حتمية ترشيد عمل الأحزاب الإسلامية
د. عبد الحق دحمان
إن فهم مسائل السياسة والحكم من زاوية المعارضة يختلف عنه عند النظر إليه من داخل السلطة، حيث يسود منطق التأثير والنفوذ، وعليه شكّل المنطق السياسي لعمل بعض الإسلاميين نموذجاً مختلفاً نوعاً ما للمشاركة السياسية، آخذاً بعين الاعتبار نوعية النظام السياسي ومؤسساته، بالإضافة إلى درجة انفتاحه أو انغلاقه. ففي الحالة التونسية وتحديداً حزب النهضة، يبدو أن الفصل بين المجالين أصبح واضحاً فيه، متخذاً أشكالاً عديدة؛ تمايز على مستوى الوظائف، والرموز، وعلى مستوى الخطاب. ليشكل بذلك النهضة نموذجاً لمدنية الأحزاب الإسلامية التي لا تحركها الأيديولوجيا بقدر ما تحركها الأحداث، يعنى أنها تفاعلية وقابلة للتكيف. هذا التوجه الجديد لحزب النهضة وجد فرضياته في حزب العدالة والتنمية في تركيا وبدرجة أقل الديمقراطية المسيحية في ألمانيا كنماذج للمحاكاة بدلاً من التركيز على تجربة الإخوان المسلمين في مصر التي أعطت نموذجاً لفشل الإسلاميين فيها.
كان من نتائج تبني المنظور السياقي، النظر إلى الدولة كمعطى ثابت De Facto لا كما ينبغي أن تكون، لذا فبدلاً من الحديث عن تراجع الإسلاميين في العالم العربي ومحاولة جعله ظاهرة عامة “ما بعدية” ميزت الإسلاميين ككل، فإنه لابد من النظر إلى هذا التراجع كظاهرة تطورية في سياق موضوعي تصعد فيه أحزاب سياسية وتتراجع أخرى. لذا يقتضي التأسيس للممارسة السياسية من منظور إسلامي الأخذ بعين الاعتبار منطق الصعود والتراجع بدلاً من المنطق الأحادي الساعي إلى تأسيس نظرية بديلة للدولة والحكم أو في حده الأدنى السعي إلى احتكار السلطة في حالة الوصول إلى الحكم.
تسعى أغلب الأحزاب المشكلة للطيف السياسي إلى تقديم برامج تنافسية لجذب الناخبين في سعيها للوصول للحكم، ولا شك أن الأحزاب الإسلامية تمتلك من الخصوصية ما يميزها عن باقي الأحزاب الأخرى فيما يتعلق بالأيديولوجية التي تتبناها، وإذا كان لا بد للممارسة السياسية أن تستند إلى المرجعية الإسلامية، فإن المجال الذي يشتغل عليه السياسي يبقى محكوماً بمنطق المجال الذي ينتمي إليه، وهو مجال يتميز بصراع القوة والمصلحة مع تنافسية البرامج، والتي كلها محسومة اجتهادياً وليس نصياً، لذا فالتأسيس للمنافسة ضمن السياق الحيادي للدولة بقدر ما هو مرتبط بتوازنات القوى فإنه يقتضي إعطاء الأولوية لشرعية الإنجاز كمحدد أساسي. في هذا الصدد، فإن البقاء كنموذج جذاب يستلزم تطوير أجندات تخصصية لها قابلية للمنافسة ضمن السوق السياسي الموجود، قد تحفظ لها خصوصيتها كأحزاب ذات مرجعية إسلامية، ولكن في نفس الوقت تسمح لها بالتشابك بشكل خاص مع تحديات سياقها المجتمعي. هنا تتحدد قوة الأيديولوجية لدى الأحزاب الإسلامية، ليس في عمقها وبنيتها الفكرية فقط، بل في استدعاء برامج تنافسية لها قابلية لجلب الناخبين وإغرائهم بجدوة مشروعها كقوة طرح عقلانية وبديلة للواقع المتأزم. بعبارة أخرى تتحدد قوة الأحزاب الإسلامية في التأسيس للفعل السياسي الآني عبر الممارسات اليومية.
لكي تشكل الأحزاب الإسلامية رافداً مهماً ضمن عملية المنافسة فعليها أن تتبنى حلولاً للمشاكل التي تواجهها الدولة والنظام السياسي ونظام الحكم في بناء قدراته (القدرة الاستخراجية Extractive، القدرة التنظيمية Regulative، القدرة التوزيعية Distributive، القدرة الرمزية Symbolic، القدرة الاستجابية Responsive) بدلاً من تبني رؤية صدامية مع الدولة والنظام السياسي.
فالدولة ككيان سيادي تشير إلى مجموعة المؤسسات التي تمتلك حق استخدام العنف المشروع داخل حدودها الجغرافية، أما النظام السياسي فهو مجموع المكونات المتفاعلة والمتصلة وظيفياً مع بعضها داخل المجتمع (الدولة)، وأي تغير في نظام معين قد يؤثر على بقية العناصر الأخرى المكونة للنظام الكلي. وكما للدولة وظائف تميزها، فإن النظام السياسي يتميز بمجموعة من الوظائف حددها غابريال ألموند G. Almond في وظيفة التنشئة والتجنيد السياسي Political Socialization and recruitment ، الاتصال السياسي Political Communication، التعبير عن المصالح Interest articulation، تجميع المصالح Interest aggregation، وضع وتنفيذ وإصدار الاحكامRule Making, Rule application Rule adjudication[1])
والقاعدة الأساسية هي أن الدولة ليست النظام السياسي، وهذا الأخير ليس هو نظام الحكم، وكما أنه يوجد تداخل في الوظائف فإن هناك خطوطاً فاصلة تميز كل نظام عن الآخر، فما يميز الدولة هو السكون والبقاء، في حين أن النظام السياسي هو نظام سلوكي بالأساس يؤثر ويتأثر بالبيئة المحيطة أي أنه نظام تكيفي يسعى إلى البقاء في ظل بيئة ديناميكية مفتوحة. أما نظام الحكم فما يميزه هو التغير المستمر (السلمي/ العنيف) نظراً للاستحقاقات التي يواجهها بشكل دوري (انتخابات، إصلاح، انقلابات، ثورة، حرب). لذا يفترض المنظور السياقي أن المجال التداولي للأحزاب السياسية هو على مستوى نظام حكم وليس على مستوى الدولة أو النظام السياسي. فما ينتظر من الحزب الفائز في الانتخابات هو إجراؤه لتغييرات على مستوى نظام الحكم، أما في حال تبني أي حزب وصل إلى السلطة لتغيرات على مستوى النظام السياسي أو الدولة ففي هاته الحالة نكون أمام تغيرات أيديولوجية وجذرية. لهذا ما ميز الداعين إلى تبني المنظور الجوهراني هو تجاهلهم لسياق الدولة الحديثة؛ أو حتى عدم التمييز بينها وبين النظام السياسي ونظام الحكم، على سبيل المثال؛ الدعوة إلى الدولة الإسلامية على منهاج النبوة أو الدعوة إلى الخلافة على سير الصحابة هو دعوة تأسيسية نحو نموذج مغاير للدولة. والدعوة إلى تطبيق الاقتصاد الإسلامي هو دعوة إلى تغيير النظام الاقتصادي الذي هو جزء من النظام السياسي والذي قد يصلح في حالة تكيف النظام، في حين الدعوة إلى التغيير على مستوى الحكم فهو مجال مفتوح أمام المنافسة السياسية بين مختلف الأحزاب السياسية.
من جهة أخرى؛ في سعيها لترسيخ نمط جديد من الحوكمة Governance تكون فيه السلطة قائمة على معايير الدولة الحديثة، ويكون الشعب فيها مصدر حقيقي للسلطات، فإن على الأحزاب الإسلامية الدفع في اتجاه ترشيد الحكم بأبعاده المكونة له وهي؛ الحكومة، المجتمع المدني، والقطاع الخاص، لهذا تتطلب أي سياسة أو نظام حكم جيد مشاركة نشطة بين المجموعات الثلاثة من أصحاب المصلحة Stakeholders، عبر تفعيل الديمقراطية التشاركية كبديل عن الديمقراطية التمثيلية التي أبانت عن أوجه قصور وعجز في حل أزمة السلطة وأزمة المشاركة، لذا فالتشاركية في الحكم لا تشكل بديلاً عن الديمقراطية التمثيلية، كما لا تهدف إلى ضمان نزاهة العملية السياسية فقط، بل إلى تعزيز مبدأ الحكامة الجيدة من خلال ثنائية الكفاءة والاستحقاق من جهة، وثنائية المسؤولية والمحاسبة من جهة أخرى. لتتشكل بذلك مشروعية جديدة ليست قائمة على إرادة الأفراد وأحقيتهم في التمثيل التي هي معطى سلفاً، بل على أساس وظيفي يتم فيه ربط المشروعية بالنتائج، أي أن المشروعية في الأخير هي الميكانيزم الذي يتم بواسطته تقديم الحاكم حصيلة عمله للمحكومين، مما يدفع بالفاعلين المحتملين لتقديم مواقف ورؤى بديلة.
تتيح الديمقراطية التشاركية لدى الأحزاب الإسلامية إمكانية الاندماج في المشهد السياسي بما تحمله من احتمالات إنشاء مساحات مشتركة للتقارب سواء مع النظام السياسي فيما يتعلق ببناء قدراته، أو في إطار بناء تحالفات عبر أيديولوجية Cross-ideological alliances هادفة لترشيد الممارسات السياسية، هنا تسمح للأحزاب الإسلامية بتقديم نفسها كقوة طرح بديلة لما يمكن أن تقدمه من سلع سياسية ذات جودة تعكس مقاصد الشريعة وفي نفس الوقت تعطي لها الفرصة لمأسسة هذه المقاصد ضمن قواعد دستورية واضحة، تكون فيه هذه الأخيرة ضمن المواد الصماء التي لا تخضع لمزاجية السلطة وتقلباتها.
في أي نظام سياسي، غالباً ما تعمل الأحزاب السياسية في بيئة يميزها التعقيد الدائم وعدم الاستقرار، فالتغير هو سمة ثابتة لا مفر منها، نتيجة لتغير القواعد الدستورية والقوانين المتعلقة باللعبة السياسية، كما قد تتغير رؤية الناخبين، سواء ككل أو في إطار دوائر انتخابية معينة، أو قد تضع أي تحولات سياسية أو اضطرابات أمنية داخلية أو إقليمية الأحزاب السياسية أمام مسؤولية التعامل مع القضايا المستجدة عنها، وفي خضم ذلك قد يصعد نجم حزب معين في مقابل تراجع حزب آخر، كما قد تتغير خريطة التحالفات المصاحبة لذلك. هذا قد يطرح إشكالاً حول استراتيجية العمل بالنسبة للأحزاب الإسلامية في حالة العمل ضمن سياق المعارضة (رسمية، راديكالية)، أو في حالة العمل ضمن سياق النظام الحاكم (تحالف مع النظام الحاكم)، ذلك أن تبني أي اتجاه معين تترتب عليه نتائج ليست بالضرورة في صالح الأحزاب الإسلامية.
وبالعودة إلى مجريات الربيع العربي، لا شك أن صعود الإسلاميين كان تلقائياً، وبدون وجود أي خطة استراتيجية معدة سلفاً، فنتج عنه عدم القدرة على التأثير في نتائجه، وليتبين فيما بعد أن تلك التحولات لم تكن فرصة لها بقدر ما كانت ضارة للأحزاب الإسلامية، نظراً لعدم تقدير حجمها وكذا حدود القوة بالنسبة للجهات الداخلية والخارجية الفاعلة فيه.
لذا فباستخدام (تحليل السوات SWOT Analysis) كنموذج تقييمي أمكن تحديد نقاط القوة Strenghts، الضعف weaknesses، الفرص Opportunities والتهديدات Threats التي محتملاً تؤثر على استراتيجية عمل الحركات الإسلامية ضمن النسق السياسي، ولأجل فهم البيئة الداخلية والخارجية التي تعمل ضمنها هذه الحركات الاسلامية، فإنه من الضروري بالنسبة لهذه الحركات الأخذ بعين الاعتبار التحليل الرباعي بهدف تعزيز أدائها والاستجابة السريعة للظروف المتغيرة عبر التعامل مع ما وقع وما يحتمل أن يقع مستقبلاً بفعالية أكبر بهدف الاستمرارية على المدى المتوسط والبعيد.
إن دعوة آصف بيات في أطروحته “ما بعد الإسلاموية” بالتركيز على الاشتباك السياسي الداخلي بدلا من تبني المنظور الجوهراني، هي دعوة للانتقال نحو مجال سياقي ليس للحركات الإسلامية تقاليد فيه، مما يقتضي قبل ذلك إعادة تقييم الأداء لدى الأحزاب الإسلامية من حيث نقاط القوة، الضعف، الفرص والتهديدات التي هي مسؤولية لدى هذه الأحزاب، وذلك لأجل فهم بنيتها وسلوكها الموجه في ظل بيئة تتميز بالتغير الشديد في اتجاهات غير متوقعة، أي أنه بمثابة تخطيط استراتيجي قائم على التصرف بفاعلية ومن منطلق واع، مع الأخذ بعين الاعتبار المتغيرات الداخلية والخارجية الواسعة.
[1] . F. G. Castles, The Political Functions of Organized Groups : The Swedish case, The open university, March 1, 1973, PP 26- 34.