الحركات الإسلامية
سياق مجتمعي ونسق فلسفي
الأستاذ نزار كريكش – أكاديمي وباحث ليبي
تعددت التفسيرات والتأويلات لمسار الحركات الإسلامية ولاسيما جماعة الإخوان المسلمون بعد الهزات التي شهدتها الثورات التي انطلقت في تونس ومصر وليبيا وسوريا واليمن والسودان والجزائر ولبنان؛ لكننا رغم كل ذلك الزخم لا زلنا لا نملك نموذجاً متماسكاً يمكن أن يشكل إطاراً قادراً على تفسير التحولات التي تشهدها ظاهرة الحركات الإسلامية في المنطقة. في هذه الورقة نحاول أن نضع إطاراً يمكن من خلاله تفسير التحولات التي تشهدها هذه الحركات. إن فهم الحركات الإسلامية في سياق النظرية العلمية التي تحكم العالم قد يكون أحسن تفسيراً. إنها تفترض أن الحركات الإسلامية تمر بالمراحل التي تمر بها أي فكرة؛ بداية بالتطورية في علم الاجتماع التي تسربت للمصلحين الأوائل، وقد تحولت هذه النظرية لنموذج سائدٍ حصر الحركات الإسلامية في أيديولوجيا مغلقة، الأمر الذي ظهر جلياً في الصراع العنيف المرير في الخمسينيات والستينيات بين التيار الإسلامي والتيار القومي. مما يعني أن الأزمة الأخيرة تأتي في إطار تغيير في نموذج النظريات الإصلاحية الحاكمة، فبعد الجدلية بين النموذج الذي وضعه حسن البنا وتحول النموذج في بنيته الفكرية لأيديولوجيا مع سيد قطب ساد هذا النموذج لعقود، لكن التغيرات التي شهدها العالم في تسعينيات القرن الماضي جعلت هذا الفكر يبحث عن نموذج أكثر تفسيراً ومواءمة للواقع.
جاءت الاحتجاجات التي اجتاحت المنطقة، لتنبه بطريقة مباشرة لضرورة وجود نموذج ثوري جديد ينبئ بخروج تيارات جديدة فيما يسمى مرحلة ما بعد الإسلام السياسي. هذا المصطلح استخدمه أكثر من باحث، لكن السياق كما سنرى مختلف تماماً، فهو يعني أن نموذجاً جديداً للنظرية التي تحولت لنموذج سائد منذ الخمسينيات قد وُلِدَ وأنَّ طورها القديم بدأ في التنحي لصالح نماذج أخرى تناسب التحولات التي يشهدها العالم- دون الحديث عن ثوابت وقيم تمثل صلب النماذج المكونة-.
نحتاج إذاً لدراسة المداخل المختلفة لفهم ظاهرة الإسلام السياسي أو الحركات الإسلامية -وسنستخدم المصطلحين ونعني بهما المعنى ذاته وهي الحركات التي تسعى لتحقيق دولة إسلامية تلتزم بقيم الإسلام وحضارته دون أن ندخل في تفاصيل صوابية مصطلح الإسلام السياسي من عدمها، إذ الهدف هو التفكيك والتفسير وليس التقييم- ثم ربطها بنظرية الحركات الاجتماعية ومعرفة مآلاتها. ومن ثم عرض إمكانية وجود نموذج مجدد يخرج هذه الحركات من أزمتها، فالأفكار لا تموت لكنها تتناسخ وتنشأ في أطوار مختلفة نسميها نماذج.
ولكي نصل لفهم أعمق نحاول أن نتدرج في الحديث عن ظاهرة الإسلام السياسي وعن المداخل المختلفة لفهم هذه الظاهرة. ثم نحاول أن نربط ذلك بفلسفة العلم، والتعامل مع هذه الظاهرة كنموذج فكري سائد، أي تحول إلى أيديولوجيا. ونحاول كذلك أن نبين كيف تحولت هذه الأيديولوجيا- وأقول الأيديولوجيا وليست الحركات نفسها – لظاهرة أشد خطورة وهي الإرهاب. وأن تغيير هذا النموذج قد يخفف من هذه الظاهرة الخطيرة. كما أنه قد يساعدنا في فهم بعض التغيرات التي تشهدها هذه الحركات. ومن ثمّ يمكننا توقع الصورة النهائية التي ستكون عليها هذه الحركات في ضوء تغير المجتمع وبناء مؤسسات الدولة وليس العكس.
قبل أن نفصل في هذا النموذج التفسيري سنضع إطاراً نظرياً يفسر كثيراً من المصطلحات التي ذكرت للتو، ثم نعود للنظر للحركات الإسلامية من خلال سياقها المجتمعي، ولماذا اختلفت من دولة لأخرى، وتأثير ذلك السياق على النسق الفلسفي الذي تدرج من نموذج ثوري مع حسن البنا، ثم تحول إلى نموذج سائد مع سيد قطب، ووصل إلى مرحلة أزمة فكرية خانقة بعد تبدل كثير من المسلمات التي بنيت عليها الفكرة بسقوط الاتحاد السوفياتي والثورة الهائلة التي شهدتها فلسفة العلم والعلوم الاجتماعية التي برزت في التسعينات.
إطار معرفي
يمكننا في هذا الإطار أن نبين المعالم الأساسية لنظرية الحركات الاجتماعية وكذلك فلسفة العلم في نظرية توماس كون حول النماذج الثورية والسائدة. والهدف هو أن يكون لدينا مدخل لدراسة الحركات الإسلامية فكثيراً ما يكون المدخل هو السبب في عدم القدرة على التفسير، لكننا نعتقد بدمج هاتين الأداتين قد نكون أقدر على إدراك التحولات التي تشهدها الحركات الإسلامية فهي من جانب تتأثر بالواقع الثوري الذي نعيشه ويعيشه العالم أجمع، وينعكس كل ذلك على رؤيتها للتغيير والمجتمع من حولها، وبقدر التناسق بين الاثنين يمكن تصور مسار هذه الحركات وقدرتها على البقاء وسط هذه التحولات. دعنا في البداية نتحدث عن الحركات الاجتماعية، ثم ننتقل للحديث عن النماذج عند توماس كون، وتتولى باقي الورقة إسقاط ذلك على مسار الحركات الإسلامية.
ما هي الحركات الاجتماعية؟
قد يساعد مدخل الحركات الاجتماعية في التمييز بين الحركات العنيفة وغيرها من الحركات المعتدلة التي ترتبط بمفهوم الأغلبية على اعتبار أن الوصول لكتلة تاريخية ترتضي الشريعة والتغيير الإسلامي فإنه يعني التغيير في إطار السلطات الحاكمة، حسب الأدبيات التي سادت في الحركات الإسلامية المعتدلة. لكن ماهي الحركات الاجتماعية وهل يمكن أن نعتبر بسهولة أن الحركات الإسلامية حركات اجتماعية. تعريف الحركات الاجتماعية الذي ذكره تشارلز تيلي هو تعريفها الكلاسيكي: هي عمل جماعي مقصود بهدف التغيير في أي اتجاه وبأية وسيلة لا تستثني العنف أو الخروج عن الشرعية بالثورات أو بالانقلاب من أجل مخيال أو يوتوبيا مجتمعية. والحركات الاجتماعية يحب أن تتضمن خليطاً من تنظيم بطيف واسع من التجمعات غير المحكمة إلى الجماعات المنظمة تنظيماً جزئياً إلى البيروقراطيات والمؤسسات والتحالفات الكبرى…)[1].
لذا يمكن تعريفها أنها: التحديات الجمعية التي تقع تحتها مجموعة لها أهداف محددة وتضامن مجتمعي في تفاعل مستمر بين المتضامنين والمعارضين والسلطات)[2]. لكن التعريف قد لا يكون مهماً إلا بقدر ما يعضد بنموذج الحركات الاجتماعية التحليلي: فالتعريف الأول يسع كثيراً من الظواهر التي قد يعتقدها البعض خارج إطار الحركات الاجتماعية كالثورات. فشرط التنظيم قد لا يتوفر فيها، لذا فالتعريف حسب التحليل لنشأة الثورات[3] يؤكد تأثير القوى الفاعلة سياسياً مثل التنظيمات على الحركات والانتفاضات والثورات. أما التعريف الثاني فيرتبط بالفرصة السياسية والسياق الذي قد ينشئ هذه الحركات.
فالحركات الإسلامية هي حركات اجتماعية، لها هدف محدد ويوتوبيا تسعى إليها. كما أنها تسعى لإثارة المجتمع وتحريك الجماهير وفق الأهداف التي وضعتها. ولها كذلك تنظيم وموارد، فعندما عرض مجموعة من الناشطين والفضلاء تكوين جمعية تعمل من أجل الإسلام رفض الإمام حسن البنا الشكليات في تسميتها جمعية أو تجمع أو مؤسسة.3 بل وصف الجماعة بأنها روح يسري. وذلك أبلغ في تأكيد أن أم الإسلام السياسي أو أم الحركات الإسلامية هي حركة اجتماعية تسعى لأن تكون حراكاً مجتمعياً: (الحركات الإسلامية تسعى لتشكيل كتلة تاريخية مضادة للسلطات الحاكمة المتمثلة في السلطات العلمانية في الشرق الأوسط) [4].
ومن أجل تحليل أوسع لفهم ما هي الحركات الاجتماعية: سنجد عدة نماذج تفسيرية تدرجت من التفسير الكلاسيكي الذي ينظر إلى الفرصة السياسية إلى المنظور الأوسع للسياق السياسي ثم إلى الثقافة السائدة داخل هذه الحركات. ويمكن لهذه النماذج أن تؤكد أن هدف الحركات الاجتماعية النهائي هو تحريك الجماهير نحو هدف محدد.
ولقد كان النظر السائد إلى الحركات الاجتماعية يعتبرها حركات غير عقلانية وغير منظمة ولا يمكن اعتبارها ظواهر يمكن تفسيرها. وحاول البعض أن ينتبه لما يجمع المتظاهرين أو المنتفضين أو الحركات العمالية ويستنتج من ذلك حالتهم الاجتماعية أو ميولهم الأيديولوجية. كل هذا لم يحظ بقدرة تفسيرية حقيقية. من النظريات التي استطاعت أن تنظر إلى الحركات الاجتماعية كحركة يمكن تفسيرها هي النظرية التي تنظر إلى الموارد وكيفية استخدام الحركات لها وإلى مدى خضوع هذا الاستخدام لحسابات عقلانية: resources mobilization theory. فالمشاركون في الحركات الاجتماعية لهم حسابات عقلية ترتبط بجدوى المشاركة في الحركات الاجتماعية. لكن هذا سيعتمد على سياق سياسي: political process قد يسمح للمشاركين بتوقع نجاح هذا الحراك. كأن يكون هناك ترهل في النظام السياسي أو انفتاح مزعوم أو غير ذلك مما يسميه المنظرون فرصة سياسية: Political Opportunity. في سياق حديثنا عن الحركات الإسلامية سنعرض للفرصة السياسية التي أتيحت للحركات الإسلامية لاستغلال الموارد المتاحة ومن ثم تكوين المؤسسات التي شجعت على انتشار هذه الحركات[5]. بالطبع هناك من يربط بين الحركات الاجتماعية والأيديولوجيا من خلال التعويل على وجود نظام فكري قد يكون حافزاً للحراك المجتمعي حسب بعض أعمال جرامشي عن الكتلة التاريخية.
الفرصة السياسية: Political Opportunity كنظرية تعرضت للنقد هي الأخرى. فالحديث عن فرصة سياسية ربما يعني الفرصة التي تجعل من المجتمع يتضامن حول قضية بعينها وهذا قد لا يعني أمراً سياسياً بالضرورة. وقد تكون الفرصة تتعلق بالتنظيم أو الموارد أو تغير النظام… وهكذا يصبح المعنى غير واضح وغير دقيق. من هنا كان النموذج الذي يحاول أن يتلافى بعض الثغرات في نظرية الفرصة السياسية وهو نموذج السياق السياسي.
السياق السياسي والاجتماعي: يفسر هذا النموذج الحركات الاجتماعية عبر مركب مكون من ثلاثة عناصر: الفرصة السياسية ـ تركيبة الحراك ـ النموذج الثقافي المسوغ لهذا الحراك. وهذا يعني أن الحركات السياسية قد ترتبط بمدي توفر وجدوى الفرص السياسية المرتبطة بالتغيرات الاقتصادية والاجتماعية، وكذلك وجود تنظيم محكم وثقافة تشكل المساحة التي تحاول أن تقنع المجتمع بالتغيير والتنظيم أو الحراك. هذا الأمر قد يجعلنا نسترجع تاريخ الحركات الإسلامية وعلاقتها بالنظم السياسية في العالم الثالث وقوتها وضعفها خلال هذا التاريخ. مما يؤكد أن هذا المدخل قد يكون أقدر على تفسير الحركات الإسلامية من المداخل التي تحاول أن تدرس أو تقيس الحركات الإسلامية بمدى توافقها مع قيم الحداثة أو معايرتها بالشعارات التي ترفعها.
لا ينظر المدخل الثقافي للحركات الاجتماعية إلى تركيب هذه الحركات بل إلى قضاياها التكوينية: كالهوية والقيم والتكوين العاطفي والمعرفي. وهذا كمن يحاول تفكيك المحتوى الشعري لشعر المتنبي أو شوقي ويحاول أن يعيد بناء الكلمات وليس دراسة النص في صورته المتكاملة ومحاولة البحث عن النماذج البلاغية والنحوية وتطبيقها على تلك القصيدة. في المدخل الثقافي تفكيك للحراك المجتمعي إلى صوره الأولى: الهوية الجامعة والعاطفة الناشئة والثقافة الخاصة والرغبات الواصلة بين أفراده والمستقبل الذي يشكل مخيال تلك المنظمة… كل ذلك قد يفيد في فهم كثير من المسائل التي تتعلق بالحركات الإسلامية. فكل من يعايش هذه الحركات يمكنه فهم قدرة هذا المدخل على كشف كثير من القضايا التي قد تشكل حاجزاً بين الحركات الإسلامية والمجتمع. ويفهم أن ذلك طبيعي في إطار هذا المدخل التفكيكي.[6]
تطرح هذه الورقة سياقاً مجتمعياً اختلفت فيه الحركات الإسلامية في تكوينها ونشأتها باختلاف المجتمعات والنظم السياسية التي نشأت فيها. كما أن ذلك السياق قد شكل نسقاً ثقافياً ونفسياَ مختلفاً لهذه الحركات: فقد ترى ميلاً للعنف مع الحكام أو مهادنة أو قدرة على سياسة الأمور في بلد دون آخر.
ليس القصد هنا تفصيل هذه النظريات، لكن هذا الإطار قد يكفينا لتصور وضع الحركات الإسلامية كحركة اجتماعية، وهذا قد يعفينا من مداخل أخرى تحاول أن تحاكم هذه الحركات إلى الشعارات الإسلامية التي ترفعها. فيبدو المنهج الفقهي هو السائد في مسائل سياسية واجتماعية: فيقال مثلاً ما علاقة الديمقراطية بالإسلام؟ أو بالفردانية الليبرالية أو بجواز الدخول في الانتخابات. كل هذه المسائل وغيرها كثير قد تكون قضايا فكرية ثقافية لا يمكنها أن تتصور طبيعة الحركات الإسلامية في حركة المجتمع ككل. بل تمثل محاولة البعض معايرة هذه الحركات بالقيم الإسلامية. ومن ثم يصبح نموذج الصدر الأول أو مؤشر تطبيق الإسلام هو النموذج الذي تقيّم به حركات اجتماعية لا ينبغي أن تكون هي الإسلام أو حتى ممثله الوحيد. فالحضارة الإسلامية التي تعاني أسوأ حالاتها ويمثلها أكثر من مليار مسلم وفيها عدد غير قليل من دول ذات إمكانات ومؤسسات قد تبدو فيها هذه الحركات جزءاً ضئيلاً من حراك تاريخي كبير يمثل تاريخ العالم قبل تاريخ الحضارة الإسلامية.
وتبدو أهمية هذا المدخل في القدرة على تفسير كثير من الظواهر التي مرت بها الحركات الإسلامية في تاريخها: كتغير الخطاب والصراع مع الأنظمة وعلاقتها ببعض الحركات الانقلابية والمظاهرات والثورات. كل ذلك لا يمكن تفسيره إلا باعتبار الحركات الإسلامية حركات اجتماعية قد ينطبق عليها تاريخ الحركات الطبيعي. لكن السؤال أين نضع الأفكار والقيم التي بنيت عليها هذه الحركات؟
النسق الفلسفي
هناك مدخل جديد لدراسة الحركات الاجتماعية يستند للثقافة التي تنشأ داخل هذه الحركات الاجتماعية. ورغم أن البعض يضعه ضمن مدخل هذه الحركات التفكيكي، إلا أن الدراسات التي حاولت معرفة سياق الدولة كمؤسسات أو كهوية جامعة وكذلك الحركات الاجتماعية لم تخضع لدراسات تجريبية كافية، فلم تجب على العلاقة بين المدخل الكلاسيكي الذي يرتبط بالتنظيم والموارد وبين ثقافة التنظيم. وهل يمكن أن تمر هذه العلاقة دون تغيير في أصل هذا المدخل؟ كيف يمكن للمدخل الثقافي أن يساعد في فهم الحركات الاجتماعية أو الحركات الإسلامية؟ هل يمكن لهذا المدخل الثقافي أن يكون عاملاً مساعداً في القضايا التي قد نعجز عن تفسيرها في مسار الحركات الإسلامية؟ فمثلاً لاحظ شادي حميد في كتابه عن الحركات الإسلامية أن نظرية الإقصاء والاحتواء لم تكن بنفس النسق النظري المفترض: فرغم القمع الذي تعرضت له الحركات السياسية الإسلامية إلا أن ذلك كان سبباً في مزيد من الاعتدال والاتساق مع قيم التعددية والتسامح السياسي.[7] وهذا الأمر قد لا يتسق مع الحديث عن العملية السياسية التي قد تفترض ردود فعل مغايرة، وقد يفسر الأمر على أن الاعتدال في مواجهة القمع هو محاولة لاسترضاء الدولة وبيان خطأ اتهامها الحركات الإسلامية بالعنف والإرهاب، لكننا نظن أن الأمر قد يوضع في إطار أوسع أو على الأقل هكذا نفترض.
المدخل الثقافي قد نعبر عنه بطريقة أخرى وهو النموذج الذي يشكل ثقافة المؤسسة أو الحركة. هذا النموذج نفترض أنه يمر بما يمر به أي نسق فكري أو نظرية. ومن ثم فكما أن هناك سياقاً مجتمعياً أثر في الحركات الإسلامية فإن هناك نسقاً فلسفياً وسيناريوهات رسمت مخيلتها narrative ويمكن تتبع ذلك في التاريخ الثقافي: أي في إنتاج الحركات الإسلامية الفكري. ووفق هذا الدراسة فإن هناك:
– 1 نموذج ثوري: ابتدأه الإمام جمال الدين الأفغاني. وتعزز مع حسن البنا وحركة الإخوان المسلمون خاصة في منحاه الحركي الذي ينطلق من الفرد وينتهي بالخلافة الإسلامية. هذا النموذج قد تأثر بالنظرية الاجتماعية التطورية لهيربرت سبنسر. وقد صمم من أجل بناء الفرد ضمن وسائل أعدت لذلك. وتأثر كذلك ببعض الفرضيات التي كانت سائدة عن الخلافة ومفاهيم عن الديمقراطية والعلمانية وعلاقة ذلك بالتحول الذي شهدته الأمة.
2 – نموذج سائد: وهو النموذج الذي يسود ويصبح كمنهج النظرية الثورية المدرسي. بمعنى أن تستقر الأمور على نظرية واحدة تصبح هي الخارطة التي تتحرك بها الحركة. وهذا النموذج السائد قد ساد مع سيد قطب وصار هو الأساس في كثير من الأعمال التي تلت ذلك. وقد بين شادي حميد الانطلاق من مسألة الشريعة من خلال استعراض مشاركات الحركات الإسلامية الانتخابية. وحتى كتب محمد أحمد الراشد ومن قبله سعيد حوى لم تكن سوى نماذج مدرسية لمدخل الشريعة والعداء العالمي للإسلام.
3- مرحلة الأزمة: وفي هذه المرحلة يصعب على الفكر أو النظرية تفسير بعض القضايا التي تواجه المجتمع أو الحركة. ومن ثم تدخل الحركة في أزمة تتمثل في عدم مطابقة النموذج للحركة أو الواقع. هذه الأزمة تعني أن هناك تناقضاً بين النموذج السائد وبين الواقع وعجز النموذج عن تفسير الواقع. هذه المرحلة بدأت مع سقوط النموذج السوفياتي، والذي غير كثيراً من المفاهيم التي كانت سائدة في السبعينات والثمانينات. فالدولة التي تملك حق التشريع وتسعى من خلاله لمعدلات نمو تثبت صحة التوجه الاشتراكي في وجه الليبرالية قد سقطت وهوت. كما أن أسطورة إمكانية فصل الدين عن العلاقات الدولية والسياسات المحلية بدت هي الأخرى ساذجة ومن ثم صار لزاماً على الإسلام السياسي تعديل النموذج.
هذا التعديل لم يطل النموذج وظل حذراً من الاقتراب منه لذا تدعو الورقة لتغيير هذا النموذج حتى تتميز المعضلة التي تعاني منها الحركات الإسلامية ويتحدد مكمن الداء فيها. فالخلل ليس في الإسلام وقيمه، ولا في قيم العدل وإسهام التربية في تغيير المجتمعات، ولا في ضرورة النضال والكفاح من أجل الحرية وإحياء الحضارة الإسلامية. والخلل كذلك ليس في المؤسسة والقضايا المؤسسية التي تعانيها الحركات الإسلامية. والخلل أخيراً ليس في القيادات بل الخلل الأساسي في النموذج الحاكم المرتبط بنظرية تدعي أن الفرد هو أساس تكوين المجتمعات والدول. نعم قد يكون في فهم بعض القيم إشكال. وثمة كذلك خلل أكيد في المؤسساتية داخل الحركات الإسلامية. كما أن بعض القيادات تعاني من تناقضات كبيرة في سلوكها. لكن حجم ذلك الإشكال لا يمكن أن يفسر تأزم الإسلام السياسي ولا يمكنه كذلك أن يعطينا نموذجاً نتوقع به مسار هذه الحركات الاجتماعية.
سياقات النموذج التغييري عند حسن البنا
السياق الذي نشأت فيه حركة الإخوان المسلمون قد أعطاها زحماً كبيراً، فسقوط الدولة العثمانية ونهاية نظام الخلافة الإسلامية قد هز العالم الإسلامي والخارطة الجيوسياسية للمنطقة، لذا فإن السؤال الذي بدأ يلح على عقول المفكرين والمصلحين كيف يمكن أن يلحق المسلمون بركب الحضارة، وتبنى جماعة من المصلحين الجامعة الإسلامية وحلم عودة الخلافة حتى وإن لم تكن عبر عودة الدولة العثمانية، هذا الجدل جعل للفكر الإصلاحي سياقاً سياسياً وفرصة سياسية مكنته من الانتشار وأن يكون محل جدل حقيقي بين المفكرين والمصلحين. لكن دعنا لا ننسى أن كل تلك الأفكار قد تأثرت بمجموعة مسلمات علمية سادت في علوم البيولوجيا والفيزياء وعلم الاجتماع، أي أن الخارطة الذهنية لهؤلاء المصلحين واحدة وهي النظرية التطورية الاجتماعية التي سادت علوم الاجتماع في تلك الفترة.
بعض الدراسات ذكرت الأعداد التي كتبتها مجلة المقتطف حول نظرية النشوء والارتقاء واستمرت في نشرها لفترات طويلة.[8] وسنرى لاحقاً كيف حاول مصلحون كمحمد عبده ورشيد رضا بيان أن هذه النظرية لا تتعارض مع تفسير القرآن للنشوء والحياة والحكومة الإسلامية وفق شرائع الإسلام ونظمه. لكن ُكتّاباً كُثُر على رأسهم شبلي شميل (1870-1915) الذي أدخل هذا المذهب للعالم العربي وكتب عنه، وموسى سلامة (1887-1958) وغيرهم توجههم واضح في أن الدولة القومية والعلمانية هما السبيل للارتقاء وملاحقة الغرب الذي سبق العالم العربي. من هؤلاء مثلاً متري قندلفت الذي اشتهر بالربط بين النشوء والارتقاء بالمعنى البيولوجي والتطورية الاجتماعية التي من رموزها هربرت سبنسر والتي أثرت في جميع المصلحين – بما فيهم ممثلي التيارات الإصلاحية. لا بأس هنا أن نذكر ما يدلل على ذلك، الأفغاني في رسالة الرد على الدهريين يصب جام غضبه على داروين ثم نجد القبول بالنظرية في كتابه الخاطرات[9] وفى هذا يقول: “إننا إذا أخذنا النبات رأينا القوة أشد وضوحاً فيه. فإنك إذا غرست نباتات عديدة في بقعة واحدة من الأرض ليس فيها من الغذاء ما يكفي الجميع ترى تلك الأحياء النامية تتنازع فيما بينها ولا يمضي زمن حتى يبلغ البعض أشده من النمو …” ص443
بل إنه يؤكد التطور ويذكر الأقوال السالفة التي تدل عليه. فيستدل بأبي بكر بن بشرون والمعرى في إثبات هذا التطور. وفى ذلك يقول: “فإذا كان بناء مذهب النشوء والارتقاء على هذا الأساس، فالسابق فيه علماء العرب.”[10]
أما محمد عبده فإنه تأثر بهربرت سبنسر في لقائه به في 10 أغسطس 1903 في برايتون بجنوب إنجلترا. ويذكر رشيد رضا كيف توقع سبنسر خسارة فرنسا فى حربها مع إنجلترا لطبيعة التربية الاستبدادية التي ترباها الفرنسيون. ويؤكد رشيد رضا هذه الفكرة في تفسيره لسورة النساء. ويذكر بكثرة سنة التنازع والانتخاب الطبيعي والتربية كأساس لبناء الأمم. أو الفرد كيف يبنى الأمة.[11]
إن التركيز على التربية باعتبارها العامل الأساسي والوحيد، وبناء الفرد الذي هو أساس الإصلاح عند محمد عبده نتج عن هذا التصور الذي أطال رشيد رضا إثباته بالأدلة التاريخية سواء عند ابن خلدون أو في الأوضاع الصعبة التي تربى فيها الفرنسيون بعد نابليون أو في تأثير استبداد الخديوي إسماعيل على قوة وبأس المصريين كما ذكرنا سابقاً. وهذه الفكرة هي التي جعلت التيار الليبرالي يرى ضرورة التكيف مع البيئة بصناعة هذه البيئة واستجلابها من الغرب والتخلص من كل ما يعوق تكوين هذه البيئة عن حدوث التطور. وهذا التطور هو الذي جعل الإيمان بالعلم والتطور لا يناقض الشريعة الغراء كما جادل الأفغاني الذي آمن بذلك ووضحه بطريقة فلسفية واضحة لا تحتمل الشك في كتبه. هذا قد يبين الإصرار على مصطلح الفرد والاهتمام بالفرد عن حسن البنا لكن هل هناك علاقة بين فكر حسن البنا ومدرسة المنار، الإجابة نعم حسن البنا يؤكد في مذكرته أنه ابن مدرسة المنار وأن مشروع استكمال لهذه المدرسة، وإذا تدبرنا فكر حسن البنا سنجد أن النموذج المعرفي هو الإطار الذي جمع كل الأفكار التي سبقته، والنموذج المقصود هو البنية المبسطة التي تبين رؤية المفكر للكون في دينامية حركته هل هو خطي أم دائري أم مجموعة من الأحداث المركبة، وهذا مجال رحب لكن هذا البيان يكفي هنا لنميز بين الفكر الذي يعبر عن القيم والرؤية الكونية وبين النموذج الذي يأخذ شكل سردية أو ما فوق السردية لتفسير الكثير من الأحداث والتحولات التي يشهدها المجتمع. نرى أن النموذج الذي طرحه حسن البنا هو ما يعرف بمراحل العمل والذي فصله بقوله:
- إصلاح نفسه حتى يكون: قوي الجسم، متين الخلق، مثقف الفكر، قادرًا على الكسب، سليم العقيدة، صحيح العبادة، مجاهدًا لنفسه، حريصًا على وقته، منظماً في شؤونه، نافعاً لغيره؛ وذلك واجب كل أخ على حدة.
2) وتكوين بيت مسلم، بأن يحمل أهله على احترام فكرته، والمحافظة على آداب الإسلام في مظاهر الحياة المنزلية وحسن اختيار الزوجة، وتوقيفها على حقها وواجبها. وحسن تربية الأولاد والخدم وتنشئتهم على مبادئ الإسلام؛ وذلك واجب كل أخ على حدة كذلك.
3) وإرشاد المجتمع بنشر دعوة الخير فيه، ومحاربة الرذائل والمنكرات، وتشجيع الفضائل والأمر بالمعروف والمبادرة إلى فعل الخير وكسب الرأي العام إلى جانب الفكرة الإسلامية وصبغ مظاهر الحياة العامة بها دائماً؛ وذلك واجب كل أخ على حدة، وواجب الجماعة كهيئة عاملة.
4) وتحرير الوطن بتخليصه من كل سلطان أجنبي- غير إسلامي- سياسي أو اقتصادي أو روحي.
5) وإصلاح الحكومة حتى تكون إسلامية بحق؛ وبذلك تؤدي مهمتها كخادم وأجير عندها وعامل على مصلحتها. والحكومة الإسلامية ما كان أعضاؤها مسلمين مؤدين لفرائض الإسلام غير مجاهرين بعصيان، وكانت منفذة لأحكام الإسلام وتعاليمه. ولا بأسَ بأن نستعين بغير المسلمين عند الضرورة في غير مناصب الولاية العامة ولا عبرة بالشكل الذي تتخذه ولا بالنوع، ما دام موافقًا للقواعد العامة في نظام الحكم الإسلامي. ومن صفاتها: الشعور بالتبعة، والشفقة على الرعية، والعدالة بين الناس، والعفة عن المال العام والاقتصاد فيه. ومن واجباتها: صيانة الأمن، وإنفاذ القانون، ونشر التعليم، وإعداد القوة وحفظ الصحة، ورعاية المنافع العامة، وتنمية الثروة وحراسة المال، وتقوية الأخلاق، ونشر الدعوة. ومن حقها- متى أدَّت واجبها- الولاء والطاعة، والمساعدة بالنفس والأموال. فإذا قصرت، فالنصح والإرشاد، ثم الخلع والإبعاد، ولا طاعةَ لمخلوق في معصية الخالق.
6) وإعادة الكيان الدولي للأمة الإسلامية، بتحرير أوطانها وإحياء مجدها وتقريب ثقافتها وجمع كلمتها، حتى يؤدي ذلك كله إلى إعادة الخلافة المفقودة والوحدة المنشودة[12].
ولنا أن نسجل هنا ملاحظات مهمة لسياق بحثنا:
- سيطرة الفكر المرحلي، وهو الأمر الذي قد ساد في تلك المرحلة والنظر للمسيرة الخطية للتاريخ أو التاريخ الدوري عبر مراحل مسبقة.
- اعتبار الفرد ولم يقل الإنسان أساس بناء المجتمع وهذه عين نظرية هربرت سبنسر التي أعجب بها الإمام محمد عبده.
- التربية وهي المراحل الثلاث: التعريف والتكوين والتنفيذ هي القضية الأساسية التي تنطلق من دائرة لأخرى.
- جمع حسن البنا بين الثورة والإصلاح، ولكنه أقرب للإمام محمد عبده في التركيز على التربية أولاً، ثم استعمال طرق أخرى سماها الخلع والإبعاد. واستعمال القوة بعد الإنذار والتحذير. وهو بهذا يجمع بين المنهج الإصلاحي والثوري. وإن كان الأول هو الأساس والآخر ضرورة قال عنها: آخر الدواء الكي.
- عدم وضوح مسألة الشريعة وتطبيق الأحكام والحدود بالطريقة التي عرضت من بعده كجوهر للفكر الذي يطرحه. بل الأساس في فكره هو الإصلاح الشامل. وهذا لا يعني أنه لم يذكر الشريعة بل هي حاضرة وبقوة. لكنها عرضت بشمولها ولم يسم كل ما يقوم به شريعة بل أحكام الشريعة جزء من مشروع النهضة المتكامل. وهذا وجه آخر من الجمع بين الأفغاني ومحمد عبده: فإن الفكر السياسي جزء من عملية التربية وهو ما تطور بعد ذلك ليكون عملاً سياسياً تشكل به الإسلام السياسي.
- أن المرحلة النهائية هي الخلافة. وهذا يعني أن الفهم التاريخي الذي عرضه الشيخ عن الدولة العثمانية، وكيف اطمأنت الأمة للدولة العثمانية، يعيدنا للنقاش حول الخلافة الذي كتب عنه رشيد رضا لكنه الآن لم يعد موضع النقاش بل الاستراتيجية التي يتحرك التنظيم من أجلها. لكن السؤال هل هذه العودة تعني العودة للخلافة العثمانية أم للخلافة كنظام سياسي أم لمعنى أستاذية العالم الذي طرحه الشيخ؟ والظاهر أن كل ذلك قد يكون مقصوداً. فالسياق التاريخي قد يكون مع عودة الخلافة العثمانية خاصة. وأنه يفسر سقوط الخلافة بتأثير قوى عظمى أخري لا يمكن تحديها إلا بوجود قوة إمبراطورية كالخلافة. ولا يظهر من كلام الشيخ الفهم الثاني: أي أن الخلل في شكل النظام السياسي. لكن سياق الشيخ الفكري يبين أن المقصود الأقرب هو مفهوم الأستاذية. والذي يعني أن الحضارة الإسلامية هي القائد للعالم أو القوة العظمى. وهذا لا يعني نهاية التعددية. بل وجود قوة تقود العالم وفق القيم التي تحملها. كما عرف العالم هذه الظاهرة منذ الأزل. هذه الاستراتيجية ستكون محل جدل كبير فيما بعد.
الفرصة السياسية وانتشار الحركة
انتشرت حركة الإخوان المسلمون بشكل لافت في العالم الإسلامي، ففي العام 1930 كان هناك خمسة فروع، في العام 1932 كان هناك 15 فرعاً ذكرها الإمام في مذكراته[13]، وفي العام 1938 كان هناك ثلاثمائة فرع. ورغم صعوبة تحديد عدد الأعضاء إلا أن التقارير المصنفة من الولايات المتحدة الأمريكية تقدر العدد بحوالي خمسين إلى مائة وخمسين ألف عضو من الثلاثمائة فرع. في العام 1949 كان للإخوان ألفا فرع في مصر ـ في وقت كانت الأحزاب الشيوعية تضم من ثلاثة إلى خمسة آلاف عضو وليس فرعاً ـ تضم ما يقدر ب 300،000-600،000 عضو. وهو بذلك التنظيم الأكبر في البلد[14].
هذا الانتشار كما ذكرنا يعود حسب بعض الدراسات: إلى الفرصة أو السياق المجتمعي والاقتصادي، الهيكل التنظيمي، المحتوى الفكري.
السياق والفرصة. ثلاثة أحداث يمكنها أن تشكل السياق الذي شكل الفرصة التي مكنت الإخوان من هذا الانتشار: الأول: تمثل في التدخل الإنجليزي في الشؤون المصرية. والثاني: الظروف الصعبة التي عاشها حزب الوفد وفقدانه الكثير من شعبيته. ثم الثالث: القضية الفلسطينية. فقد كانت بريطانيا ومنذ العام 1882 إلى العام 1952 وهي تحاول الهيمنة على القرار المصري عبر المستشارين الذين كانت لهم اليد الطولى والكلمة العليا في كثير من القضايا.
- الهيكلة والتنظيم: وهذا يبرز في عدة قضايا، خاصة في الكونفدرالية التي شكلها التنظيم بوجود فروع مختلفة لها الحق في الحركة، ولها حق العمل مستقلة إلى حد ما عن المركز. مع وجود تقارير كتب عنها الإمام، وكذلك وجود قدرة هائلة على التواصل مع المجتمع والهيئات الحكومية. الأمر الذي جعل أمر الموارد أمر ديناميكي عزز من مشاريع الحركة التي امتدت لكل نواحي مصر. وتمثلت في المساجد والمستشفيات والمدارس والصحف والمجلات. هذه القدرة على التأثير والحركة تتعزز بقضية مهمة أخرى وهي أن التنظيم الذي يبدأ بنواة هي الأسرة الإخوانية في كل حي يتسع ليكون نواة أكبر هي الشعبة ثم المنطقة… وهكذا كانت الوحدة الفكرية في التنظيم والقدرة على التواجد في أكثر الأماكن ممكنة. وقد ابتدأت الحركة في وادي النيل ثم القاهرة مما جعل التحليل المرتبط بفهم الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية غير صحيح. ولكن الأمر الأبرز هو توفير مجالات الحركة للأعضاء وغير الأعضاء. فعلاوة على وجود مؤسسات للمجتمع – كل المجتمع – كانت هنا مرتبة النصير التي تجعل لمن هم أقرب لفكر الحركة أن يتحركوا في مؤسسات ودوائر خاصة. وجعلت الأعضاء والإخوة العاملين حسب مراتب الإخوان أقدر على التأثير في دوائر أخرى.[15] الأمر الأخر والمهم هو الانطلاق من المسجد. والذي لم يكن في البداية موضع نظر من الدولة. لكن المسجد كان مكاناً هاماً للحشد والانتشار خاصة أن السيرة النبوية ابتدأت من المسجد. وكان بناء مسجد الإسماعيلية وما تبعه من مساجد تعبر عن قدرة الحركة على المزج بين الفكرة والعمل من خلال بناء المؤسسات التي تفتح المجال للحركة.
القيادة الفكرية: وفقا لجرامشي: فإن المجتمعات التي تتصارع فيها الأفكار والأيديولوجيات تتشكل فيها سلطتان. فكما أن السلطات الحاكمة تملك السلطة فإن المجتمع المدني -وهنا يختلف الاصطلاح عن المعنى السائد اليوم -يملك السلطة عبر انتشار فكره في الحيز العام من المجتمع. لكي تنجح هذه القيادة الفكرية حسب جرامشي تحتاج لثلاثة شروط: أولها: أن تكون هناك أيديولوجيا شاملة لكل نواحي الحياة. وثانيها: أن يكون هناك تنظيم قوي، وثالثها أن تكون هناك استراتيجية طويلة المدى. هذه الشروط جعلت البعض يشعر أن ذلك ينطبق على حركة الإخوان المسلمون. خاصة إذا أضفنا ذكر جرامشي لقدرة تلك الحركات على مخاطبة المشاعر.[16]
هذا الإطار، قد يساعدنا في فهم المسار الذي سيتحرك فيه هذا الحراك المجتمعي الذي ابتدأ عام 1928. وكيفية نشأة هذا الحراك والظروف التي نشأ فيها من استعمار وفشل سياسي واقتصادي. والفلسفة التي تداخلت معه وهي التطورية الاجتماعية والتي شكلت الخارطة الذهنية للمصلحين والقدرة التنظيمية والفكرة الشمولية التي شكلت قوة مجتمعية استمرت لفترة طويلة بعد ذلك في المجتمعات العربية بمسارات مختلفة.
النموذج السائد عند سيد قطب
النموذج الثوري الذي جاء به حسن البنا صادف سياقاً مجتمعياً وتنظيماً محكماً فاستطاع الانتشار وفتحت له مجالات ليكون التنظيم الأول في العالم الإسلامي، وهكذا يمكن أن يكون حراكاً مجتمعياً قادراً على الحشد والتأثير، لكن هذا الانتشار لم يستمر كثيراً، فالفرصة السياسية لم تدم خاصة بنشأة أيديولوجيا مضادة وذلك في زمن عبد الناصر. تلك الفترة قد تبين الكيفية التي تجد الحركة نفسها غير قادرة على الحركة وأن مواردها قد تنضب وأن فكرها كذلك قد يتغير. التغير الفكري الذي حدث كان مع سيد قطب، حيث تحول فكر حسن البنا من فكر ثوري بمعنى أنه تصور جديد ينافس التصورات القائمة ويعطي تفسيراً أقوى للواقع والأحداث إلى تفسير أحادي يغلب عليه الصواب والخطأ والحق والباطل ويميل أكثر نحو الاعتقاد منه للتفسير القابل للتعدد. النموذج الظاهر لهذا التحول نجده في مذكرات أحمد عبد المجيد القيادات الإخوانية التي شهدت تلك الفترة حين يقول ((في هذه الفترة وصلت إلينا مخطوطات من الشهيد سيد قطب من السجن أذكر أن بها فكرة عن تكوين الكيان المسلم وتربيته، وفكرة عامة عن المخططات الصهيونية العالمية، والصليبية الدولية ، ومحاربتها الإسلام ووسائلها وعملائها في المنطقة وبعض الأسماء كذلك. وكان الكلام بها في غاية الخطورة وقتها، حيث لم يكن الكثير من هذه المخططات قد انكشف بعد، واتضحت بالصورة التي ظهرت عليها بعد ذلك. وكان عنوان هذه المخطوطات: خيوط خطة. وأحضر لنا كذلك مذكرات من الشهيد محمد يوسف هواش بواسطة الشهيد سيد قطب كانت بعنوان: جولة في العقيدة والحركة وكانت مكتوبة بروحانية عالية وموضوعها في غاية الدقة والأهمية للعاملين في حقل الدعوة الإسلامية: حيث يصف فيها حزب الله ومواصفاته، وحزب الشيطان وحدوده كذلك وكيفية التعامل معه. وكان هناك باب بعنوان: من نحن؟ وآخر: من الناس؟ وكانت هذه المذكرات تذهب للمرحوم الأستاذ المرشد حسن الهضيبي أولاً لقراءتها ومراجعتها، ثم تصلنا بعد ذلك منه.) [17].
ويقول أيضاً: (شرح الشهيد – رحمه الله – كيف أنه بدأ ينتبه إلى ذلك عندما طلب من منزله كتب الإمام الشهيد حسن البنا والأستاذ أبو الأعلى المودودي. ثم عكف بعدها على دراسة الإسلام خاصة في كتب ابن تيمية وابن القيم والتفاسير وأضاف أن أية حركة لابد أن تبدأ من العقيدة. حتى مع المسلمين وأصحاب الدعوة أنفسهم لأن العقيدة هي الأساس والركيزة لأية دعوة.وأنه إذا بدأت حركة إسلامية باستثارة العواطف بالإسلام وأخلاقياته والمطالبة بتطبيق شريعته دون البدء والتركيز على العقيدة، فكأنها بنت بيتًا جميلاً مستوفيًا المرافق واكتملت مظاهره الخارجية من نوافذ وطلاء دون أساس متين. ثم مع هبوب أول عاصفة أطاحت به وخر البيت على من فيه. لماذا؟ لأن البيت بني بصورته المتكاملة الظاهرية، ولم يقم بُناته ببناء الأساس. والأساس هنا والذي أقصده هو العقيدة. تمامًا كما فعل رسول الله صلي الله عليه وسلم والقرآن يتنزل عليه في مكة كذلك مع الصحابة رضوان الله عليهم، فخرج هذا الجيل الفريد)[18]. هذا النص واضح في التحول نحو المجال العقائدي ويفهم من ذلك أنه تحول نحو أن تكون تلك المدرسة أكثر تجذراً أو بتعبيرات توماس كون “نموذج مدرسي” وهو النموذج الذي يزرع مسلماته في المجتمع العلمي ويكون أشبه بالميتافيزقا التي يتحرك بها الجميع دون أن يشعر. هذا التحول ارتبط في الحقيقة بواقع الحرب الباردة والفكر الشيوعي حيث كانت الدولة تقوم بكل وظائف المجتمع وهي أشبه بطاغوت وهو تعبير استعمله توماس هوبز قبل سيد قطب.
هذا النموذج السائد في كتب كثير من قيادات الإخوان، انظر مثلاً زيارة أبو الحسن الندوي للإخوان في مصر حين يؤكد نفس الأفكار كما ذكر الشيخ الغزالي رحمه الله،[19] والشيخ سعيد حوى 1935-1984 على سبيل المثال يستوقفني في أعماله أنها شارحة وليست مؤسسة لشيء. فالأمر يتعلق بكيفية بناء الجيل الرباني الفريد، وبناء طلائع البعث الإسلامي وبيان حجم المؤامرة التي تحتم على المسلمين العودة لدينهم قبل أن تحيط بهم الأمم وتتداعى عليهم. هذا الأمر يحتاج لدولة تحمي حياض الإسلام وهذه الدولة لن تنشأ إلا بتطبيق شرع الله. وعدم وجود هذه الدولة منكر والأمر بالمعروف فرض عين كل حسب استطاعته وهذا يقتضي العمل في جماعة فمن غير المعقول أن يتحقق هذا الأمر بشكل فردي. ووفقا لقاعدة مالا يتم الواجب إلا به فهو واجب. وهكذا يبدأ عرض الجماعات القائمة ولن يجد القارئ سوى جماعة الإخوان المسلمين موئلاً لتحقيق هذا الغرض. ومن ثم تتم دعوته إليها مع كامل الحرية في اختيار غيرها دون حرج.
لأجل ذلك كانت هناك عدة مقررات للتربية الروحية ترتقي بالمسلم في روحانيته لمنازل الصديقين والربانيين. ولأجل ذلك لابد من فهم التنظيم والتخطيط للحركات الإسلامية ومعرفة دقائق الأمر. ولأجل بناء ذلك الفرد المسلم المثقف لابد من دراسة أربعة عشرة دائرة من دوائر المعرفة الإسلامية والثقافية. أنا هنا لا أتحدث عن تقليد الشيخ ولا أنقد أفكاره فهو عالم بكل معنى الكلمة. وهو موسوعي حقاً لكن أتحدث عن خارطة ذهنية تشكلت من بعد الخمسينيات لها جذورها بكل تأكيد في فكر حسن البنا، لكنها كانت تسير بنفس النسق الذي ذكرناه ينتقل من عالمية المؤامرة لضرورة الدولة فالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر إلى ضرورة الجماعة وتربية الجيل الفريد… هذا الأمر ظاهر في كتب الشيخ لكن دعنا نرى إجابة الشيخ بنفسه عن بعض التساؤلات:
لماذا كانت الصحوة الإسلامية حقيقة واقعة؟ فهل يرى فضيلة الأستاذ في هذه الصحوة فضيلة لقطر على قطر أو جنس على جنس؟ كان من ضمن إجابته بعد أن بين وجود جماعات كثيرة تعمل من أجل الإسلام كالتالي: (إنه قبل سقوط الخلافة لم تخل الأرض الإسلامية من عاملين للإسلام. لكن بعد سقوط الخلافة العثمانية نستطيع أن نقول: إن الاجتهاد الأقوى الذي أثر على تفكير العالم الإسلامي هو الاجتهاد الذي قدمه الأستاذ حسن البنا رحمه الله ورسخه ووضع قواعده وأسسه. هذا الاجتهاد تمثل بفهم يمكن أن يجتمع عليه المسلمون وتمثل بنظرية تنظيمية وتربوية وتمثل بمواقف حركية. هذا الاجتهاد كان له أثره الكبير بل نستطيع أن نقول إن ميلاد الصحوة الإسلامية بدأ عندما بدأ الإمام حسن البنا دعوته).[20]
هذا الفهم لسقوط الخلافة، ونشأة العلمانية وهدف عودة الشريعة والدولة الإسلامية، صار نموذجاً سائداً في كثير من الكتب. فتحي يكن – هذه المرة من لبنان – يكتب كتابه “ماذا يعني انتمائي للإسلام؟” من جزئين. والفكرة عنده هي نفسها. ففضلاً عن أهمية الأخلاق لابد من الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والمنكر الأكبر هو غياب الشريعة ومن ثم ضرورة الانتماء إلى جماعة للقضاء على هذا المنكر. يقول عن لماذا الانتماء للحركة الإسلامية؟
(يفرض علي أن أعرف لماذا أنا في الحركة الإسلامية ولست في غيرها؟ ما الذي جعلني هنا، ولم يجعلني هناك أو هنالك؟ هل هي الصدفة والصدفة مرفوضة في منطق الشرع أم هي نتيجة البحث والاطلاع والتمحيص؟ إن علي أن أتعرف علي طرائق العمل الإسلامي الأخرى ليكون انتمائي للحركة الإسلامية انتماء واعياً عاقلاً وليس انتماء عشوائياً أو هوائياً؟ إن علي أن أدرك حين أنتمي للحركة الإسلامية أن طرائق العمل الإسلامي الأخرى ومنظماته المختلفة، لا تمثل الخط الإسلامي الأصيل. وإن أياً منها لا تلتزم بمنهج الرسول صلي الله عليه وسلم التزاماً كاملاً. وإن كان بعضها يختلف عن بعض اختلافاً كبيراً في نسبة الالتزام ومدى جزئيته أو كليته). ثم يقول:( العمل الذي يمكن أن يحقق النقلة الكبيرة من الجاهلية إلى الإسلام، العمل الذي يمكن أن ينقذ العالم الإسلامي من تحكم الحضارة الغربية الفاجرة وحكم الكفر والطاغوت، العمل الذي يستهدف تكوين الفرد المسلم، والبيت المسلم، والمجتمع المسلم، والدولة المسلمة التي تحكم بما أنزل الله. ولذلك تبقى أعمال كل هذه الفئات مبتورة شوهاء. فضلاً عن أن بعضها قد يتسبب في إساءات بالغة للإسلام باسم الإسلام، وجزئية هذه الفئات وقصور عملها قد يوحيان أن الإسلام كذلك. وتعالى الإسلام عن ذلك علوا كبيراً، أو قد يخففان من خطورة النظم الوضعية وينفسان من غلواء المسلمين عليها ويساعدانها على الاستمرار والبقاء.
إن العمل الإسلامي الذي يقوم على أساس التغيير الكلي والإعداد من أجل التغيير الكلي والذي يحمل الإسلام جملة ويسعى لتطبيقه جملة- وإن عجز حيناً وتعثر في بعض مراحل العمل أحياناً – هو العمل السليم الذي يمثل الخط الأصيل، كائناً ما كانت أسماؤه ومسمياته الخارجية. لأنه يلتقي على وحدة فهم ووحدة أسلوب ووحدة طريق ووحدة غاية وإن تناءت الأقطار وتباعدت الديار. ولقد عبر الإمام الشهيد حسن البنا رضوان الله تعالى عليه عن مواصفات هذه الفئة من العاملين أوضح تعبير فقال: (أيها الإخوان .. أنتم لستم جمعية خيرية، ولا حزباً سياسياً، ولا هيئة موضعية، لأغراض محدودة المقاصد.. ولكنكم روح جديد يسري في قلب هذه الأمة فيحييها بالقرآن، وصوت داو يعلو مردداً دعوة الرسول صلي الله عليه وسلم)[21].
هذا الأمر يتكرر كذلك مع كثيرين: فكتاب المنطلق للأستاذ محمد أحمد الراشد[22] يكاد يكون له نفس التسلسل المنطقي الذي يوصل القارئ لضرورة العمل والانتماء للحركة الإسلامية بناء على نفس التسلسل وهو ضرورة عودة الدولة الإسلامية والخلافة من خلال العمل الجماعي. لقد استقرت خارطة الإخوان على أن تمكين المسلمين في الأرض لن يكون إلا برجال يقودون هذا التمكين تحتضنهم التربية وتدعمهم نشريات المبادأة من تخطي العوائق بنسيم الرقائق من أجل عودة الخلافة والدولة الإسلامية.
هذه هي الأجواء التي تكررت في هذه الفترة من الخمسينيات حتى الثمانينيات. وحدثت عدة محن جراء هذا الصراع الأيديولوجي فبعد إعدام سيد قطب، والوحشية المخزية التي وصل إليها نظام عبد الناصر وهزت كثيرًا من المسلمين، والفظائع التي جذرت إرهاب الدولة كانت أحداث حماه وغيرها في ليبيا وفي تونس. هذا العنف له دلالة واحدة وهي أن الصراع الأيديولوجي في تلك المرحلة يعبر عن مرحلة جديدة من الفكر القومي والفكر الإسلامي. والذي تعدد فيما بعد ليكون اشتراكياً إسلامياً أو قومياً اشتراكياً في تسلسلات مختلفة نحتاج لنعرف كيف تشكلت وكيف سارت بعد تلك المرحلة التي من الممكن أن نجعل لها نهاية وهو سقوط الاتحاد السوفياتي وتبدل مواقف كثير من الدول في المنطقة وما تبع ذلك من أحداث الخليج.
الأزمة وسقوط الاتحاد السوفياتي
ربما كان المسار مختلفاً للحركات الإسلامية من دولة لأخرى وفقاً للسياق السياسي الذي وجدت الحركة فيه نفسها، فالإقصاء يولد الراديكالية والاحتواء يولد الاعتدال، وتعددت الحركات الإسلامية وتنوعت في توجهها، واختلف سياقها من دولة لأخرى وفقاً للفرص السياسية التي وجدت هذه الحركة اتجاهها، النموذج السائد الذي انتهى لمسائل واضحة تتلخص في الحاكمية والدولة الإسلامية، وما يتطلبه ذلك من عمل جماعي وتنظيم ودعوة أو حشد لهذا التنظيم شكل في جانبه الاجتماعي حراكاً مجتمعياً، وفي جانبه الفكري نموذجاً فكرياً تطور بشكل طبيعي من نموذج ثوري يحاول أن يفسر الواقع بطريقة مغايرة كما بينا مع الأفغاني ومحمد عبده وحسن البنا إلى نموذج سائد مرتبط بعقيدة ثابتة مع سيد قطب. ثم تحول فيما بعد إلى مشروع سياسي ثوري يستعمل العنف السياسي كأداة للتغيير وله مرجعية فكرية يربطها بالجهاد.
لكن لا ننسى أن هذا وذاك ارتبط بمفهوم الإعداد للجيل المسلم. فحتى الحركات الجهادية لم تنكر ضرورة التربية. لكنها رأت فيما رأت أن التربية تأتي مع المجاهدة وفي ساحات الجهاد. لذا فرغم كل هذه التشعبات إلا أن الفرد ودعوته وتربيته كانت هي الأساس. وهذا اقتضى حشد وتجميع جيل الشباب. ففي الحركات التي قامت جانب تعبوي لا تخطئه العين.
هذا الارتباط بالفرد كمكون للمجتمع، افترضنا أنه نتاج لثقافة سائدة في القرن التاسع عشر. خاصة في نظرية هربرت سبنسر عن التطورية الاجتماعية باعتبار الفرد هو مكون المجتمع حتى قبل الأسرة. وهنا يرى سبنسر أن حالة المجتمع الأولى كانت حالة الإباحية ثم تشكلت الأسرة بعد ذلك. كما أثرت التطورية في التصور المرحلي لتكوين الدولة الذي سيمر بمراحل لنصل إلى تشكل تلك الدولة… هذا التسلسل مع وجود نظريات علمية كثيرة في تلك الفترة تؤكد هذه المرحلية سواء عند دارون في أحيائه أو نيوتن في فزيائه كلها شكلت خلفية علمية أثرت في ثقافة الإصلاح كما افترضنا في الأقسام الأولى.
دعنا الآن نتحدث عن مسار الحركات الإسلامية التي لم تجنح للعنف، وشاركت في العملية السياسية. والتي اختلفت مساراتها من دولة لأخرى. فهذا التنوع الذي يؤكد نظرية السياق المجتمعي، فالملكيات كانت أكثر تسامحاً مع هذه الحركات ووجدت فيها فرصاً سياسية بينما نجد أن الدكتاتوريات في الجزائر وليبيا وسوريا والعراق شهدت صراعاً مريراً وظهر العنف المؤسسي وإرهاب الدولة في أبهى صوره، كما أن المملكة السعودية رفضت تواجد الإخوان كحركة منذ عهد الملك عبد العزيز الذي رفض طلب حسن البنا بوجود فرع للحركة في السعودية وقال مقولته الشهيرة (كلنا إخوان). ولعل التجربة الفريدة في هذا السياق هي تجربة قطر حين حلّت الجماعة نفسها لأسباب ذكرتها في كتاب من جزئين يشرح الأسباب وراء ذلك، من ذلك قولهم (بدأت الدراسة بطرح الأسئلة الجدّية داخل المجموعة: من نحن؟ وإلى أين نسير؟ وهل هناك مشروع نحمله ونتحمّل حمله؟ هل هذا ما نريد؟ ما هي مصلحة المجتمع القطري في كل ذلك؟ هل لفكرة الدوجما dogma ( المنغلقة) الحزبية تبعات في المستقبل؟ هل هذا الثوب مناسب ارتداءه في قطر؟ والملفت للنظر أن المجموعة تعاملت مع هذه التساؤلات بكل رصانة وجدّية وحزم. وقررت تفويض أفراد منها للقيام بدراسة هذه الأسئلة دراسة تفصيلية واستحضار فكر المؤسس المرحوم بإذن الله الشهيد حسن البنـّا. وتنزيل هذا الفكر على تجربة الإخوان في مصر وتجارب الإخوان خارج مصر. وفعلاً استغرقت دراسة الأسئلة والإجابة عليها وتنزيل فكر المؤسّس البنـّا على تجربة الإخوان في مصر وخارجها عدّة سنوات انتهت الدراسة ربما 1991 أو قريباً من ذلك. وخلصت الدراسة ـ وخاصة في قسمها الثاني غير المنشور حتى الآن ـ إلى أن فكر البنّا لم يحدّد بدقة الموقف من الدولة من حيث: مشاكل الدولة الداخلية ـ الحكومة ـ الإدارة ـ الاقتصاد ـ الأمن ـ نظرية العلاقات الدولية ـ التعليم. اتبعت الورقة- في الجزء الذي لم ينشر والذي وضع القطريون النابهون نظاماً صارماً في الإجابة على أسئلته: فدرسوا منظمة enterprise الإخوان بشكل موضوعي وصارم. درسوا المنظمة من حيث: الهيكل structure والقيادة leadership والثقافة السائدة في المنظمة culture وإدارة المنظمة. كما درسوا الروافع leverages في المنظمة: الموارد البشرية human resources ونظم الاتصال communication والتعاون البيني داخل المنظمة cross-sectional co-operation. كما درسوا المعرفة knowledge داخل المنظمة والجمهور المخاطب audience ومجال التنافس competition داخل المنظمة وتكاليف cost الصراع الذي تحركه المنظمة. أي هل لديها استعداد لدفع التكاليف؟ كما درسوا المنظمة من جهة التخطيط planning أي: هل هناك خطة فعلية ليسترشد بها الإخوان في مصر وخطة قائمة فعلاً؟ وكم حقق منها الإخوان وكم بقي على تحقيق الهدف target النهائي؟ أسئلة كبيرة ومهمة وجديرة بالتأمل خاصة حاضنة الإخوان الممعنة في صحراء الجزيرة العربية وسكينتها التاريخية)[23].
هذه المراجعة جديرة بالتأمل ربما لأن سياق دولة قطر يختلف عن باقي الدول العربية لكن هناك عامل آخر يجب ألا يهمل وهو تغير الخطاب في كافة الحركات الإسلامية من بعد سقوط الاتحاد السوفياتي وهذا ما أثبتته بالتفصيل دراسة الباحث شادي حميد في كتابه التطلع للسلطة. والأمثلة كثيرة لعلنا نذكر تجربة حزب الوسط.
لا يمكن أن نفهم من هذا العرض أن الإسلام السياسي تطوري في مساره بمعنى أنه يتكيف مع البيئة السياسية من حوله. بل إن هذه العلاقة التي قد تفسر جزءاً من المسار قد تعجز عن تفسير ما حدث في التسعينيات. فبعد سقوط الاتحاد السوفياتي وتحول العالم إلى عالم أحادي القطب، وبداية الحديث عن التجربة الشيوعية وضرورة التوجه نحو الديمقراطية والرأسمالية عبر قطار الحرية الذي يوصل إلى الحلم الأمريكي، في تلك الفترة انتشرت أعمال العنف في مصر ووصلت أرقاماً مفزعة لم تحدث خلال عشرين سنة خلت: فمن عام 92-97 وصلت ل741 حالة. وحدثت عدة حوادث منها اغتيال رفعت محجوب المتحدث باسم الرئاسة واغتيال رئيس الوزراء عاطف صدقي… اتخذت هذه الأحداث ذريعة لاتهام الإخوان بدعم الإرهاب وبدأ المشهد يتجه نحو الإقصاء. لم يتغير سلوك الإخوان كما يلاحظ المراقبون إلا إلى مزيد من الانفتاح بعكس النظرية التي تفترض التحول نحو الإرهاب. بل كانت هناك عدة أعمال تبين توجهاً جديداً في الجماعة.
من أول تلك الأحداث أو الأعمال الوثيقة التي صدرت تحت عنوان: هذه شهادتنا. يؤكد الإخوان في هذه الرسالة رفضهم العنف والإرهاب والانقلابات التي تهدد وحدة الأمة. هذا الموقف تعزز بوثيقة أخرى مهمة كانت فيها مراجعات لموقف الإخوان من التعددية الحزبية وتوضيح الموقف من قضية المرأة والمشاركة السياسية واللافت للنظر هو عدم التأكيد على مسألة الشريعة كما كان النموذج السائد يكرر دائماً. انتشرت تلك الوثيقة تحت اسم نقاط في الميثاق الوطني الذي أصدره المرشد العام مأمون الهضيبي. يحدثنا شادي حميد [27]عبر لقائه مع الدكتور عصام العريان فيقول على لسان الأخير: (موقفنا من التعددية وحقوق المرأة والأقباط يرجع للعام 1994 وهي القواعد التي نبني عليها مواقفنا).
لكن الحدث الأبرز الذي وصف بالانشقاق، هو تشكيل بعض الأعضاء الملقبون بجيل السبعينيات حزب الوسط. وهم مجموعة من الأعضاء كانوا في الجماعة الإسلامية في السبعينيات وانتموا فيما بعد لجماعة الإخوان المسلمين كأبي العلا ماضي وعصام سلطان وعبد المنعم أبو الفتوح عام 1980… فكرة تشكيل الحزب قد تفهم أنها تفاعل داخل الحركة الإسلامية أي أن المنافسة الداخلية وعدم الرغبة في أن يوضع الإخوان في سلة الإرهاب قد تفسر هذا المعارضة الفكرية التي تجسدت في حزب الوسط لكن القدرة التفسيرية لذلك ضعيفة ولا تنسجم مع النظرية العامة التي تربط بين البيئة وتطور الحراك المجتمعي. في المقابل نجد العنصر الثقافي الذي يربط بين قراءة النص والواقع ضمن إطار الخروج من النموذج السائد لعجزه عن تلبية احتياجات الواقع يبدو أقدر على التفسير.
عام 1996 قررت مجموعة من الإخوان تأسيس حزب سياسي قد يحظى بوضع قانوني داخل الدولة اسمه حزب الوسط. لكن قيادة الجماعة أو الحرس القديم كما يسمون رفضوا أن يكون هذا الحزب منبثقاً عن الجماعة. وليس هذا فحسب فقد تأسس هذا الحزب دون إذن من الجماعة أو مجلس الشورى. لذا كانت هناك دعوة من مجلس الشورى الإخوان للمنضمين في الحزب من الإخوان لترك حزب الوسط. وبالفعل ترك كثير منهم الحزب امتثالاً لقرار مجلس الشورى. ستة عشر من الحزب الجديد بقوا فيه وحاولوا تسجيل الحزب كحزب رسمي وعبثاً حاولوا تسجيله في لجنة الأحزاب الحكومية. ورغم محاولتهم عام 1996 و1998 لم تتم الموافقة على تأسيس هذا الحزب واستمرت تلك الحال حتى العام 2004، ولم يوافق النظام على تشكيل هذا الحزب رغم انسحابهم من الجماعة. لكن لم يصدقهم أحد بل سجن النظام أعضاء الحزب البارزين وحتى بعد ثورة يناير هم الآن في السجن. وهكذا تصبح العلاقة بين الإقصاء والعنف علاقة غير واضحة في ظل إصرار أعضاء الحزب على الاستمرار.
دعنا هنا نقف لنبين نقاط الجدل والتي نعتبرها محاولة فكرية من أعضاء حزب الوسط لتفسير الأزمة التي وقع فيها الإخوان. أعني أن النظر في تلك العلاقة الشرطية بين الاحتواء والاعتدال ليست واضحة. فرغم أن تشكيل الحزب قد يكون وسيلة للوصول إلى الناخبين من خلال العرض المعتدل الذي يقترب من الديمقراطية ويؤخر مسألة الشريعة كما هو واضح من آراء الحزب. لم يفلح ذلك في تفسير الاعتدال الذي لحق الإسلام السياسي. فالقمع لم يسمح أصلاً بالانتخابات كما أن تفسير الأمر على أنه ضمن المنافسة بين التنظيمات والجماعات يبدو منطقياً من خلال محاولة أعضاء الجماعة الذي شكلوا الحزب النأي بالنفس عن الإرهاب خاصة بعد الأعمال والوثائق التي صدرت داخل الجماعة والتي تؤكد وجود حملة قمع سياسية وإعلامية ضد الجماعة ستحدث. وقد حدثت بالفعل ووصلت لآلاف المعتقلين علاوة على حملة إعلامية واسعة ضد الجماعة. لكن ضمن التفسير الثقافي يمكن أن نفهم نشأة الوسط ضمن مسار الجماعة الفكري الذي أحدث رغبة عند أعضائه في نموذج فكري جديد يفسر الأزمة ويضع الحلول خارج الإطار المعهود. لنرى ماهي القضايا الجديدة التي طرحها حزب الوسط[28].
العلاقة بدعوة حسن البنا:
لا يعتقد أعضاء الحزب أنهم خرجوا عن فكر حسن البنا. بل إنهم رأوا أنهم لا يعارضونها. بل وضعوا الإخوان على الطريق الصحيح كما بين أبو العلا ماضي في تصريحاته. ووفقا لماضي فإن دعوة البنا كانت تربط بين الدين والسياسة ولا ترى بضرورة وجود الأحزاب السياسية. وقد يكون هذا مناسب لزمن حسن البنا. أما الوسط فهم يفرقون بين العمل السياسي والعمل الدعوي. ومن ثم يرون أنفسهم أنهم ورثوا تعاليم البنا في الجانب السياسي الذي لم يتطور منذ منتصف القرن العشرين حيث لم يقم الإخوان بالجانب السياسي كما ينبغي. ويبين حقيقة الحزب قائلاً: إنه يسعى إلى تكوين حزب قانوني يضمن العمل في نظام متعدد الأحزاب بغض النظر عن موقفنا من النظام الحاكم يدعو الحزب من خلاله كل المصريين للانخراط في الحزب والعمل من خلاله…
- الإسلام كحضارة :
المدخل الذي اتخذه الحزب للإسلام ومسألة الشريعة يرتبط بالإسلام كحضارة للمنطقة وليس مجرد دين للمسلمين فقط. انبنى على هذا الانفتاح على المسيحيين في مصر ودعوتهم للانضمام إلى الحزب. وأن الشريعة بهذا الشكل تبنى على الاجتهاد لذا يصورها ماضي على أنها نظام للقيم والأخلاق. وهو بهذا يؤسس لموضوع المواطنة وحق المشاركة السياسية للجميع بما في ذلك الأقباط. لذا كان من بين عناصر الحزب المبرزين من الأقباط رفيق حبيب. هذه القضايا كانت محل نقاش وجدل كبير بين الجماعة والحزب. وبخصوص نظرتهم للاجتهاد وتشكيلهم لحزب منفتح يقول الدكتور يوسف القرضاوي: (إنه رحب بفكرة حزب الوسط، ويعتبرها حركة طيبة، ولعلها تكون فرصة لخروج الحركة الإسلامية من عزلتها). وقال (أخشى على الحركة الإسلامية أن تضيق بالمفكرين الأحرار من أبنائها، وأن تغلق باب الاجتهاد). هذا الأمر قد يكون معارضاً إلى حد ما لاستراتيجية الخلافة الإسلامية التي تسعى إليها الجماعة بل الأمر تعدى فكرة الإسلام السياسي إلى الإسلام الحضاري الذي يسعى لعودة القيم الإسلامية إلى الحياة المجتمعية. فكل الأديان شكلت في سياقها المجتمعي هذه الحضارة الشاملة. وقد يكون هذا الكلام مألوفاً الآن لكنه في تلك الفترة كان كإطار عام ونموذج فكري جديد، ولولا ذلك لما حصل الخلاف. ففرق بين الإقرار بالحضارة والتفريق بينها وبين الدين، وبين أن يكون المكون الفكري والتنظيمي يرتبط بهذه القضايا. وهو ما اعتبره الدكتور يوسف القرضاوي اجتهاداً.
- الديمقراطية الإسلامية:
المفهوم الآخر الذي أخذ حيزاً من حزب الوسط في نشأته هو الديمقراطية والتي كان حزب الوسط يرى فيها مفهوماً يرتبط بالحضارة التي يقوم فيها هذا المفهوم. وهذا يعني ما يشاع في بعض الدراسات عن ديمقراطية غير ليبرالية بل ديمقراطية تحافظ على قيم الحضارة التي تنشأ فيها. وهم بهذا يفتحون مجالاً من البحث استمر في التسعينيات خارج الحركة الإسلامية وهي علاقة الديمقراطية بالإسلام. لذا كان عصام سلطان واضحاً في تصريحه عن الفرق بين الحزب والإخوان بقوله (الفرق بين الإخوان وحزب الوسط يكمن في الإيمان بالديمقراطية والتعددية السياسية وحرية التعبير وحرية الرأي وحرية الإبداع…).
يحاول البعض أن يبين قضية أخرى تتعلق بالفارق بين الوسط والإخوان تكمن في أن الإخوان يؤمنون بمطلق المعرفة وأنهم يحتكرون المعرفة لكن في ذلك تجني على الحقيقة. لكن الفارق الواضح في الثورة الواضحة على النموذج الذي وضعه حسن البنا والذي يربط بين الإصلاح وتربية الفرد ومن ثم المجتمع. وهذا ما خالفه حزب الوسط بالتركيز على كونهم حزباً سياسياً يخاطب جميع المصريين ويهتم بالشأن المصري.
محاولة حزب الوسط هي محاولة ظاهرة في التمرد على النموذج السائد. خاصة في مفهوم المواطنة والتأكيد على الديمقراطية. وإن كانت المرجعية بوضوح هي الشريعة الإسلامية التي لم ير الحزب أن الديمقراطية تتعارض معها. بالطبع لا يمكن أن يقال إن الحركة الإصلاحية حتى قبل الإخوان عارضت البرلمانات والمشاركة السياسية ومعاملة المسيحيين بمثل معاملة المسلمين. لذا فالبحث عن الفروق هنا قد يكون صعباً لكن ما هو ظاهر هو الخلاف حول النموذج بالتأكيد على المشاركة السياسية الحزبية. لذا كان نقد الإخوان الموجه للوسط هو المشاركة في نظام فاسد ونقد الوسط الموجه للإخوان هو ترك الساحة السياسية. وهي الساحة التي يحدث فيها التغيير الحقيقي)[29]. والاحتفاء بمبادئ الديمقراطية الأمر الذي لم يكن واضحاً في ممارسات الإخوان البرلمانية والتي لم تكن تهتم بقضايا الإصلاح السياسي قدر اهتمامها بالقضايا التي ترتبط بالمرجعية الإسلامية.
هذا الأمر بالطبع قد تغير مع بداية القرن الحادي والعشرين. فقد رأى بعض الباحثين أن الإخوان قد خطوا خطوات نحو المسار الذي اتخذه حزب الوسط. حيث أنها أصبحت جماعة معارضة تحاول تكوين تيار مدني معارض يبحث عن الحرية والديمقراطية أكثر من كونها جماعة تسعى للخلافة الإسلامية. وقد ظهر ذلك في كثير من نقد جماعة التحرير الموجه للإخوان المسلمين. لكن بالطبع كما رأينا في الوثائق التي رسخت مفهوم الديمقراطية وحقوق المرأة والتعددية السياسية وحقوق الإنسان يرى الإخوان فيها قضايا لا تعارض التوجه العام. لكن مسألة تشكيل حزب بديل عن الجماعة كان أمراً مستحدثاً بشهادة مصطفى مشهور مرشد الجماعة الذي قال: لأول مرة تفكر الجماعة في تكوين حزب سياسي. وهكذا يصبح تشكيل الحزب أمراً لا يتعلق بالتنظيم بقدر ما يتعلق بتغيير نموذج الحركة من التربية نحو المشاركة في صنع القرار.
هذه التجربة وغيرها كثير من التجارب تؤكد تأثير السياق السياسي (التغيرات الدولية، طبيعة النظام السياسي، الأحداث الاجتماعية، الظروف الاقتصادية…الخ) على مسار الحركات الإسلامية لكن لسقوط الاتحاد السوفياتي أثر فكري كبير على العالم وعلى الحركات الإسلامية فرغم كل هذه التوجهات التي بدت واضحة في سلوك الجماعات الإسلامية إلا أن نهاية الحرب الباردة شكلت بداية لأزمة فكرية في الجماعات الإسلامية.
الأزمة الفكرية للحركات الإسلامية
من حق البعض أن يعترض عن الحديث عن أزمة فكرية في الحركات الإسلامية بعد الحرب الباردة فهناك اجتهادات كثيرة في الحديث عن التعددية الحزبية وحقوق الإنسان والمرأة وغيرها من القضايا التي عرفت بالنقاط الأربعة عشر للإمام الهضيبي وفيها تجديد واضح نحو النموذج الحداثي الليبرالي الذي انتصر بعد الحرب الباردة، لكن الأزمة فيما يبدو أعمق من ذلك. مسيرة الحركات الإسلامية التي رأينا طرفاً منها ارتكزت فيما ارتكزت على ركائز لا يمكننا أن نتخيل تجديداً حقيقاً في هذه الحركات بدونها. نسمع عن صراع أجيال وعن رغبة في تحديث الخطاب كما نسمع عن أزمات سياسية وعن أزمة قدرات تنظيمية وإدارية ولكن الأمر في رأيي أكبر من هذا كله. وأنا هنا لا أكرر ما يقال عن انفصال الخطاب بين القيادة والصف، بل عن القيادة ذاتها أتحدث: القيادة التي لا يمكنها أن تكون قيادة بدون هذا الإبحار والتفتيش في بحور المعرفة عن إكسير الحياة الذي يبدي ويعيد تلك الأحلام. فيجعل لذلك التاريخ ولذلك الجدل نتيجة أو حتى مساراً يمكن أن يبنى عليه.
يمكن أن نتخيل حالة من رفض الماضي والانقطاع عنه لاعتبارات عدة قد نسميها عجزاً فكرياً أو أزمة تنظيمية أو حتى أزمة عقل. لكن لا أظن أن الأمر يعدو كونه رفضاً للتغيير وعدم قدرة على التكيف مع هذا الحجم الهائل من التغيرات التي يشهدها العالم سياسياً واقتصادياً واجتماعياً. والتي هي في نهاية المطاف تعبير عن شيء واحد هو تبدل النموذج المعرفي.
تفكيك مرتكزات الخطاب أمر صعب، لكن إذا أدركنا سقوط التطورية الاجتماعية كنموذج حاكم للفكر الإصلاحي في القرن التاسع عشر فإنه بدون إدراك حجم التغير الذي ساد العلم في تحوله من النموذج الاختزالي والتحليلي إلى نماذج أكثر تركيباً وفقاً لنظريات تتعلق بالفوضى وما بعد الطبيعي ونظرية الشبكة والقواعد المعرفية التي تبحث في حجم التعقيد والتنوع الذي يشهده العالم فإن الحديث عن تجديد يبقى مجرد علاج لظواهر مختلفة دون إدراك لطبيعة الثورة المعرفية التي يشهدها العالم. كل القضايا التي ارتكز عليها الخطاب الإسلامي تقريباً تشهد ثورة علمية معرفية لم تعر لها هذه الحركات أي اهتمام بل إنها أصرت على الاستمرار في خطابها الحداثي من أجل ضرورات السياسة دون أن تغوص في عمق فكرها المرتبط بإصلاح الفرد والاستراتيجية التحتية للتغيير عبر المجتمع.
هذه الأفكار لم تعد تجدي وفقاً للورانس فريدمان في حديث عن تاريخ الاستراتيجية، فلو عدنا للفكر الإسلامي سنجد أنه ارتكز على سردية محددة تفسر سقوط الخلافة الإسلامية، وعلى نموذج من الفرد والأسرة إلى الخلافة ـ الدين والسياسية وإمكانية الدولة الإسلامية ـ التغيير عبر السلطة الحاكمة ومفهوم الدولة ونظرية الفصل بين السلطات والتحول الديمقراطي.
هذه القضايا كلها شهدت مراجعات حقيقية لكن فلسفة التاريخ كشفت عن أمر آخر ربما لم يكن واضحاً في ذهن هؤلاء المصلحين. فإن سقوط الأمم يبدو- من خلال الكم الهائل من المعرفة المتوفرة- ذو نسق آخر قد يحل الإشكال بين المعرفة والسياسة، بين العوامل الخارجية والعوامل الداخلية. وقد يكون هذا داعياً مهما للتيارات الإسلامية لمراجعة مرتكزاتها حتى تتسق مع هذه المعرفة ولا تتأخر عنها. هذا الكشف لا يلغي بالطبع أهمية الشريعة ولا أهمية الدولة العثمانية ولا أهمية الدين… لا شيء من ذلك. بل يتعلق في أساسه بفهم ما حدث للدولة العثمانية. ومن ثم تحديث تلك المعرفة التي صارت كنموذج سائد ينطلق منه الجميع دون مراجعة. فسقوط الأمم، ونهاية الحضارات ترتبط بقدرة مؤسسات الدولة على التوافق مع المتغيرات العلمية والتقنية التي تحيط بها. هذا التوافق يرتبط بطبيعة مؤسسات تلك الحضارة. وغياب تلك المؤسسات القادرة على التكيف هو ما يجعل الحضارة في حالة من الركود والغفلة عن المستقبل ومن ثم تصبح أكثر عرضة للصدمات. كتب دارون اكيموجلو وجامس روبنسون كتابهم الشهير: لماذا تسقط الأمم؟ والذي عد ثورة في هذا المجال وبين فيه التخلف المؤسسي الذي عاشته الخلافة العثمانية[30].
وانظر مثلاً للجدل القائم حول دور البرلمانات في التشريع وهو مرتبط بنظرية الفصل بين السلطات، وهي نظرية لم تعد مبدأً بل إن مراجعات حقيقية جعلت تلك النظرية أشبه بأسطورة لم تعد تحكم المجتمعات بل إن السلطات القائمة في المجتمعات متنوعة متشابكة لا يمكن وضعها وفق نظرية التوازن التي سادت في القرن التاسع عشر وخرج الكثير من الفلاسفة من عباءتها. كتب جبرائيل ألموند عن النظم السياسية ووظيفة الدولة كنظام متكامل قد تغير الكثير من المفاهيم عن التشريع والدولة وسردية الشريعة. الأهم من ذلك أن نموذج الفرد القادر على التغيير لم يعد كما كان بل إن أكثر من20 نظرية ونموذجاً للتغيير نجدها في كثير من المراجع والكتب التي تصف التاريخ.
هذا النموذج الخطي (الفرد- الأسرة- المجتمع- … الخ) يقابله الكثير من النماذج الريزومية والشبكية وهذا له عديد الأشكال التنظيمية وكذلك التأثير داخل بنية المجتمع، فمدرسة النظم والنسق تتحدث عن تصور آخر لا يعطى فيه الفرد ـ وليس الإنسان لأن الحديث عن مركب هنا ـ تلك الأهمية بقدر ما يكون هذا الفرد جزءاً من مؤسسة اجتماعية. وهذا ارتبط بأن سلوك الفرد في مجموعة يختلف عنه كفرد.[31] وأن الثقافة وليس البحث عن أصل تكوين المجتمع هو الذي يحدد درجة ثبات المجتمع ومن ثم معرفة المساق الذي يتحرك فيه. وهذه المدرسة هي السائدة في الفترات اللاحقة للمدرسة التطورية خاصة بعد النقد الموسع الذي لحق بالدارونية الاجتماعية والتي أعطت الجانب البيولوجي للمجتمع القدر الأكبر من التحليل حتى اعتبر بعضهم الآن مقولة: الفرد كمكون المجتمع أسطورة. إذا لم يكن هناك تحول في هذا النموذج فإن الحركات الإسلامية ستكون مجرد قيم وتجمعات بشرية يسهل التلاعب بها وستكون مشجب لكثير من السلطات التي تريد أن تستفيد من حالة الفوضى التي تعيشها المنطقة. استراتيجياً لم تعد تلك الاستراتيجية التحتية (تحفيز المجتمع للثورة) فاعلة فثورة الاتصال والعولمة وسيطرة الشركات الكبرى والمؤسسات الإعلامية التي تنشر سردياتها عبر المجتمعات تجعل منها استراتيجية ضعيفة غير قادرة على التغيير.
لعل قائلاً يقول هذا كلام نظري لا يؤثر. فما دامت القيم والمنطلقات واحدة فما الذي سيؤثر فيه شكل النموذج؟ بالطبع هذا الكلام غير صحيح، فالنماذج هي الفكرة الأساسية التي يتم من خلالها وضع سيناريو لتفسير الواقع وتحديد أهم المرتكزات التي يمكن أن يتغير من خلالها نحو المستقبل الذي يسعى الحراك المجتمعي الوصول إليه. كما أنه يحدد قضايا بعينها يوليها العناية دون غيرها. فالاهتمام بالمؤسسات في نموذج معين يختلف عن الاهتمام بالاقتصاد أو بالإنسان أو بالدولة. فالنماذج تعبر عن الأولويات والعلاقات البينية والزمن الذي نحدد به زمن ظهور مؤشرات التغيير: هي سيناريو متكامل يعبر عن المعالم البارزة للتغيير في ذهن المنظّر. كما أن النماذج تُظهِرُ قراءةَ التاريخ في الفكرة. وفي حالة الإسلام السياسي كان للسيرة دور بارز في الاستدلال بهذه المراحل. وكان لكتب منير الغضبان دور بارز من خلال تقسيم ما يسمى بالمنهج الحركي بين سرية التنظيم وجهرية الدعوة… لكن حتى السيرة كان النموذج هو الحاكم في قراءتها. فقد جهد عدد من مفكري الإخوان لتبيين هذا التسلسل المرتبط بالتعريف والتكوين والتنفيذ للفرد والأسرة والمجتمع… فالرسول يعرف أصحابه وهم أفراد على قيم الإسلام في دار الأرقم. ثم يبدأ تكوينهم من خلال صفات محددة ليبدأ التنفيذ بعد ذلك من خلال الجهاد في المرحلة المكية. ويبدأ دور الأسرة والمرأة في المراحل التي يتشكل فيها المجتمع خاصة في مكة وغزوة الأحزاب. ليبدأ الحديث عن حكومة ودولة وخلافة بعد ذلك. هذه القراءة التي تجدها تتكرر في الكتب الحركية وقد تكون هي السائدة في قراءة الحركات الإسلامية للسيرة. يمكننا أن نجد عدة قراءات قد تتحدد بالنموذج المسبق. ولا أتخيل أن كاتباً سيكتب بدون أن يكون له خارطة ذهنية يقرأ بها السيرة العطرة.
هذا لا يعني أن السيرة حمالة أوجه. وأن كلاً سيقرأ ما يريد. بل يعني أن القارئ هو الذي سيأتي للسيرة بخارطة ذهنية هي التي يريد أن يبرزها في عرضه. وهذا أمر طبيعي أي أن النموذج سيؤثر في هذه القراءة: فبإمكاننا مثلاً أن نعتبر المرحلة المكية هي المرحلة التي عرض الرسول فيها رؤية مستقبلية واضحة لقريش ولأهل مكة. فقد كان أول ما فعله بعد البعثة هو مناداته لسادة قريش وتنبيهه لهم أنه نذير لهم بين يدي عذاب شديد. وأن أمر النبي قد انتشر في مكة وعرفت به الركبان في الفترة التي يقال عنها سّرية فالرأي العام قد تأثر في تلك الفترة. وأن النبي صلي الله عليه وسلم قد جاء المدينة قائداً ورئيساً كتب الدستور وعقد التحالفات وقاد المعارك… فكيف يمكن أن نتخيل التركيز على الأسرة أو الفرد ونجعل هذا قبل هذا، اللهم إلا أن نعتبر ذلك استدلالاً وقراءة متعددة لخرائط ونماذج بعضها يبرز الاقتصاد وبعضها يبرز التربية… وهكذا تصاغ هذه العناصر وفق أهميتها في ذهن الباحث أو الذي يعمل في الشأن العام. لكن لا يقول أحد أبداً إنه ليس لأي نسق تاريخي إلا قراءة واحدة، إلا إذا كان مصاباً بمرض الأيديولوجيا المغلقة.
سيناريوهات المستقبل
هذا الطرح يقتضي أن يتشابه مستقبل الحركات الإسلامية بالتاريخ الطبيعي للحركات الاجتماعية. فالمسار الطبيعي للحركات الاجتماعي إما أن تنجح في تحقيق أهدافها وتتحول لأحزاب سياسية حاكمة كما هو حال الحزب المسيحي الديمقراطي الذي انتشر بعد الحرب العالمية الثانية في أوروبا، وكان له دور في موازنة التمدد الشيوعي في أوروبا، أو أن تجد هذه الحركات نفسها في السجون والمعتقلات، وتخرج من سياق المجتمع والتاريخ كماهي الكثير من الحركات الشيوعية والأناركية التي لم يعد لها ذكر إلا القليل، أو أن تعمل هذه الحركات على تطوير نماذجها المعرفية فتندمج مع المجتمع وتجعل مطالبها ضمن مطالب المجتمع، هذا قد يتداخل مع مفهوم الحراك المجتمعي ( (NSM new social movement فالحركات الاجتماعية القديمة هي تلك التي لها تنظيم و تسعى لتغيير المجتمع أما الحركات الجديدة فتلك التي لها مطالب محددة تسعى لتحقيقها ، لكنها قد تنتهي في حضن أحد الأحزاب الكبيرة ، و ذلك ما حدث في أمريكا اللاتينية ( الأرجنتين 1976) بعد اختطاف أبناء لبعض الأمهات اللاتي قمن بمظاهرات عارمة أعلن فيها أن العسكر هو من خطف أبنائهن و أجبرت العسكر على إطلاق سراح أبنائهن و من ثم تم انضمامهن لتيار يسعى لحماية حقوق الأنسان . وهكذا يمكن لهذه الحركات بعد تحقيق أهدافها أو غياب قيادتها أن تشارك تيارات أكبر داخل المجتمع جديدة أو قديمة وقد حدث هذا لجماعة الإخوان المسلمون في مصر عندما تم تشكيل تحالف دعم الشرعية، وقد يشارك بعض القيادات الشابة في منظمات أخرى للتأثير فيها وضمان استمرار الجماعة.
والمسار الآخر وهو تغير النموذج المعرفي الذي تكونت به هذه الجماعات، وهو النموذج الفرداني الذي يركز على الفرد كجزء من الفكر الذي ساد في بداية القرن العشرين. إذا تغير هذا النموذج الحاكم يمكن أن تتأثر الكثير من المرتكزات الحاكمة لهذه الجماعات وتتشكل قراءات جديدة للتراث، وكذلك يتحول التنظيم إلى شكل يناسب النظريات الصاعدة في القرن الحادي والعشرين كنظرية الفوضى ونظرية الشبكة ومن خلالها يمكن أن يصاغ نظام للتغير يتسق بدينامية المجتمعات ومطالبها التي انطلقت مع الربيع العربي.
الهوامش والمراجع:
[1]Tilly Charles، Social Movements، Michigen;1977
[2] Theory and research in SOCIAL MOVEMENT، ALDON MORRIS، Michigan: 1984
3 حسن البنا، مذكرات الدعوة والداعية، مكتبة الأفاق؛2012.
[4] Islamic Parties and Democracy، Journal of Democracy; July 2008، Volume 19، Number 3
[5] Green John، Rethinking Social Movement، ROWAN&LITTLFIELD;2004
[6] مصدر سابق.
[7] Hamid Shady، Temptation of power، Oxford;2014
[8] النشوء والارتقاء في المقتطف توفيق شروم، مجلة جامعة دمشق، 2010 –المجلد 21.
[9] سيد خسرو، الآثار الكاملة للسيد جمال الدين الأفغاني (خاطرات الأفغاني)، مكتبة الشروق الدولية.
[10] مصدر سابق.
[11] للاطلاع على تفصيل هذا المبحث انظر تفسير المنار، رشيد رضا، دار الرسالة،272-2865
[12] مجموعة الرسائل، حسن البنا، دار الدعوة؛1982.
[13] مصدر سابق.
[14]‘Ziad Maison، Islamic Mobilization: social movement they and Egypt Muslim brotherhood، The Sociological Quarterly، Volume 42، Number 4، pages 487–510.2001. The Midwest Sociological Society.
[15] نفس المصدر.
[16] جرامشي أنطونيو، قضايا المادية التاريخية، ت فواز الطرابلسي، منشورات المتوسط؛2017.
[17] مذكرات أحمد عبد المجيد، الإخوان وعبد الناصر القصة الكاملة لتنظيم عام 1956، الزهراء للإعلام العربي. (www.ikhwanwiki.com)
[18] نفس المصدر.
[19] محمد الغزالي، منذ خمسين عاما أريد أن أتحدث إلى الإخوان: https://www.ikhwanwiki.com/index.php?title
[20] سعيد حوى، جند الله تنظيما وتخطيطا، دار السلام؛ 2008.
[21] فتحي يكن، ماذا يعني انتمائي للإسلام، مؤسسة الرسالة؛2004.
[22] محمد أحمد الراشد، المنطلق، دار الرسالة؛ 2000.
[23] عبد الله النفيسي، من أيام العمر الماضي، مكتبة الأفاق؛2014. وانظر عبد الله النفيسي يدعوا لحل الإخوان المسلمون: http://alasr.me/articles/view/8690
[24] Carry Wickham Mobilizing Islam Religion، activism and political Changes in Egypt, Columbia University;2003.
[25]Yokota ، Democratization and Islamic Politics، Bulletin of Islamic Studies 1-2 (2007), pp. 148-164 Takayuki
[26] مصدر سابق.
[27] مصدر سابق.
[28] تصريحات نشرتها موسوعة الإخوان: http://www.ikhwanwiki.com/index.php?titl.
[29] مصدر سابق.
[30] Why the nations fail، Daron Acemoglu، Jammed A. Robinson،2012
[31] Roads from Past to Future، Charles Tilly، Roman& Littlefield، 1997