التقليديون الجدد في العالم العربي
كرم الحفيان
باحث في الحركات الإسلامية
مقدمة
في السنوات القليلة الماضية، كثر الحديث عن “الما بعديات” في عالمنا العربي: ما بعد الإسلامية، ما بعد السلفية، ما بعد الجهادية العالمية. كما سُلط الضوء على التيار المشيخي المسمى ب “التقليديين الجدد”، وهو التيار المتحالف مع النظام السياسي العربي والرافض لأي شكل من أشكال المعارضة، وأبرز رموزه الشيخ محمد سعيد رمضان البوطي السوري والشيوخ أحمد الطيب وعلي جمعة المصريان وعبد الله بن بيه الموريتاني وغيرهم([1]). بيد أنه قلما يُتطرق إلى وجه آخر من التقليديين الجدد، رغم أنه تيار صاعد بشكل ملحوظ ميدانياً في عدد من الدول العربية ذات الثقل الحضاري. هذا التيار بدأ في التشكل مع تفكك بعض الأنظمة السياسية العربية وما أعقب ذلك من تسييس وعسكرة قطاعات وشرائح اجتماعية جديدة وواسعة. حدث هذا في أعقاب الغزو الأمريكي للعراق ثم بعد انفجار الربيع العربي. وهذا التيار انخرط في الحراك الشعبي المناهض للاحتلال والمؤيد للثورات، وتمثل في مجالس محلية وهيئات علمية وقضائية نشطة سياسياً. هدف هذه الورقة هو رصد تجارب وآثار هذا التيار تحديداً في العراق وسورية، ومحاولة استشفاف مستقبله.
بدايةً، إن عدنا بالزمن عقوداً إلى الخلف، إلى سبعينيات وثمانينيات القرن الماضي، ووسعنا النظر إلى ما وراء العالم العربي شرقاً، وتحديداً إلى الجنوب الآسيوي، فسنلحظ التمظهر الأول القوي لهذا النوع من التيارات الإسلامية التقليدية المعاصرة، أو من أسماهم أوليفر روى عالم الأنثروبولوجيا الفرنسي بالأصوليين الجدد في باكستان وأفغانستان، وضرب مثلاً بالجماعات الديوبندية المنبثقة من المدرسة العلمية الديوبندية الحنفية. هذه المدرسة تمثل الاتجاه الديني العلمي الأكبر في آسيا([2]).
وقد قارن روي بين هذا الاتجاه التقليدي وبين الحركات الإسلامية المعروفة لاسيما جماعات “الإسلام السياسي” ورصد عدة فروق. الفرق الأول هو أن التقليديين يمثلون امتداداً لمؤسسات سابقة أهمها تلك المرتبطة بالعلماء وشبكات التعليم الديني، وقد تلقوا تعليماً دينياً تقليدياً ومارسوا قطيعة مع الحداثة. أما أعضاء الحركات الإسلامية كالإخوان المسلمين في العالم العربي والجماعة الإسلامية في باكستان فقد تلقوا تعليماً غربياً لا تعليماً دينياً، وسعوا للحداثة مع محاولة تجنب الجوانب المظلمة فيها، وهم مهندسون وأطباء ومحامون وأساتذة جامعات.
الفرق الثاني هو أن التيار الأصولي التقليدي المذكور لم يحمل أيديولوجيا ممنهجة أو أجندة سياسية عالمية، إنما انحصر تركيزه على تشجيع تطبيق الشريعة الإسلامية على مستويات الشعائر والزي والسلوك الفردي، بخلاف الإسلاميين([3]). ولكن الحرب ضد السوفييت في أفغانستان في ثمانينيات القرن الماضي، وسياسة الأسلمة التي اتّبعها الرئيس الباكستاني ضياء الحق في باكستان منذ 1977، ساهما بقوة في تسييس هذا التيار التقليدي الأصولي وتنشيط شبكاته الدينية التعليمية سياسياً وعسكرياً، مما أدى لولادة ظاهرة الجماعات التقليدية السياسية المسلحة في باكستان وأفغانستان، وكان من آخرها حركة طالبان أفغانستان([4]).
وإذا ما انتقلنا إلى العالم العربي، فبإمكاننا أن نقول إن التمثل الاجتماعي السياسي الأول للتقليديين الجدد عربياً في حقبة ما بعد الاستعمار، كان في العراق عقب تفكك وانهيار نظام صدام حسين. وهذا الظهور كان لافتاً وأخذ صدىً كبيراً في الإعلامين العربي والعالمي وقتها، وذلك في سياق تغطية معركتي الفلوجة ضد الاحتلال الأمريكي وحلفائه في العراق في عام 2004. فمع بدء أعمال المقاومة، أسس أحد الوجوه الدينية التقليدية البارزة في مدينة الفلوجة الشيخ الصوفي عبد الله الجنابي مجلس شورى المجاهدين في الفلوجة، بهدف تنظيم صفوف المجاهدين وتنقيتها ممن اندس فيها من قطاع الطرق وعصابات السلب والنهب ومرتزقة الاحتلال.
وكما هو معلوم، فإن القوات الأمريكية ومن لحق بها فشلت في السيطرة على مدينة الفلوجة صغيرة المساحة (ذات الثماني كيلومترات) في حملتها الأولى في أبريل 2004، ثم حكم مجلس شورى المجاهدين في الفلوجة المكون من “رجال دين” سنّة بقيادة الجنابي، المدينة لسبعة أشهر في ما يشبه الحكم الذاتي، وأصبحت مركزاً هاماً للمقاومة المسلحة في العراق آنذاك([5]). وقد برز الشيخ الجنابي شخصيةً مهمةً ضمن المقاومة المناهضة للاحتلال وكذلك للحكومات العراقية التي نشأت في ظله، حتى أن أبا مصعب الزرقاوي قائد تنظيم القاعدة في العراق، ورغم الخلاف المنهجي الكبير بينهما، امتدحه قائلاً: “فماذا نريد من الرجل إذا كان رافعاً لراية الجهاد داعياً لقتال أعداء المسلمين، فهو عندنا – والله – خير من المثبطين القاعدين عن الجهاد“([6]). وكان للجنابي دورٌ أساسيٌ أيضاً في إدارة العملية التفاوضية مع الأمريكان ممثلاً عن مجلس شورى المجاهدين في الفلوجة، بيد أنه لم يحصل اتفاق، ثم استخدمت أمريكا الأسلحة المحظورة دولياً، مما أدى لسيطرتها على المدينة وخروج المقاومة العراقية منها في نوفمبر 2004([7]). وقد حمّل البعض الشيخ الجنابي مسؤولية تدمير المدينة لإصراره على المقاومة داخلها. وبعد الخروج من المدينة، اندمجت بعض فصائل المقاومة العراقية واختارت الجنابي أميراً لها ليواصل عمله المناوئ للاحتلال لعدة سنوات([8]).
ثم بعد ذلك لجأ إلى مدينة حلب السورية ومكث فيها. وبعد قيام الربيع العربي وتمدد الحراك والاعتصامات السلمية إلى المناطق السنية في العراق وفي مقدمتها مدينة الفلوجة، عاد الجنابي لمدينته داعماً لها. استمرت الفعاليات السلمية لعام تقريباً، ولكن مع استخدام جيش الحكومة للعنف وقتله لثمانية من أبناء المدينة، بدأ العمل المسلح ضد قوات الحكومة وشارك الجنابي فيه على رأس مجموعة تابعة له بجوار فصائل مسلحة أخرى، ليتم طرد الجيش الحكومي وتتحول الفلوجة مجدداً لمنطقة خارجة عن سيطرة الحكومة([9]). مرة أخرى لمع اسم الجنابي قائداً محلياً وشخصية محورية مفوضة من جميع القوى بما في ذلك تنظيم الدولة الذي تودد له في بداية الأمر. ولكن لاحقاً، بعد المشاورات التي أسفرت عن اختياره لإدارة المدينة انقلب عليه تنظيم الدولة وجرده كما جرد جميع الفصائل من قواها، ولم يعد له أي دور في قيادة الشأن العام منذ 2014([10]).
إذن، وعلى مدار عشر سنوات، 2004 – 2014، قام “التقليديون الجدد” في مدينة الفلوجة بزعامة الشيخ عبد الله الجنابي بأدوار قيادية متعددة سواءً في المقاومة العسكرية للاحتلال ثم حكومة ما بعد الاحتلال، أو في إدارة المدينة وتسيير أمورها، إلا أن دورهم تراجع كثيراً بعد ظهور تنظيم الدولة وسيطرته على الحالة السنية في العراق. ومن تجربة مجلس شورى المجاهدين في مدينة الفلوجة والشيخ عبد الله الجنابي، ننتقل إلى تجربة أخرى للتقليديين الجدد، وهي في العراق أيضاً، ولكنها أوسع نطاقاً ونفوذاً، إذ امتد تأثيرها إلى عموم الجغرافية السنّية العراقية، وهي هيئة علماء المسلمين في العراق. أنشئت الهيئة في أعقاب الغزو الأمريكي للعراق، أياماً قليلة بعد سقوط النظام العراقي، في 14 أبريل 2003 على وجه التحديد، والهيئة هي “كيان يضم مجموعة من العلماء المتخصصين بالشريعة يحملون مجموعة من المفاهيم والمقاييس والقناعات الإسلامية، يعاونهم في ذلك المسلمون من أهل الاختصاص في العلوم الأخرى، ويؤازرهم عامة المسلمين في النشاط العلمي”([11]).
هذا الكيان أدى دوراً سياسياً كبيراً منذ انطلاقته، إذ رفض الاحتلال ودعا لمقاومته بشتى السبل، منها حمل السلاح، ثم رفض أي عملية سياسية قبل رحيل الاحتلال. أضف إلى ذلك أنه أصبح مرجعية دينية موحدة مقبولة عند الكثير من فصائل المقاومة العراقية، وكذلك عند الاتجاهات الدينية السنّية المختلفة في العراق([12])، واُعترف بها رسمياً من دول وأطراف عربية، مما دفع البعض للتساؤل عن دلالة هذا الاهتمام، وهل هو إقرار بتمثيل الهيئة لأهل السنة في العراق؟([13]). ويأتي في طليعة مؤسسي الهيئة مجموعة من الشخصيات الدينية العلمية البارزة، أهمها: “الشيخ الدكتور حارث الضاري والشيخ أحمد حسن الطه والدكتور محمد عبيد الكبيسي والشيخ الدكتور بشار الفيضي والشيخ الدكتور عبد السلام الكبيسي، والشيخ الدكتور إسماعيل البدري والشيخ عدنان العاني والشيخ الدكتور فهمي القزاز وغيرهم”، وللهيئة ستة وعشرون مكتباً في العراق، وتشرف على ما يربو على أربعين مدرسة دينية إما كلياً أو جزئياً([14]).
وفيما يخص تفاصيل المشروع والأداء السياسي للهيئة، فأهم ما فيه هو الرفض القاطع لأي عملية سياسية في ظل الاحتلال، والهجوم المستمر على جميع الجهات المنخرطة فيها، ومنها القوى السنية، وفي مقدمتها الحزب الإسلامي العراقي([15])(فرع الإخوان المسلمين)([16]). كما حرصت الهيئة منذ البداية على استنكار مبدأ المحاصصة الطائفية في الحكم، وأخذت موقفاً حاسماً مطرداً من اقتراحات تبني النظام الفدرالي في العراق واعتبرته تقسيماً للبلاد، وترويجاً للخطابات والمشاريع الطائفية([17]). ودعت جميع القوى العراقية للاجتماع على تحرير واستقلال ووحدة العراق والحفاظ على ثرواته([18]). في نفس السياق، دُعي الشيخ حارث الضاري الأمين العام للهيئة إلى تركيز الجهود وإعطاء الأولوية لضرب المحتل والمشروع الأمريكي أكثر من المشاريع الأخرى المعادية للعراق، فهذه المشاريع نبتت في ظلاله وبزواله سيسهل زوالها، كالمشروع الصهيوني والمشروع الإيراني وحتى المشروع الانفصالي الكردي وغيرها([19])، وعند الحديث عن القاعدة، عدها من ضمن الشرور التي تسبب المحتل في وجودها([20]).
انطلاقاً من هذه الرؤية، اعتبر الضاري مجالس الصحوات العشائرية التي أنشأها الاحتلال الأمريكي تحت شعار محاربة تنظيم القاعدة، وانخرطت فيها قوى عشائرية وحزبية سنّية بارزة في مقدمتها الحزب الإسلامي، المشروع الأخطر والأشد وطأةً على المقاومة([21])، بل صرح أن ضرر هذا المشروع على المقاومة العراقية كان أكثر من ضرره على القاعدة نفسها. ومن ناحية أخرى، حمّل الضاري القاعدة المسؤولية الأكبر في نشأة الصحوات وذلك لأن الفصائل المحسوبة على القاعدة كانت الأكثر انضماماً للصحوات([22]).
بيد أن الضاري لفت الأنظار لوجود تمثل آخر للصحوات غير تلك التي أسستها أمريكا وهلل لها الإعلام، فقال شارحاً حقيقة الصحوات بأنها “تنقسم إلى قسمين: منها صحوات ضد ما أصاب هذه المناطق من عسْفٍ وجوْرٍ من الحكومة وغيرها، هؤلاء انتفضوا للدفاع عن أنفسهم من غير أن يستعينوا بالاحتلال، فهؤلاء معذورون؛ لأنهم في موقف الدافع للصائل، ودفع الصائل في الشرع جائز مهما كان هذا الصائل مسلماً أو غير مسلم. أما النوع الثاني وهي الصحوة التي يطبل لها الاحتلال وعملاؤه، فهذه غفوات وليست صحوات، وبخاصة ممن رضيت لنفسها أن تعمل مع الاحتلال. وبعد رحيل المحتل الأمريكي في 2011، ناهضت الهيئة حكومة ما بعد الاحتلال ووصفتها بالاستبدادية الطائفية، وباركت الحراك الشعبي الذي انطلق ضدها مع الربيع العربي، أو ما عرف بانتفاضة المدن الست، سواءً بصورتها السلمية التي استمرت لسنة وتعرضت للقمع الوحشي والمجازر الدموية، أو بصيغة الثورة المسلحة الواسعة كما حدث بعد ذلك. هذا، مع التأكيد على أنها ثورة ضد السلطة الطائفية الموجودة، وليست ضد الطائفة الشيعية، وأنها لا تهدف للتقسيم وإنشاء إقليم سني([23]).
إذن، فالتجربة الأكبر للتقليديين الجدد في العراق تمثلت في هيئة علماء المسلمين في العراق، والتي نجحت في أن تصبح المرجعية الدينية الأبرز للمجتمع السنّي العراقي استناداً إلى أمرين، الأول: مكانة مؤسسيها العلمية، والأمر الثاني الهام للغاية هو مواقفها السياسية الداعمة لمقاومة المحتل والثورة على مخلفاته. وطريقة عملها كانت مركزية من أعلى لأسفل، بمعنى أنه بعد أن أُسست هيئة علماء المسلمين في بغداد من مجموعة كبيرة من العلماء والشيوخ الكبار في وقت مبكرٍ جداً من الاحتلال الأمريكي وانهيار الدولة العراقية، بدأت الهيئة في التوسع وفتح الأفرع التابعة لها في ربوع العراق، إلا أن ذلك كان في ظل انتشار قوات الاحتلال وبقاء مؤسسات الحكومة التابعة له.
أما في الحالة السورية، فقد كان سياق تأسيس وطريقة عمل التقليديين الجدد مختلفاً كثيراً: من أسفل لأعلى. وذلك لأن الثورة استطاعت أن تحرر غالب الجغرافية السورية من نفوذ الدولة ومؤسساتها العسكرية والأمنية المختلفة، مما أدى إلى انسحاب المؤسسات الحكومية المدنية أيضاً، وبالتالي حدوث حالة من الفراغ الإداري في غالب المناطق المحررة في سورية. هنا، قام التيار المشيخي المنحاز للثورة (من أسميهم بالتقليديين الجدد) بدور هامٍ جداً في ملء هذا الفراغ، خاصة في المجال القضائي وهو ما سنركز عليه بشكل أكبر في الصفحات القادمة، كونه مجال التأثير الاجتماعي الأكبر للتيار المشيخي الثوري في سورية، بجانب الجوانب التعليمية. ومع عدم وجود قيادة مركزية للتقليديين الجدد، فإن طريقة عملهم كانت من أسفل لأعلى، بدايةً من المحاكم والروابط العلمية المحلية في كل قرية ووصولاً إلى الكيانات الجامعة لكل مدينة أو محافظة.
لا يعني هذا أن الدور المشيخي تأخر في الثورة السورية أو أنه بدأ بعد عسكرة الثورة وتحرير المناطق من سيطرة النظام السوري وأجهزته، بل على العكس، فانطلاقة الثورة السورية كانت من قلب المسجد العمري في درعا، بقيادة خطيبه الشيخ الضرير الشيخ أحمد الصياصنة([24])، ومنذ الأسابيع الأولى للثورة، وقبل أن تتحرر أي منطقة، في الوقت الذي كانت مدينة حمص تتصدر الحراك آنذاك وتعرف بعاصمة الثورة([25])، أخرج ثلة معروفة من كبار العلماء والدعاة والخطباء من أبناء المدينة (بلغ عددهم 24) في مقدمتهم الشيخان العالمان إسماعيل المجذوب وعدنان السقا، بياناً علنياً موجهاً لرئاسة الجمهورية في 16 أبريل 2011، أي بعد شهر تقريباً من انطلاق الحراك الشعبي.
في هذا البيان الهام، طالب العلماء والدعاة بمجموعة من الإصلاحات الجذرية في بنية الدولة السورية وأدائها، أهمها رفع حالة الطوارئ وكف يد الأجهزة الأمنية ومحاسبة القتلة منهم، ورفع سقف حريات المواطنين خاصة فيما يتعلق بالشعائر الدينية، وأخطر هذه المطالب هو المناداة بتعديل المادة الثامنة من الدستور، تلك التي تعطي امتياز إدارة الدولة، بل والمجتمع، حصراً لحزب البعث العربي الاشتراكي([26]). هذه المطالب تبدو إصلاحية لا ثورية، ولكن من يعلم طبيعة النظام السوري الشمولية يدرك جيداً الأثر الكبير لهذه النوعية من البيانات عليه في تلك الحقبة المبكرة والحساسة الحرجة في تاريخ الثورة، خاصةً أنها خرجت من أحد أهم الشرائح التي تمثل المجتمعات المحلية وهم شيوخ وعلماء الدين([27]).
ومن حمص عاصمة الثورة والمحافظة الأكبر في سورية، إلى دمشق عاصمة سورية والمدينة الأكبر فيها، تطور موقف مجموعة من كبار العلماء التقليديين بشكل متدرج باتجاه دعم الثورة ومفاصلة النظام، بيد أنه من وجهة نظر الباحث، عادةً ما تركز وسائل الإعلام ومراكز الدراسات على موقف العلماء والمؤسسات الموالية للنظام، كالدكتور محمد سعيد رمضان البوطي، إضافةً إلى البيروقراطية الدينية الممثلة بوزارة الأوقاف ودار الإفتاء وغيرها. يأتي في مقدمة العلماء الذين انحازوا للثورة في دمشق أسماء لامعة، في طليعتهم: شيخ قراء الشام الشيخ كريم راجح (الذي حرص على التشنيع على العلماء الموالين للنظام السوري وعلى رأسهم الدكتور البوطي)([28])، والأخوان العالمان أسامة وسارية الرفاعي أصحاب مؤسسة زيد بن ثابت الشهيرة بدمشق وذات الطابع “شبه المعارض” والعلاقة المتوترة مع النظام من قبل الثورة([29])، إضافةً إلى الدكتور الداعية محمد راتب النابلسي وغيرهم([30]).
وخلال العام الأول من الثورة السورية تطورت مواقف وبيانات شيوخ دمشق المذكورين آنفاً من دعوة جنود جيش النظام السوري للتمرد على أوامر قادتهم وعدم إطلاق النار على المدنيين، ثم تحميل الأجهزة الأمنية مسؤولية سفك الدماء، وفي البيان الأخير الأشد قالوا: “فاليوم جيش وغداً لا جيش… واليوم حكم وغداً لا حكم… غير أن سوريا هي المنتصرة”، ثم سُربت لهم رسالة من الأجهزة الأمنية مفادها أن “الجماعات المسلحة” قد تقتلهم، وأنهم ينصحونهم بالخروج من البلاد، وهو ما حدث بالفعل مع مرور عام تقريباً على بدء الثورة([31]).
هذا فيما يخص طبيعة أداء مجموعة من رؤوس التيار المشيخي المؤيدين للثورة في كبرى المدن قبل خروجهم، (لاحقاً سيشكل هؤلاء العلماء المجلس الإسلامي السوري في إسطنبول في عام 2014، الذي سيصبح المظلة العلمية والمرجعية الدينية الأكبر للكيانات والمجتمعات المناوئة أو غير الموالية للنظام في الداخل والخارج). وبالتزامن مع خروج كبار العلماء من المدن، كانت حركة تحرير الأرياف وبعض مراكز المدن قد بدأت عبر العمل الثوري المسلح من الجيش الحر آواخر 2011. هنا ظهرت الحاجة للفتاوى الدينية الخاصة بالوضع الجديد وما يتضمنه من أساليب التعامل مع الأسرى والمخبرين التابعين للنظام السوري، ومع الأموال والأملاك التي تقع تحت سيطرة الثوار. وعليه بدأ المدنيون الثوار والعسكريون الذين انشقوا عن الجيش ولحقوا بركب الثورة في استفتاء أئمة المساجد والمشايخ المحليين.
ومع مرور الوقت وانتزاع مناطق كثيرة من النظام في 2012، لم تعد الجهود الفردية لعلماء الدين كافية لمعالجة جميع القضايا المستجدة، فبدأت عملية تأسيس اللجان المشيخية والهيئات الشرعية المحلية المؤقتة التي تحولت لاحقاً لكيانات شبه دائمة مع تصاعد الأحداث. وقد عملت هذه الهيئات الدينية بشكل مستقل أحياناً، وبالارتباط مع الفصائل الثورية المسلحة في أحيانٍ أخرى([32]). ثم مع عام 2013، وما شهده من سيطرة الثوار على مناطق شاسعة من الأراضي السورية من أقصي الجنوب إلى أقصى الشمال، بدأت مرحلة محاولة تأسيس سلطات قضائية موحدة عبر تشكيل محاكم شرعية نافذة الحكم على مستوى كل محافظة، والانتقال من مرحلة اللجان المشيخية الصغيرة الموجودة في كل قرية أو منطقة محدودة. وذلك من خلال تضافر جهود علماء وطلبة العلم الديني مع الفصائل العسكرية الأساسية في تلك المناطق. ففي الجنوب ظهرت دار العدل في محافظة حوران، وأُسس القضاء الموحد في الغوطة الشرقية لدمشق، أما في الشمال فنشأت الهيئة الإسلامية لإدارة المناطق المحررة بإدلب، ومجلس القضاء الأعلى بحلب.
تجربة دار العدل حظيت باعتراف جميع الفصائل العسكرية في حوران باستثناء فصيل شهداء اليرموك (الذي بايع داعش لاحقاً)، وجبهة النصرة، فرغم موافقة الأخيرة في المرحلة الأولى، إلا أنه بعد شروع المحكمة في تطبيق القانون العربي الموحد، سحبت النصرة اعترافها. ومسألة تطبيق القانون العربي الموحد كانت في سياق الجهود المبذولة آنذاك لتوحيد المرجعية والعمل القضائي على امتداد المناطق المحررة في سورية([33]). وذلك عبر الأخذ بنموذج جاهز مقنن للشريعة الإسلامية، صاغته لجنة من العلماء والحقوقيين في التسعينيات منهم الفقيه الديني والقانوني المعروف الشيخ مصطفى الزرقا، بطلب من جامعة الدول العربية، ولكنه لم يطبق في أي بلد عربي. وفي الغوطة الشرقية لدمشق، انطلق مشروع القضاء الموحد في 2013 بعد إلغاء جميع المحاكم الفرعية الأخرى، وأخذ المشروع تفويضاً من الفصائل العسكرية الكبرى هناك. بداية، كانت المرجعية القانونية للقضاء الموحد القانون السوري مع حذف كل ما يتعارض مع الشريعة الإسلامية. ثم، في ما بعد، اُعتمد القانون العربي الموحد.
أما في التجربة الثالثة الخاصة بمحافظة إدلب، فقد كانت بداية العمل القضائي الجماعي إما محاكم مناطقية مستقلة كثيرة جداً على نحو “محكمة لكل تجمع قروي”، وإما محاكم تابعة للفصائل العسكرية. ثم سعى العلماء والمشايخ لتوحيد المحاكم المناطقية، لاسيما بعد سيطرة قوى الثورة على أكثر من ثلثي الرقعة السورية، وأُسس المجلس الشرعي في محافظة إدلب. في المرحلة التالية أدمج المجلس الشرعي مع المحاكم الفصائلية لتتوحد جميع المحاكم باسم الهيئة الإسلامية لإدارة المناطق المحررة في محافظة إدلب، إلا أن جبهة النصرة انسحبت لاحقاً أيضاً وأسست محاكمها الخاصة. واعتمد أيضاً القانون العربي الموحد كمرجعية قضائية.
وفيما يخص مدينة حلب، فما أن حُررت الأحياء الشرقية للمدينة آواخر 2012، حتى أنشئت جهتان قضائيتان، الأولى سميت مجلس القضاء الموحد وضمت علماء دين ومحامين وقضاة منشقين واتخذت القانون العربي الموحد كمرجعية في وقت مبكر جداً من الثورة السورية. أما الجهة الأخرى فكانت الهيئة الشرعية التابعة للفصائل العسكرية الأربعة الكبيرة الموجودة في المدينة وقتها (لواء التوحيد وأحرار الشام وصقور الشام وجبهة النصرة)، وقد اعتمدت الشريعة الإسلامية كمرجعية لها، ولكن دون أي تأطير أو تقنين معين. تدريجياً، حُل المجلس وبقيت الهيئة. ثم في 2015 أسس تشكيل قضائي جديد ممتد في حلب وريفها باسم مجلس القضاء الأعلى في حلب وحاز على تأييد جل فصائل الجيش الحر القوى الأكبر في حلب، واعتمد القانون العربي الموحد.
وفي 2017، كُللت جهود توحيد المحاكم والمنظومة القضائية في المناطق المحررة في سورية مع اعتماد القانون العربي الموحد كمرجعية قضائية، فأُسس المجلس الأعلى للقضاء في سورية من كبرى المحاكم المنتشرة شمالاً وجنوباً (التي ذكرناها في الفقرات السابقة)، بمباركة المجلس الإسلامي السوري (المرجعية الشرعية والتكتل العلمي الأبرز المؤيد للثورة). بيد أنه مع المتغيرات العسكرية والسياسية الكبيرة نتيجة كثافة التدخل الروسي، وما أعقبه من سقوط مدينة حلب ومحافظة حوران ومنطقة الغوطة والشرقية وغيرها، وانحسار سيطرة الثورة في شمالي غرب سورية مع النصف الثاني من 2018. إضافةً إلى انقسام هذه السيطرة بين جهتين أو حكومتين، الأولى: حكومة الإنقاذ في محافظة إدلب برعاية هيئة تحرير الشام (النصرة سابقاً)، وقد استحدثت وزارة عدل جديدة وألغت المحاكم السابقة وأوقفت العمل بالقانون العربي الموحد. والثانية هي الحكومة المؤقتة التابعة للائتلاف السوري المعارض، ومناطق سيطرتها تقع في شمالي سورية انطلاقاً من البقاع المحاذية للأراضي التركية شمالي حلب والرقة والحسكة؛ المعروفة إعلامياً بمناطق “درع الفرات” و”غصن الزيتون” و”نبع السلام”، وقد تشكلت أيضاً وزارة عدل واعتمدت الدستور السوري في عام 1950 مع العمل على إزالة ما يخالف الشريعة الإسلامية فيه.
إذن، فمنذ انطلاقة الثورة السورية، كان للتيار المشيخي المعارض للنظام في مراكز المدن دوراً هاماً في التعبئة الجماهيرية للثورة، وقد انخرط في هذا الأمر بعض رؤوس التيار اللامعة في درعا وحمص وغيرها ولاحقاً في دمشق، ثم مع تطور الأحداث وازدياد التهديدات المباشرة، خرج هؤلاء العلماء وبدؤوا في تأسيس روابط علمية بهدف توحيد المرجعية الدينية للثوار ولعموم السوريين غير المواليين للنظام. وقد أسفرت جهودهم في النهاية عن تأسيس المجلس الإسلامي السوري. وبالتزامن مع خروج علماء المدن، واتساع رقعة المناطق المحررة من النظام، ظهرت الحاجة الشعبية الماسة للتيار المشيخي في الأرياف السورية المحررة من أجل تأسيس سلطات قضائية لضبط شؤون الحياة العامة، وقد شكل الشيوخ المحليون هيئات ومحاكم شرعية محلية كثيرة ثم مجالس قضائية مناطقية موحدة وتفاوت أداؤها بين منطقة وأخرى، إلا أن دور الفصائل العسكرية ما زال هو الأكبر.
خاتمة
في الختام، فإن هذه الورقة حاولت أن تسلط الضوء على ظاهرة دينية جديدة في العالم العربي، وهي مهملة إعلامياً وأكاديمياً من وجهة نظر الباحث. هذه الظاهرة بدأت في الظهور منذ عقدين إلا قليلاً، تحديداً مع بدء الغزو الأمريكي للعراق وتفكك الدولة العراقية في عام 2003، وما زالت تنمو وتتوسع مع مرور الوقت لاسيماً بعد تفجر الربيع العربي. وقد تمثلت في نشأة تيار مشيخي جديد نشط ميدانياً ومدنياً وسياسياً ضد قوى الاحتلال الخارجي وأنظمة الطغيان الداخلي، أو ما يمكن أن نسميه تيار التقليديين الجدد. وهو وإن لم يتبلور بعد في شكل حركات اجتماعية كبرى ذات هيكل منظم وأذرع عسكرية قوية ورؤية ومشروع سياسي محدد، غير أن أثره الاجتماعي-السياسي كان كبيراً وإن لم ينظم بعد كالأحزاب السياسية الإسلامية والحركات الجهادية المسلحة. وقد تطرقت الورقة لتجربتين في العراق: مجلس شورى المجاهدين في الفلوجة، وهيئة علماء المسلمين في العراق المرجعية الدينية الأبرز للمجتمع السني في العراق، أما في سورية فعرجت على دور مجموعة من كبار العلماء التقليديين في الثورة (الذين شكلوا فيما بعد المجلس الإسلامي السوري التكتل الديني الكبير والمرجعية الدينية الأكبر للكيانات الثورية السورية وللسوريين غير المواليين للنظام)، إضافة إلى تجربة المحاكم الشرعية في المناطق الثورية المحررة.
المراجع والهوامش:
([1]) Andrew F. march, “the caliphate of man: the popular sovereignty in modern Islamic thought”, (USA: Harvard University press, 2019), 202-206.
([2]) للمزيد: د. نبيل فولي محمد- كرم الحفيان- محمد أحمد رضا، المدرسة الديوبندية في شبه القارة الهندية: التراث حصناً، (إسطنبول: مركز المجدد للبحوث والدراسات، 2021).
([3]) Barbara D. Metcalf. “Traditionalist” Islamic activism: Deoband, Tablighis, and Talibs. (Netherlands: Leiden Isim: 2002), 2-3.
([4]) Oliver Roy, Islamic radicalization in Afghanistan and Pakistan, (Paris: UNHCR emergency and security service, 2002), 9-10.
([5]) الفيلم الوثائقي جمهورية الفلوجة، إخراج وائل عصام، قناة العربية، تم رفعه على اليوتيوب في 15 سبتمبر 2012.
([6]) حوار مع الشيخ أبو مصعب الزرقاوي، سؤال: أيهما أفضل مسلم تلبس ببدعة، أم مسلم صافي العقيدة لكنه لا يجاهد؟، منبر التوحيد والجهاد 1427هـ.
([7]) برنامج لقاء اليوم، عبد الله الجنابي.. مجلس شورى المجاهدين بالعراق، قناة الجزيرة، 7 مايو 2007.
([9]) انظر: وائل عصام، “داعش سيطرت على الفلوجة بعد أن احتجزت ضباطاً من المجلس العسكري”، القدس العربي، 28 يونيو 2014.
([11]) الجزيرة نت، هيئة علماء المسلمين في العراق، 26 يونيو 2014.
([13]) انظر: حوار أجراه الصحفي محمد النجار في عمان عاصمة الأردن، مع المثنى حارث الضاري رئيس اللجنة الإعلامية والثقافية في هيئة علماء المسلمين في العراق، الضاري: لا بديل عن هيئة علماء المسلمين في العراق، قناة الجزيرة، 14 أبريل 2007.
([14]) الجزيرة نت، هيئة علماء المسلمين في العراق، مصدر سابق.
([15]) انظر: القدس العربي، الشيخ حارث الضاري: خطط فتنة جديدة للمحتل بمشاركة قوى سنية، 15 أغسطس 2007.
([16]) للمزيد: الجزيرة نت، الحزب الإسلامي في العراق، 9 فبراير 2014.
([17]) انظر: هيئة علماء المسلمين في العراق، مصدر سابق.
([18]) انظر: مجلة البيان، حوار مع فضيلة الشيخ حارث الضاري.
([19]) انظر: مقابلة الصحفي محمد أعماري مع الشيخ حارث الضاري أمين عام الهيئة، مقابلة مع الشيخ حارث الضاري، الجزيرة نت، 17 أكتوبر 2008.
([20]) انظر: مقطع مرئي على قناة الجزيرة، سماحة الشيخ حارث الضاري يتحدث عن القاعدة والاحتلال.
([21]) انظر: تقرير عن ندوة أجراها الضاري في عمان في عام 2010، الضاري: الصحوات أضرت بالمقاومة ، الجزيرة نت، 23 مارس 2010. للمزيد: ياسر الزعاترة، حرب القاعدة على الحزب الإسلامي وتجربة الصحوات، الجزيرة نت، 25 سبتمبر 2008.
([22]) انظر: الضاري: الصحوات أضرت بالمقاومة ، الجزيرة نت، 23 مارس 2010.
([23]) القدس العربي، الشيخ حارث الضاري: الإقليم السني لم يحمي السنة، 5 يوليو 2014.
([24]) انظر: مفجر الثورة السورية: سأخطب الجمعة قريباً في المسجد الأموي، الشرق الأوسط، 15 مارس 2012.
([25]) انظر: محمود الزيبق، تقرير مرئي غني بالمعلومات يوضح مدى أهمية حمص للثوار وللنظام على حد سواء، حمص عاصمة الثورة السورية، قناة الجزيرة.
([26]) بيان جمعية علماء مدينة حمص، رابطة أدباء الشام، 16 أبريل 2011.
([27]) الشرعيون في الثورة السورية: الفكرة والدور، (غازي عنتاب: وحدة الدراسات بمركز جسور، 2017)، 3.
([28]) انظر: شيخ قراء الديار الشامية ينتقد “عقوق” الجيش السوري وقائده الاسد، الشرق الأوسط، 4 سبتمبر 2011.
([29]) انظر: المؤسسات الدينية الإسلامية في سورية والعلاقة بالسلطة، تلفزيون سورية، الدقيقة 18، 25 أكتوبر 2020.
([30]) انظر: حسام جزماتي، ثورة مشايخ دمشق، تلفزيون سورية، 26 أكتوبر 2020.
([32]) انظر: حسن الدغيم، تجربة المحاكم الشرعية في الثورة السورية، موقع البيان، 3 مارس 2020.
evasamm df76b833ed https://www.kaggle.com/tetureto/phototomesh-7-0-4-0-win-new
felgot df76b833ed https://www.kaggle.com/inuslica/piano-apk-mod-full-unlocked-deiremm
wannmar 89fccdb993 https://www.guilded.gg/proxapbulens-Sharks/overview/news/16Ybg01y
fabaraul f23d57f842 https://www.guilded.gg/ratenquiris-Wolves/overview/news/2lMoaAPy
gitebene f23d57f842 https://www.guilded.gg/vamnoewitxus-Bombers/overview/news/X6QP0kWl
kalsal 9ff3f182a5 https://www.kaggle.com/code/forthneclopos/upd-wolfenstein-ii-the-new-colossus-upd