تحديات المراكز الفكرية في العالم العربي وسبل تفعيلها
د. عبد الحق دحمان
الوحدة السياسية
مركز المجدد للبحوث والدراسات
تعاني الأمة الإسلامية من العديد من المشاكل السياسية والاجتماعية وحتى الثقافية منها، الأمر الذي انعكس سلباً على واقع شعوب المنطقة الإسلامية العربية خاصة في مجموع المجالات الحيوية التي تمس بحياة الفرد المسلم اليومية، من هذا المنطلق أصبحت فكرة إنشاء مراكز بحثية في الدول العربية و الإسلامية أداةً حديثة يسعى من خلالها الأفراد المؤسسون أو صانعو القرار على مستوى الدولة إلى التعامل مع مجموع المشاكل التي تعترض الأمة الإسلامية وكذا بلورة وصياغة الحلول والبدائل الممكنة لمعالجة هذه الأزمات والمشاكل خصوصاً وأن امتلاك المعرفة أصبح اليوم هو المحدد الأساسي لقوة الدول. في خضم هذا الطرح سنحاول من خلال هذه المقال التعرض إلى مسألة المراكز الفكرية في الوطن العربي محاولين في ذلك البحث ورصد مكانة هذه الأخيرة سواء على المستوى الإقليمي أو الدولي وكذا التعرض لمسألة الأثر والانعكاس الذي يمكن أن تحققه هذه المراكز الفكرية في عملية إصلاح وبناء الأمة خصوصاً وإن هذه المراكز أصبحت اليوم أحد أهم الأدوات المُوجهة للرأي العام وكذا بناء العقل الجماعي الذي يعتبر حجر الأساس في نهضة الأمة العربية والإسلامية. لمعالجة الإشكالية العامة نطرح تساؤلاً مفاده كيف يمكن تفعيل دور المراكز الفكرية والبحثية في الوطن العربي؟ وماهي جملة التحديات التي تواجهها؟
يتفق معظم الباحثين والخبراء على وجه العموم أن مراكز الفكر والبحث أصبحت تشكل في وقتنا الراهن فاعلاً أساسياً ومحورياً في عملية رسم وصنع السياسات العامة و كذا خلق مساحات فكرية للحوار وبناء التوافق بين جميع الأطراف ذوي العلاقة بعملية صنع القرار سواء تعلق الأمر بالفواعل الرسمية أو غير الرسمية خاصة و أن الإطار الوظيفي للمراكز الفكرية يتمحور على فكرة زيادة وتنويع مصادر المعلومات الموثوقة وتوفير بيانات عالية الجودة وتحليلات عميقة قادرة على عقلنة و ترشيد صنع القرار بالشكل الذي يخدم مصالح المواطنين في جميع القطاعات[1]. بناء على هذا الطرح حاولت العديد من الدول العربية والإسلامية محاكاة هذا الواقع عبر إنشاء ودعم العديد من المراكز الفكرية التي كان القصد منها إما النهوض بالعديد من القطاعات وهذا من خلال توظيف هذه المراكز في عمليتي تشخيص المشاكل والقضايا المجتمعية وطرح حلول وبدائل ممكنة لحل هذه الأزمات والمشاكل، وإما سعي هذه الدول إلى ترويج ونشر أيدولوجية الدولة ومحاولة إقناع النخب والمواطنين بتوجهات الدولة وسياساتها في مختلف القطاعات وهذا تجنبا لأي معارضة سياسية ممكن أن تشوه فلسفة حكم الأنظمة السياسية في منطقتنا العربية و الإسلامية. في هذا الصدد وحسب التقرير الأخير المتعلق بمراكز الفكر والرأي الصادر عن جامعة بنسالفانيا فقد بلغ عدد المراكز الفكرية في منطقة الشرق الأوسط وشمال إفريقيا المشكلة لمعظم دول العالم العربي و الإسلامي 599 مركزا فكريا[2]. في هذا السياق حاولنا عرض أهم المراكز الفكرية في عشر دول إسلامية قصد تقييم الواقع وفهم مكيانيزمات الإصلاح الكفيلة بزيادة أداء هذه المراكز وتفعيل دورها في خدمة الفرد والأمة.
الجدول: ترتيب أحسن عشر دول في منطقة الشرق الأوسط وعرض أهم مراكز الفكر التابعة لها.Source : James G. McGann, 2020 Global Go To Think Tank Index Report, University of Pennsylvania, 2021, p.129.
يلاحظ من خلال الجدول المبين أعلاه أن معظم المراكز البحثية تنحصر جغرافيا في منطقة الخليج العربي حيث احتل مركز الإمارات للسياسات مركز الصدارة في المنطقة العربية في حين توزعت بقية المراكز على منطقتي شمال إفريقيا و الشام يعود هذا الانحصار الجغرافي للمراكز الفكرية في منطقة الخليج إلى الدعم المادي والبشري الذي تحظى به معظم المراكز الفكرية المحلية أو الدولية الناشطة في المنطقة وكذا رغبة الأنظمة السياسية في محاكاة المراكز الفكرية الغربية النشطة على المستوى الدولي والإقليمي مثل معهد بروكيجز و كارنيجي كل هذا ساهم في أن يصبح لهذه المراكز موقعا وموطأ قدم هام في عملية صنع السياسيات العامة ولعل أبرز مثال عن ذلك هو دور مركز الإمارات للدراسات والبحوث الإستراتجية في عملية تقييم وتقويم العديد من السياسيات المنتهجة في الإمارات العربية المتحدة. على الرغم من هذا التطور الذي شهدتها العديد من المراكز الفكرية في المنطقة العربية إلا أن البعض منها لا يزال يعاني من التهميش ويواجه العديد من القيود والعراقيل السياسية والبيروقراطية والمادية وهو ما حال دون بلوغ الأهداف المرجوة من تأسيس العديد من المراكز البحثية ولعلَ أبرز التحديات التي تجابهها مراكز الفكر في الوطن العربي والإسلامي يمكن تلخيصها في العناصر التالية[3] :
- انعدام التنسيق والترابط بين المراكز الفكرية (Think Tanks) والجهات الثلاث المساهمة في تحقيق أهدافها وهي: صناع السياسات، والجهات الأكاديمية، وخدمة المجتمع.
- غياب معايير الشمولية، سواء من حيث تعدد المجالات والتخصصات التي تغطيها المؤسسة البحثية، أو تعدد النشاطات، أو العمل في أطر محلية وإقليمية ودولية.
- أزمة الاتصال، حيث يلاحظ في هذا الإطار ضعف في المعايير والوسائل المرتبطة بقدرة المراكز الفكرية العربية على إيصال الأفكار وزيادة حجم الانتشار والتأثير في الجمهور العام والمستهدف، خاصة في ظل توفر التقنيات الحديثة وتنوع تقنيات ووسائط الاتصال والتواصل الاجتماعي.
- ضعف حجم عمليات التشبيك بين المراكز الفكرية خاصة في مجالات وضع اتفاقيات التعاون مع المؤسسات البحثية الأخرى والمماثلة والمتواجدة محلياً، وإقليمياً، وعالمياً، وكذا المرونة في تحقيق الأهداف بالاتفاق مع خبراء من خارج مجال عمل الباحثين الدائمين في المؤسسة البحثية.
بناء على مجموع التحديات السابقة الذكر يمكن تفعيل دور المراكز الفكرية في الوطن العربي من خلال:
– توسيع وتنويع المجالات البحثية لتشمل جميع النواحي المتعلقة بحياة الفرد وتفاعلاته مع بيئته السياسية، الاقتصادية، الاجتماعية والثقافية.
– ربط العلاقات مع الدولة والقطاع الخاص وجميع مؤسسات المجتمع المدني وهذا قصد مجابهة مشكل التمويل الذي تعاني منه العديد من المراكز الفكرية والبحثية.
– تشبيك العلاقات مع جميع المراكز الفكرية الناشطة على المستوى الوطني والإقليمي والدولي وهذا عبر القيام بندوات وحوارات مشتركة وكذا إجراء تربصات ودورات تنمي قدرات الطاقم والعنصر البشري التابع لهذه المراكز.
– استخدام الوسائل والوسائط الاجتماعية الحديثة بدل الاقتصار فقط على وسائل الاتصال التقليدية قصد توسيع دائرة التأثير واستهداف عدد أكبر من الأفراد.
– التعامل مع جميع النخب الأكاديمية والسياسية المعروفة على الساحة السياسية والثقافية قصد الاستفادة من علاقاتهم ومكانتهم في عمليتي التعريف برسالة المراكز الفكرية وأهدافها.
في الأخير يمكن القول إن مسألة تفعيل المراكز الفكرية ومجابهة التحديات التي تعوق مسار تطورها ومساهمتها في عملية الإصلاح هي عملية معقدة لأنها لا تتعلق بطبيعة المراكز الفكرية فحسب بل يتعدى إلى بيئة وطبيعة الأنظمة السياسية التي تنشط فيها هذه المراكز الفكرية خاصة وأن ضمان حرية البحث والباحث والوصول السهل والسلس إلى المعلومة أصبح يشكل اليوم ضرورة لا مناص منها للعمل والسير الحسن لمراكز الفكر والبحوث في عالمنا الإسلامي. وعلى هذا الأساس ينبغي على الحكومات العربية أن تدرك مدى أهمية ودور المراكز الفكرية في عملية صنع السياسات ومن ثم ينبغي تفعيل جميع أطر الشراكة التي من شأنها أن تسهل من عملية الإدماج الحقيقي لهذه المراكز في عملية صنع القرار وهذا من خلال ضبط الأطر القانونية والمؤسسية الكفيلة بتنظيم هذه العلاقة. من جانب آخر وعلى اعتبار أن عملية إنشاء مراكز الفكر يكون في الغالب مسؤولية القادة والنخب المثقفة فلا بد من إعادة بناء منظومة تفكير تخرج فيها النخب المثقفة من حيزها التقليدي إلى الحيز الوظيفي مما يساهم في بلورة فكرة ودور المثقف العضوي كأساس فعلي وحقيقي تستطيع من خلاله المراكز الفكرية حقيقةَ تغيير الواقع وإحداث عملية الإصلاح المنشود.
[1] – UNDP,Arab think tanks claim role in influencing policy-making, 08 jul 2013, see: https://www.undp.org/content/undp/en/home/presscenter/pressreleases/2013/07/08/arab-think-tanks-claim-role-in-influencing-policy-making-.html .
[2] – James G. McGann, 2020 Global Go To Think Tank Index Report, University of Pennsylvania, 2021, p.43.
[3] – تقرير مركز الإمارات لدراسات والبحوث الإستراتجية، تقييم مراكز الدراسات والبحوث العربية والدولية 2018-2019، الطبعة الأولى،2019، ص06.