واقع الجهود التنظيرية المستقبلية في العالم الإسلامي: الصعوبات والحلول
د.عبد الحق دحمان
الوحدة السياسية- مركز المجدد للبحوث والدراسات
كثيراً ما يشار إلى الدراسات المستقبلية بأنها تلك البحوث والجهود العلمية الممنهجة التي تعتمد على معطيات وطرق وأساليب علمية لتصور ما سيكون عليه الوضع بعد مدة زمنية معينة عبر تقديم عدة احتمالات وتصورات مشروطة قد تقي من المخاطر المستقبلية، وتجعل الأمة لا تسير نحو سيناريوهات مجهولة، فمن يخطط لمستقبله يستطيع معرفة موقعه وهويته في المستقبل، فلا يمكن لأمة أو دولة أن تحقق تقدماً حضارياً دون أن تكون لها خطط ورؤية استراتيجية واضحة حول مستقبلها، ولهذا السبب أولت الدول المتقدمة اهتماماً كبيراً منذ منتصف القرن العشرين* بهذا العلم، وخصصت له معاهد ومراكز دراسات وتجهيزات مادية وتمويل وفرق بحثية ذات مستوى عال، كونها أدركت بأن دراسة المستقبل ليست عبارة عن ترف معرفي، وإنما هو ضرورة حتمية يفرضها التطور السريع والتعقيد الذي تعيشه البشرية يوماً بعد يوم، فمن خلال دراسته يمكن المرور من دائرة السير نحو المجهول إلى دائرة المستقبل المحدود أو المعلوم ولو بشكل نسبي، فمن يدرك مستقبله ويأخذ بالأسباب أحسن ممن لا يدرك مستقبله ولا يهتم به.
كما ازداد إقبال الخبراء والباحثين على دارسة المستقبل والتدبر فيه لا سيما في مرحلة الستينيات والسبعينيات لما فتح لهم هذا المجال من آفاق وابتكارات ورغبة في إدخال لغة الأرقام والإحصائيات لرصد وتتبع واستشراف العديد من التحركات والتوجهات المستقبلية خاصة في المجال السياسي والاقتصادي والأمني، ورغم ذلك يجب أن ننوه بأن هناك العديد من الكتابات والأفكار** التي أشارت إلى أهمية دراسة المستقبل وملامحه قبل ذلك بسنين وقرون، ولكن ليس بطرق علمية وإنما بكتابات قائمة أساساً على الخيال المتمثلة في كتابات المدن الفاضلة وقصص كيف سيكون العالم مستقبلاً[i].
أما عن العالم الإسلامي والعربي فإن التوجه نحو العناية بالمستقبل كعناية منهجية بدأ في فترة الثمانينيات كما أشارت العديد من الكتابات والأبحاث رغم أنه من الصعب جداً تحديد سنة أو تاريخ دقيق لانطلاقها، ولغاية الآن مازالت العناية بالمستقبل تعيش في مرحلة فتية لو تم قياسها بما أحرزه الغرب من تقدم في هذا العلم، دون إنكار أن هناك العديد من المحاولات الجادة والمحترمة في مناطق مختلفة من العالم الإسلامي والعربي[ii]، ففي دليل قامت به جمعية المستقبل العالمي في واشنطن بعنوان “دليل المستقبلين” The Futurist Directory سنة 2000 يضم معلومات كاملة عن حوالي 1400 مختص في المستقبليات من أنحاء العالم بلغ عدد المختصين الأمريكيين منهم 910 شخص، بينما لم يرد فيه أحد من المملكة العربية السعودية، وجاء فيه من بقية العالم الإسلامي* اسم شخص واحد من كل من الكويت، ولبنان، وباكستان، وإندونيسيا، وستة من تركيا، وثمانية من مصر، وهذا يشير إلى قلة شديدة في توجه عناية المسلمين بهذا التخصص[iii].
ومن جانب آخر فإنه عند رصد وتتبع مراكز الأبحاث والدراسات في العالم الإسلامي حول الدراسات المستقبلية فهي جد قليلة لو تم قياسها مثلاً بالولايات المتحدة الأمريكية التي يتجاوز فيها عدد مراكز الأبحاث المستقبلية 600 مركز، أما من حيث النوع فلا مجال أيضاً للمقارنة بين الغرب والعالم الإسلامي في مستوى الدراسات وجديتها وتطبيقات مناهج المستقبل لأخذهم أشواطاً كبيرة في هذا الجانب، ومن بين أهم المراكز المتخصصة بالمستقبليات في العالم الإسلامي والعربي نجد: مركز دارسات المستقبل بجامعة أسيوط، مركز البحوث والدراسات المستقبلية في جامعة القاهرة، ومركز الدراسات الاستراتيجية والمستقبلية في جامعة الكويت، المركز الإسلامي للدراسات المستقبلية في لبنان، مركز المستقبل للدراسات والبحوث في القاهرة، معهد الخليج للدراسات الاستراتيجية والمستقبلية في الكويت وغيرها من المراكز الأخرى[iv].
يعود سبب تراجع وعدم الاهتمام بالدراسات المستقبلية في العالم الإسلامي إلى تقاعل مجموعة من الأسباب تكمن فيما يلي:
- مشاكل متعلقة بالجانب المادي والتمويل: ربما لا يختلف اثنان بأن المراكز المتخصصة في الدراسات المستقبلية تحتاج إلى إمكانيات مادية وتمويل مالي كبير من طرف المانحين لاقتناء التجهيزات واللوازم الضرورية من أجل توفير الجو الملائم لإنجاز البحوث والدراسات المستقبلية، وكذلك توفير واستقطاب خبراء وكفاءات ذات مستوى عال، ففي حالة توفر هذا الجانب فسيغطي ذلك الكثير من النقائص ومظاهر العجز الذي تعاني منه وحدات البحث ومراكز الفكر، ويعتبر هذا المشكل من أهم الصعوبات التي تواجه مراكز الفكر والباحثين في العالم الإسلامي، فنظراً لنقص التمويل وغياب الإمكانيات يستحيل على الباحثين إنجاز دراسات مستقبلية مرموقة أو حتى الخوض فيها، وهو ما جعلهم يتأخرون كثيراً في هذا الحقل مقارنة بالعالم الغربي.
- غياب التقاليد الديمقراطية في البحث العلمي: تعول الدراسات المستقبلية على التقاليد الديمقراطية، والتي تتضمن العمل الجماعي والحوار والتبادل المعرفي والتسامح الفكري، وقبول التعدد والاختلاف، وكذلك تجاوز الوصاية الفكرية والبيروقراطية المهيمنة والمحسوبية التي تدهس الإبداع والمبدعين، وتصيب البيئة العلمية للثقافة المستقبلية بالضمور والجمود، ففي حالة توفر هذه التقاليد فإن ذلك سيساعد على انفتاح الدراسات المستقبلية وتطويرها، وفي حالة غيابها فسيحدث العكس، وللأسف يعاني العالم الإسلامي في هذا الجانب، إذ أن هناك القليل من المراكز والوحدات البحثية التي تدرك بأن البيئة العلمية للثقافة المستقبلية تحتاج إلى هذه التقاليد.
- غياب ثقافة التخطيط للمستقبل لدى عامة الناس: إن الاهتمام المتزايد بالدراسات المستقبلية وتطبيقاتها لا يمكن أن يحدث دون تطور في الوعي لدى عامة الناس، سواء كان ذلك الوعي المستقبلي يتم بواسطة الحديث في وسائل الإعلام الجماهيري، أو عبر غرسه في التنشئة التعيلمية على نحو منتظم بإدماجه في المقررات الدراسية، ولقد تنبهت الدول المتقدمة إلى ذلك، وفي مقدمتها الولايات المتحدة الأمريكية التي سارعت إلى نشر ثقافة الدراسات المستقبلية بين طلاب المدارس والجامعات للمساهمة في مواجهة السيناريوهات المستقبلية، ولتمكينهم من اكتساب القدرة على التفكير العلمي المنظم لتغيير مساراته[v]، وهذا الأمر شبه مغيب في الدول الإسلامية والعربية رغم حث الدين والعلماء على ذلك، لذلك فإن العالم الإسلامي والعربي يحتاج إلى تأهيل الثقافة المستقبلية بشكل مكثف حتى يتمكن الطلبة والباحثين والخبراء من الإجابة عن سؤال كيف سيكون المستقبل مثلهم مثل إجابات المدارس الأمريكية والأوروبية.
- مشكلة الثقة في الاختصاص: يبدوا أن مسألة الاهتمام بالمستقبل حتى وإن تم اعتمادها كاستراتيجية للدول، فيمكن أن تصطدم بأحد المسلمات السائدة والمنتشرة لدى النظم السياسية الأنظم وهي مشكلة عدم الثقة في جهة الاختصاص، وهو أمر يحدث نتيجة لتركمات سياسية واجتماعية ممتدة لعقود، إذ أن أغلب الوزراء والمسؤولين يتم تعيينهم سياسياً وليس نتيجة لاختصاصاتهم، فوزير التخطيط ليس له علاقة بالتخطيط والاستشراف، ووزير الاقتصاد ليس له علاقة بالاقتصاد وليس مدركاً لقضايا ورهانات التنمية وتحدياتها المستقبلية.
وبالتالي فإن الاعتماد على باحثين ومختصين في استشراف المستقبل قد يمثل فقط “برستيجاً” للدولة من حيث التمويل والتنظيم والتأطير، ولكن عندما يأتي التنفيذ والتطبيق والأخذ بدراسات هؤلاء، يصبح الأمر مجرد حبر على ورق، وتنتهي بها إلى في رفوف المكتبات، وهذا واقع نعيشه في الدول الإسلامية والعربية [vi].
كل هذه المشاكل والصعوبات أصبح من الضروري معالجتها في الوقت الراهن أكثر من أي وقت مضى لحاجة الأمة والمجتمعات الإسلامية للإجابة عن تساؤلهم حول: ماذا يحمل المستقبل من تحديات قد تمسهم في مختلف المجالات؟ ومن أجل ذلك وجب تضافر الجهود والإرادة السياسية بضرورة الرفع بمستوى وأهمية الدراسات المستقبلية من خلال حث الجهات الوصية بتقديم دورات تكوينية وورشات وملتقيات وطنية ودولية حول أهمية الدراسات المستقبلية وتطبيقاتها، ولا سيما محاولة جلب خبراء في هذا العلم من العالم الغربي للاستفادة منهم في مسألة كيفية تطبيق التقنيات والأساليب الجديدة للدراسات المستقبلية، إضافة إلى ذلك فلا بد من توفير الإمكانيات المادية والتجهيزات اللازمة لكي يتم توفير المناخ المناسب الذي يسمح للفرق البحثية بالوصول إلى نتائج جيدة ودقيقة، ومن جانب آخر فلا بد من توفير الحرية الفكرية، والقضاء على التقاليد غير الديمقراطية في البحث التي تساهم في ضموره كالبيروقراطية والمحسوبية والوصاية الفكرية، كما يجب إعادة النظر في مستوى الثقافة المستقبلية لدى عامة الناس وإعادة تأهيلها بشكل مكثف وسريع باستخدام وسائل الإعلام بشقيه التقليدي والجديد، وكذلك بإدماجها في المقررات الدراسية للمدارس والمعاهد والجامعات.
في الأخير نخلص بأن الدراسات المستقبلية في العالم الإسلامي تعاني من عدة صعوبات وتحديات يجب تجاوزها لكي يمكن رسم الخيارات المستقبلية للأمة وتحديد ما هو خير وشر لها، ولملء النقص الذي يمسها في مختلف الجوانب خصوصاً في المرحلة الراهنة التي تتميز بسرعة التطورات وتداخل وتعقد المجالات، فمن المستحسن تطوير هذه الدراسات بشكل مكثف وجعلها حلقة رئيسية في العمل السياسي والاقتصادي والأمني.
المراجع والهوامش
* تؤرخ العديد من الكتابات أن الفضل الكبير في نشأة وتطور الدراسات المستقبلية يرجع إلى مؤسسة راند (RAND) الأمريكية التي اهتمت بالتطوير والاستطلاع والتخطيط المستقبلي في الشؤون العسكرية للضرورة الحربية، لكن بعد نهاية الحرب الباردة أخذت الدراسات المستقبلية تتعدى المجالات الحربية في هذه المؤسسة إلى مجالات الحياة الأخرى. للمزيد انظر: عبدالله بم محمد المديفر، الدراسات المستقبلية وأهميتها للدعوة الإسلامية، بحث لنيل درجة الاجستير، جامعة طيبة، المدينة المنورة، 2007، ص 56.
** أشار العديد من المفكرين والعلماء إلى أهمية المستقبل، وضرورة تحديد ملامحه انطلاقاً من تتبع الوقائع وقياسها بما حدث في الماضي –استرداد الماضي-، ولقد أدركوا بأن الانسان يمكنه التنبؤ بالعديد من الأحداث التي ستحصل، وبالتالي الاستعداد لها، ومن بين أبرز المفكرين الذين تحدثوا عن المستقبل نجد العلامة عبد الرحمان ابن خلدون في كتابه المقدمة، والذي اعتبر فيه بأن المستقبل عبارة عن خلقة متأصلة في الإنسان يحاول دائما التطلع أو التشوف إليه.
[i] المرجع نفسه، ص 43-44.
[ii] وليد عبد الحي، مناهج الدراسات المستقبلية وتطبيقاتها في العالم العربي، أبو ظبي : مركز الإمارات للدراسات والبحوث الاستراتيجية، 2007، ص 119.
* من بين المختصين الذين اعتنوا بالدراسات المستقبلية في العالم الإسلامي نجد: قسطنطين رزيق، إسماعيل صبري عبدالله، المهدي المنجرة، الباكستاني راجام م. عزام، علي محمد نصار، إبراهيم حسن العيسوي، ضياء الدين سردار، سهيل طاهر عناية الله، إسماعيل خضر الشظي. للمزيد انظر: عبدالله بم محمد المديفر، مرجع سابق، ص 67-69.
[iii] المرجع نفسه، ص 61.
[iv] وليد عبد الحي، مرجع سابق، ص 126-127.
[v] محمد إبراهيم منصور، الدراسات المستقبلية وأهمية توطينها عربياً، مجلة المستقبل العربي، العدد 416، أكتوبر 2013، ص 52.
[vi] نور الدين قلالة، الإسلام والمستقبل، للمزيد انظر الرابط الآتي:
https://islamonline.net.