع الهيمنة الغربية في الحقل النظري للعلاقات الدولية. انظر كذلك إلى Wæver 1998 وTickner 2003 اللذين سعى إلى تركيز الاهتمامات حول جلب منظور أمريكا اللاتنية إلى نقاشات النظرية في العلاقات الدولية). من السهل أيضا على المهتمين بجوهر العلاقات الدولية الانجلو ساكسونية بأن يفترضوا أنه على اللغة الإنجليزية كلغة مشتركة يجب أن تجعل إمكانية الوصول مفتوحة للجميع.
هناك حقيقة في هذا الافتراض إلى حد ما، ولكن بالنسبة لأولئك الذين يتعين عليهم استخدام اللغة الإنجليزية كلغة ثانية أو ثالثة، فهناك نوع من العجز بسبب العمل الإضافي اللازم لوضع أفكار المرء في لغة أجنبية ولكن أيضا بسبب احتمالية الرفض العالية في المجلات المتخصصة في العلاقات الدولية والناشرة باللغة الإنجليزية. قد يكون مقدار الوقت والطاقة الذي قد يضطر هؤلاء الأشخاص استثماره لنشر شيء ما في أي مجلة للعلاقات الدولية السائدة عدة أضعاف على ما سيضطرون إلى إنفاقه لنشره بلغاتهم الخاصة. من السهل على الناطقين باللغة الإنجليزية أن ينسوا أن هناك مجتمعات كبيرة للعلاقات الدولية في اليابان وألمانيا وفرنسا وأماكن أخرى يمكن للأفراد من خلالها تحقيق حياة مهنية مرضية تمامًا.
إذا كان هناك بالفعل منظور نظري غير غربي للعلاقات الدولية ولكنه مهمش، فإن أحد أهداف هذه القضية الخاصة هو الكشف عن هذا الوجود، والمشكلة ليست إنشاء مثل هذه النظرية ولكن في تعميمها على نطاق أوسع. هل صحيح أن مساهمات العلماء غير الغربيين تظل مخفية عن الأنظار بسبب عدم قدرتهم على النشر في المجلات المشهورة في المجال، والتي يتم تحريرها كلها تقريبًا في الغرب؟ يتم ترجيح موضوعات المقالات المنشورة في هذه المجلات بشكل كبير لصالح القضايا والنظريات والأوضاع الغربية، التاريخية والمعاصرة على حد سواء. المساهمون غير الغربيين في هذه المجلات يميلون إلى أن يكونوا نادرين، وأولئك الذين يصنعونها عادة ما يكونون من الغرب. عندما يثور علماء العلاقات الخارجية الغربيون على الهيمنة الغربية، فإنهم عادة ما يستهدفون الهيمنة الأمريكية، وخاصة خيارها العقلاني الوضعي. تميل البدائل التي حددوها إلى أن تكون بريطانية وأوروبية (وإلى حد ما أسترالية)، وليست آسيوية ( انظر على سبيل المثال Crawfor وJarvis 2000، كذلك Smith 2000, ، Ikenberry و Mastanduno 2003). تعد مجلد Crawford و Jarvis مثالا آخر عن غياب مساهمات النظرية في العلاقات الدولية خارج أمريكا والمملكة المتحدة وأستراليا. أما مجلد Ikenberry و Mastanbuno فإنه يحتوي مساهم واحد من آسيا فقط.
4.3. الأوضاع المحلية الغير المساعدة في ابتكار نظرية للعلاقات الدولية
هناك العديد من العوامل المحلية – التاريخية والثقافية والسياسية والمؤسسية – التي يمكنها أن تفسر عدم ملائمة البيئة الأكاديمية خارج الدائرة الغربية لإنتاج النظرية في العلاقات الدولية. تاريخيا، ترى أغلب السرديات أن التراكمات الناتجة عن مخلفات الحرب العالمية الأولى والثانية شكلت نقطة تحول في عملية تأسيس علم العلاقات الدولية، فحجم الرعب والتكلفة والتدمير الغير المتوقع لحرب 1914- 1918، قد أيقضت الهواجس لاحتمالية تجدد حرب شاملة قد تنهي الحضارة الغربية. نتيجة ذلك تم النظر إلى العلاقات الدولية بشكل عام ونظرية العلاقات الدولية بشكل خاص في أنها ذلك العلم الهادف لإيجاد حلول للمشكلات. حيث ظهرت كل من النظرية الليبيرالية والواقعية بمنظوراتها المختلفة كاستجابة لمشكلة التي مفادها أن الخوف من الحرب أصبح مساوياً أو أكبر من الخوف من الهزيمة أو الرغبة في النصر. نتيجة هذا الخوف ظهرت الحاجة إلى فهم أفضل لثنائية الحرب والسلام وكان هذا سبباً وجيها لإضفاء الطابع المؤسسي على حقل العلاقات الدولية. قد يكون صحيحاً أن الصدامات التاريخية الفريدة من نوعها التي شهدها الغرب قد شكلت الحافز لتطوير النظرية في العلاقات الدولية برؤية غربية بحتة. ومع ذلك قد يجادل المرء أن الحرب العالمية الثانية لم تكن تجربة مختلفة تماماً في معظم انحاء آسيا. وإذا كانت الصدمات التاريخية قد شكلت حاجة لنشأة نظرية العلاقات الدولية، فقد تكون تجربة الهيمنة الغربية ومحاربة الاستعمار في حد ذاتها أكثر من كافية في هذا الصدد بالنسبة للجتمعات الغير الغربية. بالتالي على الرغم من أن التاريخ الغربي له صلات فريدة بظهور وتطور نظرية العلاقات الدولية، إلا أنه ليس من الواضح أن المجتمعات الغير الغربية تفتقر إلى الصدمات التاريخية المماثلة حتى تدفع في اتجاه نشأة علم العلاقات الدولية خاصة بها.
عند التعمق بشكل أكبر في هذا الموضوع، يمكن للمرء أن يتساءل عما إذا كانت هناك اختلافات ثقافية بين الغرب وغير الغرب، مما قد تجعل الأول أكثر ميلًا بشكل عام للتعامل مع القضايا بأدوات ومفاهيم مجردة، في حين يشير الأخير على عكس من ذلك تمام. في شكلها القوي، تتمحور الفكرة بشكل عام حول كون النظرية كطريقة غربية لفعل الأشياء، بينما يميل الآخرون أكثر إما إلى المناهج التجريبية أو التجريدات المتعلقة بشكل أساسي بالشؤون المحلية، ودون افتراض الشمولية النموذجية للنظرية الاجتماعية الغربية. ظاهريًا، يبدو من غير المرجح أن تنطبق هذه النسخة القوية على نظرية العلاقات الدولية فقط، لذلك يجب أن يكون أي عامل من هذا القبيل ظاهراً على الأقل عبر العلوم الاجتماعية. ومع ذلك، لا يمكن إنكار أن نظرية العلاقات الدولية قد ازدهرت وتطورات أكثر في البلدان الناطقة باللغة الإنجليزية (الولايات المتحدة وبريطانيا وكندا وأستراليا) أو في البلدان التي تستخدم اللغة الانجليزية كلغة عالمية (الدول الاسكندنافية وهولندا). هذه الحقيقة تترك مجالًا لفكرة أن العلاقات الدولية كما هي الآن قد تكون محددة ثقافيًا في بعض جوانبها. في نسختها الأضعف، سيكون تفسير الثقافة ببساطة أن النظرية وخاصة النظرية العالمية، هي نوع من الترف التي لا تستطيع المجتمعات التي لديها مشاكل في التنمية أن تنغمس فيها. بدلا من ذلك سيتمحور التركيز كله على حل المشكلات المحلية على المدى القصير (ربما عادة تحليل السياسة الخارجية لدولة المعنية، أو على المستوى الإقليمي الأكثر)، وليس على المزيد من الجهود الضخمة لفهم المستوى الدولي من التحليل. يمكن أن يكون هناك أيضا ارتباط بين الثقافة وتفسيرات الهيمنة. يمكن أن تكون إحدى نتائج الهيمنة الأجنبية على الثقافات المحلية نوعًا من الإحباط الراديكالي وفقدان الثقة مما يجعل من الصعب على وجه الخصوص الانخراط في المناقشات النظرية العامة. على العكس من ذلك، فإن الهيمنة ستشجع بالضبط مثل هذا التنظير من أولئك الذين هم في المركز المهيمن.
تختلف العوامل السياسية التي قد تحول دون تطوير نظرية في العلاقات الدولية عن المنطق الثقافي، ولكن من المحتمل أن تكون مرتبطة بها في الغرب، ازدهرت نظرية العلاقات الدولية بنجاح في بيئة ديمقراطية، على الرغم من أن وجود مناطق غير مهتمة بالتنظير في العلاقات الدولية إلى حد ما في بلدان كبيرة مثل إسبانيا قد يشير إلى أن الديمقراطية ضرورية أكثر من كونها شرطًا كافيًا. بخلاف المعنى الضيق للخط الايديولوجي، لا يتوقع المرء أن تزدهر نظرية العلاقات الدولية في الدول الشمولية نتيجة سعي منطق الحكم إلى ضبط وتحديد مصالحه السياسية في فهم السياسة الخارجية وهيكل العلاقات الدولية، وتمثل تجربة الاتحاد السوفياتي مثالاً على ذلك. هناك دليل من التاريخ الأوروبي على أن الدول الاستبدادية ليست بالضرورة معادية للمنظرين الاجتماعيين (مثل كانط)، بل وربما يعتمد ذلك على وجود مستبد مستنير. أنه تساؤل مثير للاهتمام حول ما إذا كانت الحكومات غير الديمقراطية حساسة بشكل كافٍ تجاه نظرية العلاقات الدولية وتمنع تطورها ضمن مجالها الموضوعي. من الجدير بالذكر أن التجربة الأكاديمية الغربية النموذجية هي أن الحكومات لا يمكنها أن تهتم كثيرًا بنظرية العلاقات الدولية، كما لا تولي اهتمامًا كبيرًا أو لا تهتم بها، وبالتأكيد لا تعتبرها تهديدًا لسلطتها. بل تشكل أحيانا أحد العناصر التي يمكن اللجوء اليها لتوجيه سياسيات محددة (مثل الردع والسلام الديمقراطي)، كما يتم أحياناً تضييق المبادئ العامة للواقعية من خلال نخب السياسة الخارجية. ربما تكون أقرب الروابط ممكنة في الولايات المتحدة، حيث ليس من غير المألوف بالنسبة للمنظرين الأكاديميين ( كهنري كيسنجر وزبيغنييف بريجنسكي وجوزيف ناي وستيفن كراسنر) أن يلعبوا أدوارًا مهمة في الحكومة. ومع ذلك، من شبه المؤكد أن هذا الارتباط ليس له علاقة بمكانتهم كمنظرين، بل يتعلق بشكل أكثر برغبتهم في متابعة النشاط السياسي داخل نظام الحزبي. كقاعدة عامة، قد يكون من الإنصاف القول أنه كلما كانت دراسة العلاقات الدولية وثيقة الصلة بالحكومة ومؤسسات السياسة الخارجية، كلما كان من المرجح أن تكون احتمالات التنظير أقل. إن مؤسسات الفكر والرأي في العلاقات الدولية والسياسة الخارجية تنفر عمومًا من النظرية، وتهتم وتشجع أكثر على العمل التجريبي المركّز والمرتبط بالقضايا اليومية. ربما كان الاستثناء الوحيد في ذلك النظرية الاستراتيجية، حيث كان هناك تفاعل قوي بين التفكير الحكومي والأكاديمي فيما يتعلق بالردع النووي (2006 Waever & Buzan)
الشرط المحلي النهائي الذي قد يشكل كابحاً ضد الاهتمام بالتنظير في العلاقات الدولية هو مؤسسي بالأساس. ونعني بهذا الأشياء التي يجب القيام بها فيما يتعلق بتوفير الموارد وأعباء العمل والهياكل المهنية والروح الفكرية للمهتمين بهذا الحقل، وخاصة الأكاديميين، الذين قد يُتوقع منهم القيام بالتنظير في العلاقات الدولية في الأوساط الأكاديمية الغربية، يتم تشجيع البحث من خلال الهيكل الوظيفي بحيث لا يمكن الحصول على ترقية أو تقدير دون القيام بذلك. يتمتع البحث النظري عمومًا بمكانة عالية، ومن السهل جدا الوصول إلى المراتب العليا في مجال الفردي من خلال إجراء البحث النظري بدلاً من البحث التجريبي. حيث يتم تمويل البحث إلى حد ما، كما يتم تضمين الوقت في الهيكل الوظيفي للبحث. تعد الموارد الأخرى مثل تكنولوجيا المعلومات والمكتبات كافية بشكل عام لدعم البحث. إذا لم تتوفر مثل هذه الظروف أو حتى بعضها، فلن يتوقع من الأكاديميين أن ينتجوا نظرية. إذا لم يكن البحث بشكل عام والنظري بشكل خاص موضع تقدير فلن يتم إنتاجه. إذا كان لدى الأكاديميين الكثير من الالتزامات التدريسية والادارية وقليل جدًا من الموارد، فلا يمكن إنتاج النظرية أيضا. قد يكون التفسير المؤسسي مرتبطًا بالشرح الثقافي بمعنى عدم وجود ثقافة بحثية، ولكن قد يكون يتعلق الأمر أكثر بالموارد الغير الكافية. قد تكون هناك أسباب محلية معينة للتعامل مع كيفية تقديم العلاقات الدولية في بلد ما، ومن الرواد المؤسسون، وماهي الروابط التي يمكن أن تعمل ضد تطوير نظرية العلاقات الدولية. في عالم العلاقات الدولية الانجلو أمريكية، ارتبطت العلاقات الدولية ارتباطاً وثيقا بالعلوم السياسية، وهو مجال يميل بشدة نحو التنظير. لكن العلاقات الدولية يمكن ربطها بتخصصات أقل ميلًا من الناحية النظرية كالتاريخ والقانون ودراسات المناطق. قد تؤدي الروابط من هذا النوع إلى بناء ميول نظرية أو حتى مناهضة للنظرية في مجتمع العلاقات الدولية محلياً، بينما تميل الروابط بعلم الاجتماع والعلوم السياسية إلى تشجيع نزعة التنظير بشكل أكثر.
5.3 لدى الغرب تقاليد كبيرة، لذا ما نشاهده الآن يمثل حالة من اللحاق بالركب
إذا كان هذا التفسير صحيحًا، فيمكن حصر المشكلة الرئيسية في مسألة الوقت والموارد. عندما تكون هناك موارد متاحة لدراسة العلاقات الدولية، يمكن أن نتوقع تطورات محلية مطردة في مجال التنظير للعلاقات الدولية. حينها يمكن رؤية الفجوة بين الغرب وغير الغرب تتلاشى شيئا فشيئاً، وقد لا يكون من غير المعقول تجسير هذه الفجوة بشكل أو بآخر بما يتماشى مع وتيرة اللحاق بالركب في العملية التحديث الواسعة. أحد الاعتراضات على هذا الخط من التفكير هو نفسه الذي يتعلق بنظرية أيوب (1995) فيما يتعلق باللحاق بالركب بالنسبة لدول العالم الثالث، من حيث ضرورة إعادة تكرار مسار الطويل للتنمية في عرفه الغرب. يتمثل الاختلاف في تطوير الدولة ونظرية العلاقات الدولية بالنسبة للدائرة الغير الغربية في أن تطورها يتم في ظل الهيمنة والاختراق الغربيين المستمر.
هذه التفسيرات بالطبع ليست متعارضة، إلا أنه من الصعب تخيل على سبيل المثال مزيج من الهيمنة الغربية وفي نفس الوقت وجود ظروف محلية غير مواتية، في مقابل ذلك السعي للحاق بالركب. يمكن أن تحبط توقعات وتيرة اللحاق بالركب بسبب الظروف المحلية غير المفيدة. لذا فأحد أهداف المقالات التالية هو الموازنة بين هذه التفسيرات في حالات محددة، وربما إضافة أخرى إليها.
مهما كانت أسباب هيمنتها، فإن نظريات العلاقات الدولية تعتبر متجذرة بعمق في الغرب، وتعبر بالفعل عن عمق الهيمنة الغربية، لهذا تمثل الأفكار الساعية لبناء نظرية للعلاقات الدولية خارج الدائرة الغربية وكأنها تناقضا. تتجلى الهيمنة الغربية في حقل العلاقات الدولية بشكل أساسي في أن أصل معظم نظريات السائدة في الفلسفة الغربية، والنظرية السياسية، التاريخ، وكذا الواقعية والليبيرالية، والماركسية، والمدرسة الإنجليزية، والبنائية، وما بعد الحداثة، والعولمة… إلخ، جميعها لها جذور فلسفية لدى المفكرين الغربيين بدءاً من هوبز وكانط وماركس إلى دريدا وهابرماس وميشال فوكو. وثانياً هو المركزية الأوربية ورؤيتها للعالم، والتي نسج حولها العديد من النظريات. بالمختصر إذا تم أخذ وجهة نظر الضيقة للعلاقات الدولية، فإن نظريات الناتجة عنها هي تقريبا كنتاج للإيديولوجية نظام الدولة الغربي الذي تم فرضه بدرجات متفاوتة من النجاح على بقية دول العالم. وفي حالة فشل هذا الافتراض أمكننا الحديث عن دول ” ضعيفة “، أو ” فاشلة” على هامش النظام/ المجتمع الدولي. وفي حالة نجاحها، فإن الأفكار المتعلقة بالسيادة، الإقليمية، القومية، مع ما يصاحبها من فهم لما يعرف بـ “الداخل” و “الخارج”، بالتالي تثير التنظيرات المحلية تساؤلات حول ما إذا كان ” غير الغربي” فكرة ذات مغزى حقاً. وإذا تم أخذ النظرة الأوسع لنفس السياق، فيظهر تاريخ مشابه يسيطر عليه الغرب، حيث تدور العولمة أساساً حول فرض نظام اقتصادي واجتماعي غربي على بقية الجنس البشري. هنا تصبح الدول تسير ضمن هيكل مركب من المركز والمحيط وكل منهما يتميز بأفكار وقواعد وممارسات تميزه عن الآخر، على الرغم من بقاء المركز مفتوح لمن أراد التكيف (التحديث والتغريب) لكي يلحق بالركب على غرار اليابان وكوريا الجنوبية.
ما هي أفضل السبل للتعامل مع عواقب وآثار هذه الهيمنة فيما يتعلق بالسعي للتنظير لعلاقات دولية خارج الدائرة الغربية؟ هذه العواقب معقدة بسبب حقيقة أن التيار السائدة في نظرية العلاقات الدولية الغربي إما يدعي أو يفترض أنه يهدف إلى إنتاج حقائق عالمية حول العلاقات الدولية. عدد قليل من نقاط التفكير غير الغربية (سان تزوSun Tzu، كوايليا Kautily) أو الاحداث ( فترة الحروب الدولتية لدى الصين) للمساعدة في التأكد من صحة الادعاءات العالمية ومبالغتها في الادعاءات الكونية للهيمنة الغربية، مما تقف أما توتر مستمر مع مواقف روبرت كوكس وما بعد الحداثة التي ترى أن هذه الادعاءات مشبوهة في افضل الأحوال ومستحيلة في أسوأها.
بالنظر إلى النقاشات الفلسفية العميقة والمضطربة، من الصعب جداً بناء وجهة نظرة يمكنها توفير اجابة نهائية ومرضية للجميع، نتيجة لصعوبة تجنب التفاعلات بين النظرية والمصالح السياسية، إلا أنه لا ينبغي استبعادها من السعي نحو تفاهمات عالمية. هناك شعور مهم بأن الأفكار داخل نظرية العلاقات الدولية الغربية تسعى بصدق إلى أن تكون عالمية النطاق. مع ذلك، يمكن اعتبارها ضيقة الأفق (أوربية المركز)، وتتظاهر بمصالحها الذاتية على انها عالمية وذلك لأجل تعزيز مطالبها الخاصة.
تشير المركزية الغربية إلى أنه من الممكن للمجتمعات غير الغربية أن تبني مفاهيمها الخاصة في العلاقات الدولية استنادا إلى تاريخها ونظرياتها الاجتماعية، وعرضها في شكل ادعاءات كونية على الأقل تقدير. يمكن تقديم حجة جيدة مفادها أن العلاقات الدولية تتشكل بالقوة وليس فقط من خلال السياقات التاريخية التي يتطور من خلالها أي نظام (هولدنHolden، 2002)، وكما لاحظ أولي ويفر Ole Wæver (1998) حتى داخل الغرب مختلفة تماما في بعض الأماكن. بالتالي لا يوجد سبب يمنع هذه القوى نفسها من العمل خارج الغرب وتشكيل نظريات غير غربية للعلاقات الدولية. مبدئياً، قد يعني ذلك أن نظريات الغير غربية للعلاقات الدولية يمكن أن تتخذ أشكالاً مختلفة. قد تظهر على أنها أسئلة ووجهات نظر مميزة ضمن الأطر العامة التي قدمتها نظريات العلاقات الدولية الغربية، ولكن مصادرها مستوحاة من النظريات الفلسفية والسياسية وكذا المصادر التاريخية الغير الغربية. أو يمكن أن تتجلى بشكل مختلف تماما، مما سيجد أولئك المنغلقين على أنماط التفكير الغربية صعوبة في التعرف عليها كونها علاقات دولية. كما لوحظ فقد نشأت النظريات الغربية للعلاقات الدولية كنتيجة لتأطير خاص تماماً للداخل/ وللخارج والهياكل والعلاقات التي تترتب عليها، والذي أنتج مفهوم السيادة، في حين قد يوحي التاريخ الآسيوي إلى أن السيادة بنظرتها الأقل صرامة للداخل/ الخارج، قد تكون مثيرة للاهتمام كالفوضى، مما قد تشكل نهج نظري جديد للعلاقات الدولية، مما قد تميل أيضا نحو تفضيل القطاع المجتمعي على عكس القطاعات العسكرية والسياسية والاقتصادية، مما سيفتح مرة أخرى وجهة نظر مختلفة تماماً للداخل والخارج.
- المصادر الآسيوية للتنظير في العلاقات الدولية وإشكالية تعريفها
ما الذي يمكن اعتباره تنظيراً للعلاقات الدولية في المنظور الآسيوي؟ قبل ذلك من هو الآسيوي أصلا الذي يمكنه المساهمة في مجال التنظير؟ وهل ضروري أن يكون هناك ” تحيز قومي” لتحديد ما الذي يشكل تنظيراً غير غربياً للعلاقات الدولية؟ تمت مناقشة هذه النقاط على نطاق واسع في مقال عن الهند. السؤال كان: هل يحق فقط للهندي المولود بالهند أن يقدم مساهمات في نظرية العلاقات الدولية، هذا السؤال فتح النقاش بين اثنين من الباحثين، كلاهما من الهند، إلا أنهما يتبنان وجهات نظر مختلفة؛ لكي يكون هناك منظر آسيوي في العلاقات الدولية، هل يجب على الباحث أن يكون آسيوياً أي أنه مولود ويعمل في آسيا، أو يمكن أن يكون آسيويا لكنه يحمل أحد الجنسيات الغربية وفي نفس الوقت يعمل في آسيا. أو يمكن أن يكون آسيويا ويحمل الجنسية أحد الدول الآسيوية لكنه يقيم في الغرب، أم أنه غربي ويعيش في الغرب ولكن لديه خبرة كبيرة في آسيا وبالتالي أمكنه التعميم على التجارب الآسيوية ؟ نعتقد أن تحديد النقطة المرجعية يعتبر غاية في الأهمية، لكن لا يجب على المرء أن يكون مقيداً للغاية هنا. فمثلما طور بول (استرالي) المدرسة الإنجليزية خارج التجربة الاوربية، ألا يستطيع الغربيون إذا تطوير أو المساهمة في التنظير الآسيوي للعلاقات الدولية خارج التجربة الآسيوية؟ لا شك أن التنظير الآسيوي للعلاقات الدولية سيكون غير غربي بشكل أكثر وضوحاً إذا ما تم القيام به من قبل الآسيويين أنفسهم. ولكن على المرء أيضا السماح لـ ” وسطاء آخرين ” الذين قد أدواراً مهمة (أو إذا لم يكن الأمر ذلك) في تحفيز النقاش داخل مجتمعاتهم المحلية.
تجدر الإشارة أنه يوجد بعض المساهمات الغير الغربية في آسيا والتي تتناسب بشكل عام مع فهمنا لنظرية العلاقات الدولية، على الرغم من معايير التصنيف النظري الصارم. بدلاً من ذلك، من المرجح أن تتناسب مع المفاهيم الأكثر مرونة، مع التركيز على الأفكار والمعتقدات من الفترات الكلاسيكية والمعاصرة. على نطاق واسع، يمكن تحديد أربعة أنواع رئيسية من الادبيات التي يمكن اعتبارها نظرية مرنة، وهي على النحو التالي:
أولاً، بالتوازي مع تركيز النظريات الغربية الدولية على الايقونات البارزة كثوسيديدس، هوبز، مكيافيلي، وكانط وغيرهم، هناك تقاليد وأفكار آسيوية كلاسيكية أيضا لشخصيات دينية، سياسية، وعسكرية، على سبيل المثال صن تزو، كونفوشيوس، وكوتيليا، وكلها يمكن استنباط بعض الأدبيات الثانوية كنوع من “النظرية السياسية” (شارما، 2001). كما يوجد محاولات لاستنباط نظريات سببية من هذه، ولكنها كانت نادرة (انظر على سبيل المثال Modelski، 1964 ؛ 2004 Hui) . يتمثل أحد الجوانب المهمة، على الرغم من عدم وجود قيود بالضرورة لهذا النوع من العمل في أنه لا يوجد دائمًا فواصل واضحة بين ما يمكن اعتباره محلياً وما هو ضمن العلاقات “الدولية”. والأهم من ذلك، أن استدعاء أفكار ومقاربات هؤلاء الكلاسيكيين نادرًا ما يخلو من الاعتبارات السياسية، ففي ذروة ” معجزة شرق آسيا ” مع أواخر الثمانينيات وبداية التسعينيات على سبيل المثال، تم الاستشهاد كثيرًا بالفكر الكونفوشيوسي والأفكار المتعلقة بالشيوعية كأساس للمنظور المعبر عن ” القيم الآسيوية ”، والذي روجت لها النخب في منطقة آسيا والصين تحديداً كبديل عن القيم الليبرالية الغربية. كما تم تقديمه في نفس الوقت كتصور بديل لنظام دولي في شرق آسيا من شأنه أن يتحدى طموح الهيمنة للشعار الليبرالي المتمثل في “السلام الديمقراطي”. في الهند، تم التذرع بالأفكار الفيدية (Vedic religion) حول الإستراتيجية والسياسة كمبرر لاكتساب الهند للسلاح النووي (كارناد، 2002). هذه الاعتبارات السياسية ليست استثنائية بأي حال من الأحوال، حيث أن تطور نظريات العلاقات الدولية كما لاحظ كثيرون، يعكس في الغالب منطق العلاقات الدولية الراهنة، والتي نوه إليها كثيرا كوكس في مقولته، “النظرية دائمًا ما كانت لشخص ما أو لغرض ما”. ولكن ما يثير التساؤلات في هذا الصدد حول التبريرات التي أخذت بشأن الفكر الكونفوشيوسي والفيدى في مقاربته للعلاقات الدولية هو أنه جاء في وقت تزايدت فيه قوة هاته الدول، في حين لم يكن هناك استدلال مماثل لنفس الأفكار الكلاسيكية لشرح الأزمة أو تراجع الدول في آسيا على الرغم من أن الفلسفة الكونفوشيوسية كانت مسؤولة إلى حد ما عن تخلف الصين وانحدارها في العصر الماوي.
الفئة الثانية من التصنيف التي يمكن أن تسمى، نظرية العلاقات الدولية الناعمة، والمرتبطة بمقاربات التفكير والسياسة الخارجية للقادة الآسيويين كأحد الايقونات النضالية ضد الاستعمار. في هذا الصدد تستحق أفكار غاندي اهتماماً خاصاً، حيث طرح مفهومه عن ساتياغراها satyagraha كأساس لمقاومته اللاعنفية ضد الاستعمار عبر دمج المفهوم الغربي لـ “المقاومة الغير فعالة” مع تنشئته بين مجتمع جاين Jain المسالم في الهند (المزيد حول هذا في الختام). أثر هذا على نظرة نهرو للنظام العالمي، وخاصة فيما يتعلق بشكوكه من مواثيق الدفاع الجماعي والجغرافيا السياسية ودعوته بدلاً من ذلك إلى عدم الانحياز. تعتبر وجهة نظر جواهر لانهرو مثيرة للاهتمام وذات صلة بشكل خاص بموضوعنا، كونه معترف به كمفكر في حد ذاته، كما أثرت مقارباته على العديد من زملائه القوميين في آسيا في داخل الهند وخارجها. علاوة على ذلك، على عكس القادة السياسيين الآخرين في ذلك الوقت، شارك نهرو في الكتابات الفكرية للواقعيين الغربيين، كتلك التي كتبها نيكولاس سبيكمان ووالتر ليبمان، بالتالي يمكن اعتباره مساهماً رئيسياً في أولى ” النقاشات النظرية الكبرى في العلاقات الدولية” وخاصة النقاش النظري الأول بين المثالية والواقعية، الذي يعرفه كل باحث في الدراسات العليا في العلاقات الدولية. في كتابه “اكتشاف الهند”، أخذ نظرة قاتمة لموقف “نيكولاس سبيكمان” في أن المعتقدات الأخلاقية و “قيم العدالة والإنصاف والتسامح” يمكن أن يتبناها رجال الدولة فقط. كما هاجم “نهرو” أيضا فيما وصفه “والتر ليبمان” بأن النظام العالمي لما بعد الحرب يجب أن يتم تنظيمه حول عدد من التحالفات تحت مدار قوة عظمى. كان نهرو ينظر إلى هذا على أنه ” استمرار للتقاليد القديمة ” لسياسات القوى الأوروبية، مما دفعه إلى نقد الواقعية لتمسكها بـ ” هياكل الماضي البالية ” ورفضها “فهم الحقائق الصعبة للحاضر ” (نهرو، 2003، ص 538). باختصار، بالنسبة إلى نهرو، تجاهلت ” الواقعية” بعض الحلول لمشاكل العالم الجديدة التي تجتاح العالم، بما في ذلك التدهور المادي والاقتصادي للقوى الاستعمارية الغربية بعد الحرب العالمية الثانية، فضلاً عن صعود القومية ومطالباتها بالحرية في المستعمرات السابقة. من خلال تجاهل هذه الاتجاهات، كانت “الواقعية” “أكثر خيالاً وانفصالاً عن مشاكل الراهنة والمستقبلية، وأكثر بكثير من ادعاءات المثالية للكثير من الناس” (نهرو، 2003، ص 539).
لكن ” نهرو” لم يكن الوحيد في اقتراح ما سماه غولدشتاين وكيوهان (1993) بـ “الأفكار المبدئية” في تنظيم النظام الدولي. حيث قدم “ماو” و” أونغ سان” من بورما و”خوسيه ريزال” من الفلبين و”سوكارنو” من إندونيسيا أفكارهم الخاصة حول تنظيم النظام الدولي. في حين أن قدرًا كبيرًا من افكارهم مستوحاة من تكوينهم في الغرب أو اعتمادهم على المصادر الغربية في بلدانهم، كما توصلوا أيضا إلى أفكار ومقاربات مستقلة عن التقاليد الفكرية الغربية والتي كانت استجابة للظروف المحلية والعالمية السائدة والمتغيرة. وأحد الأمثلة الملموسة في هذا الصدد هي فكرة عدم الانحياز، التي طورها “نهرو” وزملاؤه من القادة الآسيويين والأفارقة في خمسينيات القرن الماضي، ورغم كونها مقتبسة من مفاهيم الحياد التي تم صياغتها في الغرب، فإنها في نواحي كثيرة مفهومًا مستقلاً إلى حد ما. روج ” نهرو” أيضا لفكرة الإقليمية غير الاستبعادية non-exclusionary regionalism، على عكس الكتل العسكرية القائمة على النموذج الكلاسيكي لتوازن القوى الأوروبي. قدمت أفكار ” أونغ سان ” شيئًا يمكن اعتباره رؤية ليبرالية دولية للعلاقات الدولية، مؤكدة على الاعتماد المتبادل والتعددية بدلاً من الانعزالية التي تميز السياسة الخارجية لبورما في ظل الحكم العسكري (أونج سان، 1974؛ سيلفرشتاين، 1972). رفضت ” أونغ سان” أيضا التحالفات العسكرية في تسير فلك قوة عظمى لأن أي “اتحاد أو كومنولث أو كتلة” قد تُدعى بورما للمشاركة فيها يجب أن يكون “شأنًا طوعيًا” ولا “يتم تصوره في إطار الروح الضيقة لتوازن القوى الكلاسيكي” (أونج سان، 1946). في ستينيات القرن الماضي، طور “سوكارنو” بعض الأفكار حول النظام الدولي، مثل القوى الراسخة القديمة OLDEFOS و القوى الناشئة الجديدة NEFOS، التي استندت إلى خلفيته القومية بالإضافة إلى سعيه إلى القيادة الدولية (Legge، 1984). ومن الأمثلة الأخرى نظرية العوالم الثلاثة لماو، وأفكاره حول الحرب والاستراتيجية. هناك بعض أوجه التشابه فيما يخص تأثير رجال الدولة والجنرالات في التفكير الغربي حول العلاقات الدولية والسياسة الخارجية بالإضافة إلى الاستراتيجية، على سبيل المثال؛ كلاوزفيتز، بيسمارك، ميترنيخ، ويلسون، ولينين، في حالة يصعب فيها فصل المساهمات الفكرية عن تطبيقاتها العملية، مما يؤكد فرضية أن النظرية تخدم دائمًا أهداف السياسة المستجدة.
في الوقت الذي يقوم فيه الممارسين السياسيين في الغرب بكتابة وتوثيق خبراتهم المهنية، على العكس من ذلك فإن هذه المهمة بالنسبة للقادة الآسيويين ملقاة على كُتاب ومدوني السير الذاتية، بدلاً من الباحثين المتخصصين في نظرية العلاقات الدولية. لم يقم الكثير من العلماء الآسيويين أو غيرهم، بمواجهة التحدي المتمثل في تفسير وتطوير كتابات القادة الآسيويين من منظور نظرية العلاقات الدولية. ( Bajpai،2003). هذا ما يتناقض بوضوح مع الأهمية “النظرية” لأفكارهم، وخاصة أفكار القادة القوميين في آسيا.
حقيقة أن مثل هذه الكتابات والخطابات لم تجد طريقها إلى الأدبيات الأساسية في العلاقات الدولية. فـ ” نهرو” كان زعيمًا سياسيًا بشكل أساسي ثم مفكراً ثانياً (في الغالب عندما كان محتجزًا من قبل البريطانيين) إلا أن هذا لا يبرر الموقف، نظرًا لأن نظريات العلاقات الدولية تناولت أفكار ومناهج الشخصيات الذين كانوا سياسيين أو دبلوماسيين في المقام الأول، مثل “وودرو ويلسون “، ناهيك عن الاستراتيجيين الأوروبيين البارزين كـ “مترنيخ” و “كاسلريه”. في نفس الاتجاه هناك هنري كيسنجر، الذي كان أكاديمياً ثم أصبح ممارساً، على عكس من نهرو الذي كان سياسياً ثم أصبح ” منظراً”.
على الرغم من خلفياتهم وظروفهم المختلفة على نطاق واسع، فإن أفكار ومقاربات القوميين في آسيا تتقارب في بعض العناصر المشتركة المهمة. أولاً؛ لم يروا أي تعارض ضروري بين القومية والعالمية. على العكس من ذلك، كان بعض هؤلاء القوميين من بين أبرز منتقدي القومية باعتبارها الأساس الوحيد لتنظيم العلاقات الدولية. ويقع كل من الزعيم القومي الراديكالي الهندي “سوباش تشاندرا بوس”، والحائز على جائزة نوبل “رابندرانات طاغور” ضمن هذا الاتجاه (طاغور، 2002). إلا أنه في بعض الجوانب الدافع وراء ذلك هو الرغبة في حشد الدعم الدولي للتحرر الوطني. بالتالي كانت “القومية المنفتحة” لآسيا متميزة إلى حد ما عن القومية الإقصائية والإقليمية لأوروبا. فبالنسبة لـ ” أونغ سان ” الذي اعتبر بورميًا وطنيًا وقوميًا قويًا، إلا أنه لم يرى أي تناقض بين القومية، الإقليمية والعالمية. على العكس من ذلك يرى أن التعاون الإقليمي يمكن أن يكون بديلاً لضعف بورما في المجالي الدفاع والاقتصاد. تبنى بعض هؤلاء القوميين في وقت لاحق نهجًا سياسيًا واقعيًا للسياسة الخارجية والأمن، والذي يرجع جزئيًا إلى تأثير القوى العظمى الذي تجلى خاصة خلال فترة الحرب الباردة. وكان أهم جانب من هذه الأممية الناشئة في آسيا هو الدعوة إلى الوحدة الآسيوية والإقليمية. وكان نهرو من أكثر المدافعين عن هذه الوحدة في وقت مبكر بعد الحرب، والتي اعتبرها استعادة حتمية للروابط الثقافية والتجارية عبر آسيا التي عطلها الاستعمار بشدة. ولأجل ذلك نظم العديد من المؤتمرات الهادفة لتعزيز العلاقات الآسيوية بين عامي 1947 و 1949، ولكن أيضا لأجل انشاء ضغط دولي على الهولنديين لمنح الاستقلال لإندونيسيا آنذاك.
من الجدير بالذكر أن العديد من هذه الرموز نأى بنفسه بوعي عن اليوتوبيا أو “المثالية”. ففي نقده للقومية في اليابان، يخشى “طاغور” من تلقيبه ” “غير الواقعي” الذي يمكن أن يلقي ضده والذي قد “يلتصق بذيل معطفي، ولن يغسل أبدًا” (طاغور، 2002، ص 50). صرح أونغ سان: “أنا أممي، لكني أممي لا يسمح لنفسه بأن ينجرف عن الأرض الصلبة” (أونغ سان، 1974). وبالمثل، في انتقاد رؤية ” ليبمان ” لمدارات القوى العظمى التي توازن بعضها البعض ومعاهدات الدفاع الإقليمية مثل منظمة معاهدة جنوب شرق آسيا (سياتو) والمنظمة المركزية للمعاهدة (سينتو)، دافع ” نهرو” عن نفسه ضد تهمة كونه ” صاحب عيون مرصعة بالنجوم ” في إشارة إلى مثاليته، الذي وجهت ضده من قبل أعضاء مثل هذه المواثيق الممثلة في مؤتمر باندونغ للدول الآسيوية والأفريقية في عام 1955. سخر نهرو من “التقدير الواقعي المزعوم للوضع العالمي”، الذي عبرت عنه تركيا العضو في الاتفاقية دفاعًا عن الاتفاقيات الإقليمية على أساس أنهم يمثلون استجابة أكثر واقعية للتهديد الذي تشكله الشيوعية من فكرة “نهرو” عن التعاون و “المشاركة” مع الصين والاتحاد السوفيتي. بعيدًا عن كونه من دعاة السلام، زعم أنه ” يتخذ وجهة نظر واقعية ” للتناقضات والمخاطر التي تنطوي عليها عضوية الدول المستقلة حديثًا في مثل هذه الاتفاقيات، والتي تمثل بالنسبة له شكلاً جديدًا من أشكال الهيمنة الغربية في وقت كان فيه الاستعمار ينحصر ويتلاشى، والذي يمكن أن يؤدي إلى توترات وصراعات شبيهة بأوروبا في آسيا وأفريقيا (نهرو، 1955). وبالتالي، يمكن أن يكون مؤتمر باندونغ هو رد آسيا على الجدل المثالي – الواقعي (أول ما يسمى “مناظرات بين النماذج” التي يتعين على باحثي الدراسات العليا في الجامعات الغربية الاطلاع عليه).
خارج النقاشات السياسية الكلاسيكية والحديثة حول العلاقات بين الدول أو العلاقات الدولية، هناك نوع ثالث من التركيز والمتعلق بالغير الغربيين الذين تناولوا بالدراسة نظرية العلاقات الدولية الغربية، حيث درس العديد من علماء العلاقات الدولية الآسيويين قضية النظرية عبر تطبيق النظرية الغربية ضمن السياقات والاشتباكات المحلية وتقييم مدى ملاءمتها. وتشمل الأمثلة هنا في “أ. ب رانا” و “كانتي باجباي” في الهند، و”تشونغ أن مون” في كوريا، و “موثياه ألاغابا” من ماليزيا (يعمل في الولايات المتحدة)، و “تاكاشي انوغوتشي” في اليابان، و “يونغ جين تشانغ” من الصين (يعمل في نيوزيلندا). قد يكون اعتبار جهودهم في تطوير نظرية غير الغربية إشكالية لسببين، تم تحديدهما ومناقشتهما على نطاق واسع في ورشة عمل سنغافورة؛ الأول يتعلق بحقيقة أن معظم هؤلاء العلماء تلقوا تكوينهم في الغرب، وأمضوا جزءًا كبيرًا من خبراتهم العملية في المؤسسات والمعاهد الغربية. ومن ثم، هل يمكن اعتبارهم علماء “غير غربيين” حقًا كون أن عملهم مساهمات “أصلية” حقًا في حقل علاقات الدولية؟ كما لوحظ سابقًا، تسبب هذا في قدر كبير من الجدل في ورشة عمل سنغافورة، حيث أعربت إحدى المجموعات عن رأي مفاده أنه لا ينبغي اعتبارهم كذلك، بينما جادلت مجموعة أخرى بأن لا يهم بيئة التكوين بقدر أهمية وجوهر مساهماتهم في الحكم على ما إذا كان يمكن اعتبار عملهم على أنه نظرية في العلاقات الدولية غير غربية. نحن نميل إلى تأييد الموقف الأخير. لكن بعد ذلك، هذا يثير قضية ثانية. ماذا لو كانت جهود هؤلاء العلماء تحاكي وتختبر ببساطة المفاهيم والنماذج الغربية في آسيا لتقييم مدى ملاءمتها؟ فهل يمكن الادعاء بأنها مساهمات حقيقية ضمن حقل العلاقات الدولية خارج الدائرة الغربية مقارنة بالعمل، وهو أمر نادراً نوعا ما، كونه يجعل التعميمات المستقلة من التجربة الآسيوية التي قد يكون لها قابلية تطبيق عبر إقليمية أو عالمية ؟
على سبيل المثال، يرى “موثياه ألاغابا” أن ” آسيا تمثل بيئة خصبة لمناقشة واختبار وتطوير العديد من المفاهيم [الغربية] والنظريات المتنافسة، وكذا لمواجهة التحيزات العرقية (Alagappa، 1998). لكن هل ستزول مشكلة الهيمنة الغربية في حال استخدام البيانات التجريبية الآسيوية بشكل أساسي “لاختبار” النظريات التي انتجها العلماء الغربيون؟ أم بالعكس سيعزز أكثر من الهيمنة النظرية الغربية ويحصر المنطقة الآسيوية في جعلها كمورد “البيانات الأولية” للنظريات الغربية (Shea، 1997، A12-A13) لا أكثر؟ كما هو الحال بالنسبة لما يعتبر ضمن حقل العلاقات الدولية، وما هو غير غربي ضمن نفس الحقل، نظرا لتعميم النموذج السياسي الغربي، لذا قد يكون من المستحيل التوصل إلى نتيجة نهائية بشأن من (أو ماذا) ينبغي اعتباره غير غربي. أن اتخاذ وجهة نظر صارمة التي مفادها أن الاختراق الغربي لبقية العالم أصبح أكثر وضوحا وعمقاً، إلا أنه أصبح هناك سوى خطاب بديل واحد من شأنه أن يزيح الهيمنة والاختراق الغربيين. يجب أن نفترض بالضرورة أن المصطلحين “غير غربي” و “آسيوي” لهما دلالات مهمة. على الرغم من أننا لا نعتقد أنه من الحكمة في هذه المرحلة الانخراط في محاولة لتحديد الحدود بوضوح. تمشيا مع حججنا السابقة، فإننا نفضل تفسيرًا واسعًا من أجل الحصول على أكبر قدر ممكن مما يمكن اعتباره مصادر للتفكير النظري “الآسيوي” حول العلاقات الدولية. كمحررين، نتردد في اتخاذ موقف نهائي بشأن هذا النقاش خشية أن نتهم بالحراسة(Gatekeeping) . قد نميل نوعًا ما نحو النوع الثاني من المساهمة، لكننا نترك الحكم النهائي للباحثين في هذا المجال، بمن فيهم أولئك الذين ساهموا في هذه المسألة. نعتقد أيضا أنه عند تقييم أهمية عمل العلماء الآسيويين، يمكن للمرء أن يبحث عن مساهمات يمكن اعتبارها “نظريات مسبقة” بالمعنى الذي حدده جيمس روزيناو، أي العمل المعمم الذي يقدم دليلًا أوليًا على أنماط واسعة ومستمرة لسلوك الفاعلين الذين قد يكونوا أو لا يمتلكوا السمات السببية والتنبؤية الكاملة لنظرية العلاقات الدولية على النمط الأمريكي. تعد الآراء المتنوعة التي تم التعبير عنها حول هذا الموضوع في ورشة عمل سنغافورة أمرًا صحيًا بحد ذاته وسيساعد على تطوير نوع من التفكير النقدي الذي سيفتح الباب للمزيد من الحاجة إلى نظريات في الدراسات الخاصة بالعلاقات الدولية ” الأسيوية “.
يمكن العثور على طريقة بديلة لـ “اختبار النظرية” في نوع رابع من العمل حول نظرية العلاقات الدولية الخاصة بآسيا. يفحص هذا نوع من العمل الأحداث والتجارب الآسيوية كما يطور المفاهيم يمكن استخدامها كأدوات لتحليل الأنماط الأكثر عمومية في العلاقات الدولية، وكذا لتحديد موقع آسيا ضمن النظام الدولي الواسع ومقارنة ذلك بأجزاء أخرى من العالم. بعض من أفضل الأمثلة على ذلك تشمل “المجتمعات المتخيلة” لأندرسون و “أشكال اليومية للمقاومة ” لسكوت (ميتلمان، 2000 ؛ أندرسون، 1983 ؛ سكوت، 1985)، والتي ألهمت الباحثين في السياسة المقارنة وكذلك العلاقات الدولية (Adler، 1997). يعد عالم الأنثروبولوجيا “إدموند ليتش”، النظم السياسية لأعالي بورما، مثالاً عن توظيف التخصصات العابرة للتأكيد على المفاهيم السائلة للهويات العرقية في جنوب شرق آسيا وخارجها. (ليتش، 1954). ما يميز هذا النوع من الجهود هو أن مؤلفيها لا ينظرون لآسيا في كونها مجرد اسقاطات لنظريات العلوم الاجتماعية الغربية. بدلاً من ذلك، فهم يقومون بتحديد العمليات بخلفيات آسيوية (ومحلية أخرى) يمكن استخدامها لشرح الأحداث والظواهر في العالم الخارجي. تشمل الاعمال الأخرى ضمن هذه الفئة كل من ولترز “ماندالا ستيت” (1982)، جيرتس “نيجارا” (1980)، “النظام العالمي الصيني” لفيربانك (1968)، “النظم الكونفوشيوسية الدولية لهنتنغتون” (1996)، وفكرة كانغ عن ” التسلسل الهرمي “(2003)، والذي قد تساعد أو لا تساعد علماء العلاقات الدولية الدارسين لمناطق أخرى من العالم، ولكنه يلتقط أنماطًا وخبرات آسيوية مميزة ويعمل كأساس لمقارنة العلاقات الدولية الآسيوية بالأنماط الأكثر عمومية. هناك مجموعة أخرى من الأعمال الناشئة التي يمكن الاستدلال بها هنا والتي تعتمد على التعميمات حول الترابط الآسيوي من جهة وبناء المؤسسات والممارسات الإقليمية الآسيوية من جهة أخرى مثل “نهج الآسيان”. وعلى الرغم من أن هذه التركيبات تعتبر استثنائية إلا أنها في الواقع ليست كذلك. على سبيل المثال، تعتبر عملية صناعة القرار كنتيجة لتوافق الآراء بين مجموعة من السياسات العالمية التي تتم في إطار مؤسسات متعددة الأطراف. إلا أن هناك نوع من التميز للسياقات المحلية التي أصبحت أكثر قبولاً واعترافاً، مما يعطي لها ميزة واستثناء ضمن أدبيات العلاقات الدولية المتعلقة بالتعددية والإقليمية (Johnston,2003).
يبقى حجم الأدبيات العلاقات الدولية غير الغربية التي تركز على التطبيقات العملية المميزة مصدرًا غنيًا ومحتملًا في نفس الوقت، على الرغم من محدودية ذلك. وباستثناءات قليلة، لم يحاول الآسيويون العمل ضمن هذا الاتجاه. وبدلا من ذلك، ركزت اغلب أعمالهم على اختبار النظريات الغربية على البيئة الآسيوية سواء الوطنية أو الإقليمية. ويستدل على هذا الاتجاه في عدد الأطروحات لدى الخريجين الآسيويين لدى الجامعات الأمريكية. بالتالي، فإن التحدي الأساسي الذي يواجه نظرية العلاقات الدولية في آسيا هو العمل على تحويل ” المعرفة المحلية” إلى أطر عملية محددة في تحليل التفاعلات العالمية”. وبالفعل فإن هذا النوع من الجهد المتمثل في تحويل الأنماط المحلية إلى مفاهيم ضمن نظريات العلاقات الدولية هو أمر شائع في الغرب. على سبيل المثال، كانت التحالفات الأوربية بمثابة الأساس الذي بنيت عليه الأدبيات المتعلقة بـ “الأنظمة الأمنية” فيما بعد. كما شكلت تجربة الاتحاد الأوربي نقطة الانطلاق في التنظير للمؤسساتية الليبيرالية الجديدة، ونفس الأمر بالنسبة لنظام توزان القوة الأوربي الكلاسيكي يقدم هو الآخر قدرا كبيراً من التنظيرات حول تحولات مفهوم القوة (والتي يتم استلهامها حالياً في تحليل صعود الصين)، وديناميكيات التحالفات و”خلفيات الحرب”. من هنا يثار السؤال: ” إذا كان من الممكن تحويل السياسات الإقليمية لأوربا وحلف الشمال الأطلسي إلى نظريات في العلاقات الدولية، فلما لا يتم الأمر نفسه بالنسبة إلى السياسات الإقليمية لآسيا (أشاريا، 2001).
ومع ذلك، فإن مثل هذه الجهود إذا ما تمت من قبل الغير الغربيين، من شأنها أن تفتح التساؤل حول موضوع آخر للنقاش الساخن الذي جرى في ورشة عمل سنغافورة: وهو هل تم إلحاق مثل هذه الورشات بالنقاشات الغربية المتعلقة بالعلاقات الدولية، أو أن هذا التساؤل قد تم تجاوزه بشكل ما. علماً أن بعض مساهمات يمكن اعتبارها متغيرات غير غربية مميزة في الأصل مقارنة بالأفكار الغربية، وأحد هذه النظريات التي يمكن الاستدلال بها في هذا الصدد هي نظرية التبعية (فرانك، 1966؛ سميث، 1979). التي كانت من المفترض أن تكون مستمدة من تجربة دول العالم الثالث. إلا أنه تم اعتبارها إطاراً مفرط في العمومية، مما عزز بطريقة ما إهمال النظريات الغربية لها عبر حرمانها من أي استقلالية. على الرغم من أن سمير أمين أو فرناندو كاردوسو من أتباع نظريات الغربية أساسًا، لكنهم لم يتوقفوا عند الاختبار النظري (كما يحدث في كوريا أو تايوان أو اليابان)، بل قدموا بعضاً من أفكارهم الخاصة أيضًا، وتحديداً فيما يتعلق بمطالبات القوية ضمن اطروحة السكان الأصليين في نظريات ما بعد الاستعمار. يوجد متغير آخر، لعب الباحثون الهنديين دوراً بارزاً في تطويره وتمييزه عن العلاقات الدولية، وهو دراسات التابعين (Subalter Studies) Bhara 1994، والتي ظهرت كرد فعل على الهيمنة الغربية من خلال أدواتها الاستشراقية، عبر ما اصطلح عليه بدراسات ما بعد الاستعمار الهادفة إلى إظهار النتائج السلبية للاستعمار على الشعوب المستعمرة. في نفس السياق انتقدت غاياتري سبيفاك (Gayatri Spivak) نظرة ميشال فوكو ” لأوروبا ككيان منعزل وذاتي التطور، دون النظر إلى الدور المركزي للإمبريالية في تشكيل أوربا” (أحمد، 1977، ص 374). وتبنى إدوارد سعيد نفس الطرح، عبر انتقاد فوكو ليس فقط لإهماله الامبريالية الأوربية، ولكن مقاومة الامبريالية خارج القارة الاوروبية. لذا تسعى نظريات ما بعد الاستعمار في أغلب جوانبها إلى تفكيك هذه النسبية والتمييز الثنائي المتواجد في نظريات ما بعد الحداثة، كالتمييز بين العالم المتقدم والمتخلف أو بين المركز والمحيط، مما ” كشف عن واقع لمجتمعات عالمية تتميز بعدم التجانس المعقد” (A.Dirilik, 1994, P. 329). بالتالي هذه المساهمات مفيدة في نظريات العلاقات الدولية من وجهة نظر غير غربية. على الرغم من ذلك لا يمكن اعتبار ما بعد الاستعمار كجهود حقيقية في مواجهة المركزية الغربية، كونها كما أشار عارف ديريليك، مؤطرة أصلاً ضمن الخطابات الثقافية الصاعدة في الغرب. كان هدفها ” تحقيق عولمة حقيقية للخطابات الثقافية عبر الامتداد العالمي للاهتمامات والتوجهات الفكرية الناشئة في المواقع المركزية للنقد الثقافي الأوروبي الأمريكي …” (Dirlik، 1994، ص 329). بعبارة أخرى، لا تسعى نظريات ما بعد الاستعمار إلى إعادة إنتاج معارف جديدة حول ما سمى حتى وقت قريب بالعالم الثالث، بدلا من ذلك، تسعى إلى إعادة تشكيل هيئات معرفية ضمن نماذج ما بعد البنيوية وذلك لأجل احتلال مواقع الإنتاج الثقافي خارج المناطق الأوروبية والأمريكية عبر استخدام أدوات العولمة والاهتمامات والتوجهات الناشئة في المواقع المركزية للإنتاج الثقافي الأوروبي الأمريكي (Ahmed, 1997, P. 368). إلا أنه تجدر الإشارة إلى أن نظريات ما بعد الاستعمار لم تجذب التزاماُ واسعاً لا من قبل الباحثين خارج جنوب آسيا ولا من الصين.
- هيكل الاصدار الخاص
المقالات التالية تغطي الصين واليابان والهند وجنوب شرق آسيا. لكل منها تجربة مختلفة تمامًا قد تُروى، ولكل منها سرديتها الخاصة تمس أحد الموضوعات التالية:
- لمسح التفكير حول نظرية العلاقات الدولية في البلد / المنطقة المعنية مع الأخذ في الاعتبار كيفية تبلورها وتطورها؛ مدى جودة التنظيم واتساع نطاقه؛ كيف ترتبط بالأنماط العامة للتفكير في العلوم الاجتماعية؛ وما هو التركيز الرئيسي لمناقشاتها.
- لتقييم تأثير نظريات العلاقات الدولية الغربية كنهج لفهم الـ العلاقات الدولية للبلد / المنطقة المعنية: ما هي الطرق التي توضحها وتعطي نظرة ثاقبة، وما هي الطرق التي تشوهها وتحجبها؟
- لمسح وتقييم كيفية تأثر التفكير حول العلاقات الدولية في البلد / المنطقة المعنية (وإذا كان ذلك مناسبًا، فقد تأثر) بالمناقشات الغربية حول نظرية العلاقات الدولية.
- إذا كان هناك فريق غير غربي ولكنه مهتم بالتنظير في العلاقات الدولية من وجهة نظر غير غربية في البلد / المنطقة المعنية، فهل تم تهميشه من المناقشات الغربية، و / أو عزل نفسه عنها، و / أو تم عزله عنها ببساطة نتيجة عوامل أخرى كحواجز اللغة مثلا.
- للاطلاع والتدقيق في الموارد التاريخية والسياسية والفلسفية للبلد / المنطقة المعنية (على سبيل المثال، الخبرات التاريخية المهمة؛ القادة السياسيون الرئيسيون؛ التقاليد الأيديولوجية المهمة؛ المفكرون الفلسفيون الرئيسيون)، مع تقييم احتمالية فاعليتها في المناقشات حول نظرية العلاقات الدولية، وتقييم كيف يمكن أن تشكل أساسًا للتنظير في العلاقات الدولية خارج الدائرة الغربية. ما مدى ملائمة أو عدم ملائمة مفاهيم العلاقات الخارجية الغربية الرئيسية كالسيادة والدولة والشرعية وتوازن القوى والقانون الدولي والعدالة والحرب والدبلوماسية والقومية والملكية الخاصة والقوة العظمى مع التقاليد والممارسات المحلية؟ هل هناك تقاليد ومعتقدات وممارسات سياسية أو إستراتيجية أصلية قد لا يكون لها مثيل في النظريات الغربية، التي من شأنها أن تؤثر على المعتقدات والممارسات السياسية المحلية ذات الصلة بالعلاقات الدولية ؟