حروب المصطلحات وأهمية مراكز الفكر الاستراتيجية
د. عبد الحق دحمان
الوحدة السياسية
مركز المجدد للبحوث والدراسات
تجري مراكز الفكر الدبلوماسي أبحاثاً حول الشؤون الدولية، والقضايا الإقليمية الساخنة، والسياسة الخارجية للدول وغيرها من المجالات. كما توفر مراجع سياسية لمؤسسات صنع القرار، والتي لها تأثير مهم على عملية صنع السياسة الخارجية. من حيث بناء أجندة للسياسة، وتشكيلها، وتنفيذها، ثم تقييمها. تعتبر مراكز الفكر عوامل ذات ارتباط مهم فيما يتعلق بإنتاج الأفكار، لكن وظائفها ليست مجرد نظرية بحتة بل إن هدفها يتمثل في إحداث تأثيرات ملموسة أو تكوين رأي أو اقتراح سياسة عامة. بالتالي فهي مزيج بين الدوائر الأكاديمية ودوائر صنع السياسات، يعني أنها تحاول الجمع بين النظرية والممارسة وذلك لدفع القرارات والمساهمة في تشكيل نقاش عام بشأنها. لذا ليس من المستغرب أن المعلومات هي الذهب الأسود للقرن الحادي والعشرين . حيث أضحت الاقتراحات ومختلف السرديات الخاصة بالسياسة الخارجية تعمل في ظل نظام المنافسة في سوق الأفكار، عبر استقطاب أو إنشاء أطر معرفية وظيفية لتلبية أهداف السياسة الخارجية، بعد ارتباط إلى حد ما بقضايا العلاقات الدولية. فدبلوماسية الأفكار صارت أمراً حتمياً في مجتمعات المعرفة، وكل من يبني سردية معينة أو يؤثر في تكوين مفاهيمها لديه ميزة تنافسية مقارنة بالبقية، فمن يضع المعايير والقواعد ليس نفسه من يتبعها. ومن هنا جاءت المنافسة المعيارية والفكرية بين الدول.
عند التفكير في كيفية التطرق إلى السياسة الدولية وبنائها تقليديًا في القرنين العشرين والحادي والعشرين، فمن السهل أن نرى أن العالم الغربي قد هيمن على مجال صناعة الأفكار. فلطالما كانت هيمنة مراكز الأبحاث الانجلو أمريكية عاملاً مهماً في تأسيس قيم وأفكار النظام الليبرالي الدولي المعاصر. كما لم تتوقف مؤسسات التفكير عن كونها نوعاً من السفارات الفكرية للدول. وعلى الرغم من التغييرات في توزيع القوة الدولية التي نشهدها مع صعود القوي الآسيوية. فإن هيمنة الإنتاج الفكري الغربي في مسائل العلاقات الدولية لا يزال سارياً. حيث يوجد ما يقرب %51 من مراكز الأبحاث في العالم في الولايات المتحدة وأوربا. وفي العاصمة واشنطن (408) وولاية ماساشوست (176) لوحدهما فإن عدد مؤسسات الفكر أكثر مما هو موجود في الهند- الدولة الثانية في العالم من حيث عدد مؤسسات التفكير بمعدل 509 مركز. بالإضافة الى ذلك تتفوق ولاية كاليفورنيا في عدد مراكز الأبحاث الموجودة في إسبانيا ودولة الامارات العربية المتحدة مجتمعتين أي 127 مركز مقابل 81. ربما يكون من غير المفاجئ أن تحتل الولايات المتحدة الأمريكية في إجمالي عدد مؤسسات التفكير، كما أنها الدولة الأولى التي تتمتع بأكبر تأثير دولي في إنتاج التحليلات في جميع مجالات السياسة العامة. رغم أن القوى الأوربية كفرنسا أو ألمانيا تتمتع أيضاً بمكانة قوية تجعلها من بين العشرة الأوائل في العالم. هناك أيضا دول كإسبانيا، النمسا، سويسرا أو السويد من بين العشرين الأوائل، إلا أن هيمنة الأمريكية لا تزال مهمة للغاية على الصعيدين الدولي والغربي على حد سواء.
في نفس السياق يعتبر إنتاج الأفكار والتحليلات عاملاً متزايد الأهمية للقوى الناشئة في آسيا. ويمكن ترجمة ذلك بسهولة في ضوء الاهتمام المتزايد في المنطقة بإعادة تكييف المفاهيم الغربية لترجمتها إلى نسختها الآسيوية أو بشكل مباشر لإضفاء الروح الآسيوية عليها. حيث أصبحت تنتشر أفكار تعبر عن النمط الآسيوي أو اقتصاد سوق وفق رؤية صينية بحتة، بالإضافة الى ظهور مشاريع كطريق الحرير. فقد أظهرت النماذج الآسيوية كيف يتم تطوير نماذج فريدة من حيث وجود إمكانيات كبيرة لإعادة تعريف هيكل النظام الدولي لناحية احتمالية أن ترسخ تعددية الأقطاب في العلاقات الدولية بعيداً عن الهيمنة المعيارية للولايات المتحدة الأمريكية والغرب عموماً. فشعار “نمو الصين السلمي China’s Peaceful Rise ” أصبح مبدأ في السياسية الخارجية الصينية في القرن الحادي العشرين. والذي أصبح يدخل في إطار النقاشات الفكرية بين الواقعيين والليبيراليين حول مضامين الصعود الصيني، وصعوبة التكهن بنواياها المستقبلية، هل هي قوة وضع قائمStatus quo power تقبل قواعد النظام الدولي التي يسميها هادلي بول Hedly Bull ” المجتمع الدولي”، أم أنها قوة تعديلية Revisionist Power غير راضية، هدفها تحقيق الهيمنة الإقليمية في آسيا بابتكار نسخة شبيهة بمبدأ مونروا، وبالطريقة نفسها التي سيطرت بها الولايات المتحدة الامريكية على نصف الكرة الغربي وفق منطق الواقعية الهجومية.
ونفس الشيء بالنسبة لروسيا، فلا يزال انهيار الاتحاد السوفياتي على يد القوة الأطلسية يشكل صدمة لروسيا الجديدة الطامحة الى بعث مشروعها الأوراسي الكبير، فهي لا تزال تحسب أنها في صراع دائم مع التالاسوكراتيا التي ما فتئت تحقق انتصاراتها للهيمنة وإقرار الأحادية القطبية. في حين يرى ألكسندر دوغين أن هزيمة التيلوروكراتيا (القوة البرية) أمام التالاسوكراتيا (القوة البحرية) لا يمثل إلا ظاهرة مؤقتة وتعود أوراسيا بعدها الى رسالتها القارية.
وبهذا المعنى، فإن القارة الآسيوية تعتبر ذات دلالات جيوستراتيجية من وجهة نظر صناعة الأفكار. حيث أن %22من المؤسسات الفكر في العالم يقع مقرها في دول آسيوية. لكن عند الحديث عن التأثير فلا تزال الفجوة بين الدولة الآسيوية والدول الغربية كبيرة. ففي الوقت الذي تمتلك الولايات المتحدة وحدها 1871 مركز فكري، فإن الصين وروسيا تمتلك 507 و215 مركز فكري على التوالي.
البلدان التي تمتلك أكبر عدد من مراكز الفكر(2019)
إن بلدان العالم الجنوبي كأمريكا اللاتينية وأفريقيا جنوب الصحراء طالما تم استبعادهما من الدوائر الدولية فيما يتعلق بصناعة وإنتاج الأفكار. ففي أمريكا اللاتينية تشكل ما يقرب نسبته من %12 من مراكز الفكر في العالم، وفي افريقيا جنوب الصحراء يتناقص الرقم الى %7,4. في حين أنه في الآونة أظهرت بوادر تغيير لناحية السعي لاستعادة وزنها النسبي في هذا الشأن. ومن المثير للانتباه أن دولة الأرجنتين التي تمكنت من وضع نفسها في المرتبة الخامسة في العالم من حيث عدد المؤسسات الفكرية. وتجدر الإشارة أيضاً إلى زيادة مراكز الفكر في دول البريكس كالبرازيل وجنوب أفريقيا، التي تحتل بالفعل المرتبة 11 و13 على التوالي. ومع ذلك، لا يزال جزء كبير من بلدان العالم الثالث تظهر جوانب قصور كبيرة من حيث إنتاجها للسياسات أو الأفكار أو توليد نظريات بديلة على المستوى الدولي. بل عادة ما يقتصر مستوى تأثير هذه المؤسسات بشكل كبير في المجال الجامعي لذلك تميل آثارها إلى أن تكون لها بعد أكاديمي بحت بدلاً من كونها صانعة للسياسات.
عند الحديث عن منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا فمن العجيب أنها عاشت تحولات غير مسبوقة كالربيع العربي، لكنها استوردت توصيفاتها من الخارج. فمصطلح الربيع العربي في حد ذاته، فحسب يلينا بونوماريوفا Jelena Bonomareva فإن ” جورج هاردلي George Hadly” من مركز ويلسون هو أول من أطلق تسمية الربيع العربي. وهناك رأي يدعي أن جريدة كريستيان ساينس مونتر الأمريكية هي أول من استخدمت هذه التسمية يوم14 جانفي 2011، تعليقاً على هروب زين العابدين بن علي. في حين هناك من ينسب المصطلح إلى مقال لـ ” مارك لينشMarc Lynch ” بعنوان Obama’s Arab spring، الصادر يوم 2011.01.06، يعني بعد يومين فقط من وفاة محمد البوعزيزي. ومهما كان الخلاف حول أسبقية من أطلق صفة الربيع العربي، فإن وسائل الإعلام الغربية ومراكز الفكر هي من أطلقت هذا الوصف بالتالي فإن التسمية هي غربية بامتياز، تحيل إلى تجارب ذات مرجعية أوربية، بدءاً من “ربيع الشعوب 1848″ إلى ” ربيع براغ 1968″.
في نفس السياق، تلعب مؤسسات الفكر دوراً مهماً في تشكيل سياسات الحكومات حول العالم في الشؤون السياسية والاقتصادية والخارجية. حيث تتقرر السياسات الخارجية والاقتصادية والدفاعية للدول، وتتخذ الحكومات خطوات لتعزيز العلاقات مع البلدان الأخرى في مختلف المجالات بناء على نصائح واقتراحات مراكز الفكر. على سبيل المثال لا تعبر الدول عن آرائها بشأن القضية الفلسطينية إلا بعد أخذ رأي مراكز الفكر. من جهة أخرى، تضمن الولايات المتحدة الأمريكية وحلفاؤها ضربات الطائرات بدون طيار في العراق وأفغانستان واليمن وباكستان والصومال فقط بعد النظر في توصيات في مراكز الفكر الاستراتيجية. كما أن لاحتلال الأمريكي للعراق والتدخل في أفغانستان وانشاء سجن غوانتانامو كنتيجة لذلك، بالإضافة إلى المفاوضات الدولية بشأن الملف النووي الإيراني، والاحتلال الإسرائيلي الغير الشرعي لفلسطين ومختلف المساعي لجعل القدس عاصمة لليهود، كل هذه الإجراءات تتم على أساس توصيات مراكز الفكر. لذا فالسؤال الذي يطرح نفسه هو لماذا لا تنخرط مراكز الفكر العربية في هذه الدعاية لناحية السعي للانخراط في صنع السياسات الاستراتيجية للدول العربية؟
من منظور مقارن لمؤسسات الفكر، فإن مؤسسات الفكر الغربية هي في الغالب مؤسسات فكرية خاصة، وهي أكثر استقلالية وتنوعًا، ولا تخضع لسيطرة الحكومة لاختيار الموضوعات البحثية. وفي ظل المنافسة الشرسة في تسويق أبحاث مراكز الفكر، تحتاج دائماً إلى التعاون مع وسائل الإعلام للترويج لأبحاث سياساتهم للجمهور. لهذا السبب، فإن الهدف الأساسي من إنشاء مراكز فكرية هو لسد الثغرات التي لا تستطيع المؤسسات الأخرى سدها. بالتالي أصبحت جزءاً لا يتجزأ من العملية السياسية وعملية التنمية في البلدان الديمقراطية والمتقدمة. في العالم العربي لم تتمكن المراكز الفكرية من تحقيق هذا الهدف، حيث أن فعاليتها في كل من سلطة اتخاذ القرار ورسم استراتيجية للسياسة العامة ضعيفة نوعاً ما مقارنة بالمراكز المتواجدة في الغرب.
إن نوعية الصعوبات الكامنة في البيئة التي تقع فيها مراكز الفكر العربية، لناحية أدائها لوظائفها التشغيلية، ومجال حركتها هي متشابكة ومتنوعة. تعتبر مشكلة التمويل من بين المشاكل الأكثر أهمية لمراكز الفكر في العالم العربي. بدون مورد مالي لا يمكن لمركز الأبحاث وضع أجندة علمية لنفسه، كما لا يمكن أن يختار الأسماء المتخصصة في مجالها ولا يمكنه الوصول الى المرحلة التي تؤهله للتأثير في السياسة العامة أو المشاركة في اتخاذ القرار مما يرهن استدامته. نتيجة ذلك، غالباً ما تجد المراكز التي تعاني أزمة في التمويل بأن تكون رهينة للممولين الذي يفرضون أجنداتهم سواء الدولة أو القطاع الخاص، وكما هو معروف أن الممولين يمارسون السيطرة على القرارات والاتجاهات وجداول الأعمال بشكل عام مما يحد من المصالح والأولويات البحثية التي تنعكس على جودة المخرجات النهائية وموضوعيتها.
فلا شك أن قيمة البحوث التي تعدها مراكز الفكرية تكمن في حياديتها، لذا من أجل إجراء بحث بشكل احترافي، يجب على المركز الفكري تحديد جدول أعمال البحث بحرية واختيار الأولويات بدون التعرض لأي تأثير خارجي. ولا يمكن تحقيق ذلك إلا بالحصول على دعم مالي لا يتعارض مع المجال والأولويات ولا يطرح أي شروط. إلا أن هذا الوضع يصعب تحقيقه في المجتمعات العربية التي تسيطر عليها أنظمة استبدادية تخشى حرية الفكر والتعبير وتحاول إخفاء الحقائق التي يجب الكشف عنها لمجتمعها.
إذن، يؤدي نموذج صنع القرار من الأعلى الى الأسفل إلى تقويض حماس مراكز الفكر للتفاعل، ذلك أن معظم مؤسسات الفكر والرأي الحالية هي مؤسسات بحثية داخل النظام. ومقيدة بالتمويل الحكومي، كما تميل تقارير أبحاث سياساتها إلى تلبية احتياجات صانعي القرار من حيث الدعاية لفكر أو سياسة معينة بدلاً من أن تعكس احتياجات المجتمع؛ بل من النادر إجراء تخطيط استراتيجي قائم على الاحتياجات الاجتماعية في كل من المجال الأكاديمي والعلمي، وكذلك في المجال الوطني والإقليمي والدولي. بالتالي فتقييد الحرية الممنوحة لهذه المراكز هي من بين الصعوبات في إنشاء مراكز فكرية والانتظار منها تقديم رؤى مبتكرة وبدائل جديدة.
في مقابل ذلك، تدفع الفجوة بين صانعي القرار والمراكز الفكرية إلى التوصل لحلول محدودة للمشكلة التي يعملون عليها والتي غالباً ما تسعى لرضى صناع القرار. وفي حال غياب الحد الأدنى المطلوب من مراكز الفكر العربية، يرى صانعو القرار بأن مراكز الفكر الأجنبية ذات جودة أفضل للعمل في أي قضية معينة، لهذا ترى من الأجدر التقدم إلى مراكز الفكر الدولية بدلاً من المراكز المحلية وذلك للترويج لسياسة معينة. في حين أن المراكز العربية التي تلجأ إلى المصادر الأجنبية سواء كانوا أفراداً، أو دولاً أو منظمات كنتيجة لغياب التمويل المحلي فغالباً ما ينظر إليها على أنها مراكز مشبوهة في نظر الدولة وقد توجه لها اتهامات قانونية.
توزيع مراكز الفكر عبر المناطق الجغرافية (2019)
إذن أهمية مراكز الفكر في العالم العربي يتسم بالعديد من التحديات والشكوك، هذا ما انعكس على الترتيب العالمي لهذه المراكز، فمن جانب كمي يشير التقرير الأخير الصادر عن جامعة بانسلفانيا لسنة 2019 المتعلق بالمراكز الفكرية في العالم أن المراكز الفكرية في منطقة الشرق الأوسط احتلت المرتبة الدنيا من حيث العدد فحسب التقرير المشار إليه في منطقة الشرق الأوسط وشمال إفريقيا بما فيها إيران وتركيا و الكيان الإسرائيلي تحتضن هذه المنطقة 507 مركز فكري من مجموع 8248 مركز فكري موجود في العالم موزعة على الشكل التالي[1] :
الجدول(02): يوضح توزيع المراكز الفكرية في الوطن العربي حسب الدولة.
Source: University of Pennsylvania ,2019 Global Go To Think Tank Index Report, p.45.
في السياق نفسه، وضع نفس التقرير ترتيباً إقليمياً (Ranking) لأهم مراكز الفكر والبحوث الناشطة في منطقة الشرق الأوسط، وعلى أساس أن موضوعنا متعلق بالمنطقة العربية سنحاول من خلال الجدول المبين أدناه عرض لأهم مراكز الفكر والبحوث في المنطقة العربية حسب ما جاء في تقرير سنة 2019 .
Source: University of Pennsylvania ,2019 Global Go To Think Tank Index Report, p.p.109.112
من خلال الإحصائيات والأرقام المقدمة يلاحظ ضعف عملية خلق مراكز الفكر والبحوث وانتشارها في المنطقة العربية، حيث أن أكثر دولة حاضنة لمراكز الفكر والبحوث في هذه المنطقة كانت الجمهورية المصرية بعدد لا يتجاوز 39 مركز فكري حازت 10 مراكز فكرية منها على ترتيب مهم في المنطقة العربية ، لهذا من الواضح أن ينعكس هذا النقص المسجل في المنطقة العربية على أداء ووظيفة هذه المراكز بحيث أنها لا تستطيع البحث أو التخصص في جميع القضايا الراهنة التي تمس واقع شعوب المنطقة ، خصوصاً وأن بيئة الشرق الأوسط في وقتنا الراهن تعيش أزمات على جميع الأصعدة والتي تحتاج فعلياً إلى زيادة في حجم المراكز الفكرية لعرض اقتراحات وتوصيات وبدائل تمكن صانع القرار من حل هذه الأزمات.
[1] – James G. McGann, Op.cit, p.41.