نحو تفكيك بنية الاستبداد السياسي في الأنظمة العربية
دراسة تحليلية في دور المجتمع المدني
د. عبد القادر حمزة
باحث في معهد دراسات الشرق الأوسط والعالم الإسلامي
جامعة مرمرة . تركيا
مقدمة
تعد ظاهرة الاستبداد السياسي من أهم القضايا الفكرية والبحثية التي حاول العديد من الباحثين على اختلاف مشاربهم في ضوابطها ومحددتها والتعمق في تحديد ماهيتها وحدود تأثيرها بغية تفكيكها وحصر مجال تأثيرها، يرجع الاهتمام المتزايد من طرف المجتمع البحثي بهذا الموضوع كون أن الاستبداد كظاهرة اقترن بتطور أنظمة الحكم وكذا تطور بنية النظام الاجتماعي والسياسي سواء في العالم العربي أو الغربي. في خضم هذا الطرح حدث تجاذب فكري ومعرفي في تحديد ماهية الاستبداد خصوصاً بين المدرسة والفكر الإسلامي والمدارس الغربية حيث حاول العديد من الباحثين والمفكرين المحسوبين على التيار الإسلامي تقديم رؤى وأطروحات تناقش مسألة جذور الاستبداد في العالم العربي والإسلامي محتكمين في ذلك إلى الأطر الشرعية والأدلة النقلية المتعلقة بقضايا العدل والحكم ، في هذا النسق حاول “عبد الرحمن الكواكبي” في كتابه المسمى “طبائع الاستبداد ومصارع الاستعباد” أن يشرح ظاهرة الاستبداد وعلاقتها بالقضايا الثقافية والاجتماعية كالدين والعلم والمجد والمال وقضية الأخلاق والتربية، وفي بحث أكثر عمق حول مسألة الاستبداد في العالم العربي والإسلامي قدم “محمد الغزالي” في كتابه “الإسلام والاستبداد السياسي” نظرة وتحليل حول هذا الأخير من خلال تعرضه لمسألة الشورى والاستبداد كمفهومين متناقضين وطبيعة الحكم المطلق كمتغير عام لعلاقة الحاكم بالمحكوم، وعلى النقيض من ذلك ناقش العديد من المفكرين والفلاسفة الغربيين أمثال هوبز، وجون لوك ومونتيسكيوا وغيرهم من المفكرين الحداثيين أطروحات وأفكار لمعالجة قضية الاستبداد وفق مقاربات ومناهج ترتكز أساساً على طبيعة الأنظمة السياسية وشكل أنظمة الحكم سواء في العالم الغربي أو العربي ، بحيث يرى هذا التيار أن الاستبداد أو الأنظمة التسلطية هي مجرد شكل من أشكال الحكم الذي تٌسلب فيه إرادة الشعب لصالح شخص واحد ينفرد بالسلطة وهو الحاكم بالشكل الذي تصبح فيه علاقة الحاكم والمحكوم مبنية على مبدأ الخضوع والإذعان بدل فكرة التوافق والمسؤولية، وفي خضم هذا الطرح جاءت العديد من المقاربات السياسية كمحاولة لتفكيك هذه الظاهرة سواء على المستوى القانوني والمؤسسي أو في جانبها الإجرائي والسلوكي.
مما سبق تحاول الدراسة في هذا الصدد البحث عن الأطر الكفيلة بتفكيك ظاهرة الاستبداد أو الدكتاتورية من خلال إبراز أهم الفواعل الأساسية من خلال توظيف مجموعة من المقاربات المفسرة لعملية التحول والتغير من الأنظمة الديكتاتورية المستبدة إلى أنظمة ديمقراطية بالتركيز على دور مؤسسات المجتمع المدني (المجتمع الأهلي) في ترسيخ القيم والثقافة الديمقراطية وكذا إبراز فاعلية دور النخبة في عمليات تفكيك الاستبداد. بناء على ما تقدم تنطلق الإشكالية من مجموعة من التساؤلات أهمها: إلى أي مدى يمكن أن يساهم المجتمع المدني في عملية تقويض ظاهرة الاستبداد في الوطن العربي ؟ و كيف يمكن فهم سياقات التفكيك المتعلقة بظاهرة الاستبداد في الفكر الإسلامي والغربي؟للإجابة على الإشكالية المطروحة وفهم السياقات المتعلقة بالظاهرة اقتضى تقسيم محتوى الدراسة إلى أربع محاور أساسية سنتناولها على الشكل المبين أدناه:
أولاً: تفكيك الاستبداد في المنظور الإسلامي
شكلت طبيعة العمق الحضاري والموروث الإسلامي أرضية خصبة للباحثين في العديد من المجالات الفكرية والسياسية والدينية ومجموع الظواهرالتي لها تقاسم مشترك مع الإرهاصات الفكرية المعاصرة مثل طبيعة نظم الحكم، والسياسة و الدولة وغيرها من المسائل المرتبطة بحركة التاريخ وتمظهراته الفكرية سواء التقليدية أو المعاصرة، في خضم هذا الطرح كان لفكرة الاستبداد حيزاً كبيراً من الاهتمام والبحث المعمق سواء من المفكرين المسلمين أو مجموع المستشرقين الباحثين في الشأن العربي والإسلامي.
ارتبطت مسألة الاستبداد عموماً بطبيعة ممارسة الحكم في الأنظمة السياسية الإسلامية و أثر ذلك على المجال المنظم للعلاقة التي تربط الراعي بالرعية، خصوصاً في القضايا المتعلقة بمسألة العدل ونظام الشورى والتي تعتبر أحد أهم المؤشرات القياسية لحجم ودرجة الممارسة الاستبدادية في أنظمة الحكم التي عرفها العالم الإسلامي. لذلك فإن عملية تفكيك بنية الاستبداد في النظم السياسية عامة والعربية والإسلامية خاصة ترتكز في أساسها إلى جانب معياري وآخر تجريبي يُفهم من خلاله طبيعة ونمطية الاستبداد، في هذا الصدد يرى “رفاعة الطهطاوي” من خلال كتابه المسمى” تلخيص الإبريز في تلخيص باريز”الذي حاول من خلاله فهم الخوض في فهم تجربة الحكم في فرنسا وعمل مقارنة ضمنية ترتكز في أساسها على فكرة الموروث العربي والإسلامي، يرى الباحث في هذا الصدد أن العدل كمحدد قيمي لممارسة الحكم سواء في الموروث الغربي أو الموروث الإسلامي هو الفاعل الأساسي لبقاء الدولة (العمران)[1]وبالتالي فإن الاستبداد المتولد عن تكليف الرعية بما لا تطيق هو بداية لخراب النظام العام الضابط للعلاقة البينية التي تحكم الحاكم بالمحكوم، وبالتالي فإن فكرة الاستبداد أو الظلم يجرمها الدليل العقلي و النقلي. في سياقات أخرى اعتبرت مسألة الطاعة (طاعة ولي الأمر) التي وردت في النص الديني والشرعي مسألة شائكة التفسير ومحل مساءلة العديد من الأفكار التي ترى أن فقه الطاعة شكل أحد المداخل الفعلية للاستبداد في أنظمة الحكم التي عرفها العالم الإسلامي وتولد عنها تغير في شكل وطبيعة الحكم خصوصاً بعد فترة الخلافة الراشدة وبداية تطبيق فكرة الخلافة وفق نموذج ملكي (الخلافة الموروثة)، ففي هذا المقام يرى المفكر “الجابري” أنه مع التحولات التي سايرها تطور نموذج الخلافة الإسلامية تولد عنه تحول في المفاهيم والمقاصد فقد تم تحويل القبيلة إلى عسكر وهو ما فسح المجال لتكوين طبقة خاصة تقوم مقام زعماء القبائل والغنيمة إلى وظيفة (ضريبة محددة) والتي أنتجت طبقة جديدة وهي خاصة الخاصة تعنى بالشؤون المالية للدولة والعقيدة إلى طاعة مطلقة للخليفة الذي يحكم باسم الدين،وبالتالي أصبح محور هذه التراتبية بمثابة العقد الاجتماعي الجديد المحدد لعلاقة الحاكم والمحكوم[2]. وفق هذا الطرح كانت عملية تفكيك الاستبداد في الفكر الإسلامي في أغلب الأحيان قائمة على فكرة فصل العلاقة بين الحاكم والمقدس (إسقاط قدسية الحكام) باعتباره مجرد بشر مكلف بتطبيق أحكام الشريعة وسياسة أمور الرعية ضمن إطار شرعي وآخر وضعي محدد لحدود صلاحياته. لذلك يرى الباحث “محمد العبد الكريم” في كتابه المسمى “تفكيك الاستبداد” أنه كي لا يصبح تشريع الاستبداد مطية يسوق من خلالها لطاعة الحاكم طاعة مطلقة لابد من ضبطه بالطاعة في المعروف لأن الإشكال ليس في فكرة طاعة ولي الأمر المُجمع والمتفق عليها ولكن الإشكال في طاعة ولي الأمر المتغلب المغتصب للحكم وحقوق الرعية [3]. في السياق نفسه تندرج أطروحة المفكر الإسلامي محمد عبده القائمة على تطبيق فكرة مدنية السلطة في الإسلام كمقاربة يمكن من خلالها تفكيك جذور الاستبداد من خلال “فك العلاقة غير الشرعية بين السلطة الزمنية (المجال السياسي) والسلطة الدينية قصد تجريد الحكم الاستبدادي من حجة شرعية و دينية يمكن أن يتحجج بها الحاكم لإنقاذ أحكام سياسته التسلطية”[4]. لذلك فإن المرجعية الفكرية التي تستند عليها فكرة فك الارتباط بين المقدس والمدنس كإطار عام تقوم على فكرة تجريد الحاكم من استغلال النص الديني لتبرير الفعل السياسي، لذلك فأساس تفكيك بنية هذه العلاقة يكون من خلال تجسيد فكرة “مدنية السلطة” كإطار محدد للعقد الاجتماعي البديل القادر على خلق آليات ومؤسسات تساهم في عملية تقويض الاستبداد، لأن المنظور العام لهذه المقاربة يرتكز إلى أن مبدأ الشريعة الإسلامية هي المصدر الأساسي للتشريع وأن مصدر شرعية السلطان أو الحاكم تتوقف على مدى التزام أفعاله وأحكامه مع حدود هذا التشريع، إلا أن هذا الطرح لا يتأتى إلا في سياق تشكل فيه الأمة أو الرعية مصدراً لمشروعية السلطة القائمة لأن السلطة حق مدني يرتبط بشكل وثيق بالقضايا الضابطة والمنظمة لشؤون الرعية وبالتالي فحق تولية الحاكم وكذا عزله عند الاقتضاء يدخل ضمن إطار وظيفتها الرمزية [5].
من جانب آخر يرى المفكر الإسلامي عبد الرحمن الكواكبي أن ” الاستبداد يعبر عن الحكومة التي لا يوجد بينها وبين الأمة رابطة معينة معلومة ومصونة بقانون نافذ الحكم”[6]وعليه فهو يرى أن فكرة تقويض منظومة الاستبداد الفكرية والبنيوية في العالم الإسلامي تبدأ في مرحلتها الأولى بشعور الأمة عامة بوطأة الاستبداد، لأن عدم الشعور بالاستبداد يفقد الأمة حريتها ويفسد طبائع الرعية ، كما أن مقاومة الاستبداد هي عملية تدريجية سلمية لا تحتكم إلى منطق القوة والشدة إضافة إلى أن فكرة تجفيف منابع الاستبداد تستند في المقام إلى بناء فضاء عام للحريات يُمكن الرعية من الاستيعاب المطلق لمفهوم الحرية قصد خلق بيئة مهيأة ومجال قابل لاستيعاب وتطبيق هذه الحريات في إطار مؤسساتي وسياق إجرائي يمكن من خلاله خلق وتكوين بنية جديدة ونظام عادل يكون بديلاً للنظام الاستبدادي[7] . وعليه فإن مجموع الأفكار المتعلقة بأسلوب تفكيك الاستبداد في الفكر الإسلامي تركز في أغلبها على فكرة الإصلاح الفوقي (مستوى هرم السلطة) باعتباره المتغير المحدد والمستقل الموكل إليه عملية التغيير في النظام لأن طبيعة العقد الاجتماعي والنظام الأخلاقي المُحدد للعلاقة البينية والوظيفية سواء للراعي أو الرعية محدد مسبقاً بنصوص دينية وشرعية، لذلك فإن إحداث تغيير سياسي ناتج عن المتغير التابع (الرعية ) لا يمكن أن يخرج عن بنية هذا العقد الاجتماعي والمنظور الديني والأخلاقي المنظم لمحور هذه العلاقة السببية، وبالتالي فإن تقويض بنية الاستبداد حسب هذا الطرح يتلخص في ثنائية تطبيق المقاصد الشرعية وتجسيد مسألة العدل في منظومة رضائية تستند عليها البنية الوظيفية المحددة لعلاقة الحاكم بالمحكوم .
ثانياً– تفكيك الاستبداد في المنظور الغربي
ارتبط مصطلح الاستبداد بشكل عام بالأنظمة السياسية التقليدية، وخاصة أنظمة الحكم الملكية والثيوقراطية التي تعطي الملك أو الحاكم مكانة عليا و حقاً مطلقاً في وضع قوانين وقواعد الحكم التي تُخضع الطبقة المحكومة لها دون امتلاك هذه الأخيرة حق مسائلة أو اختيار الحاكم لأن الملك وفق هذا المنظور له حرية مطلقة في تسيير شؤون رعيته وهو غير ملزم أو مقيد بأي نص أو سلطة مقيدة لحكمه[8]. في خضم هذا الطرح يعتبر المفكر السياسي توماس هوبز (1588–1679) أول مُنظِّر أشار بوضوح إلى مصطلح الاستبداد السياسي عند طرحه لفكرة ” البنية السياسية الموروثة والاستبداد” المتعلقة بمناقشة الأفكار السياسية ذات العلاقة بموضوع الحكم وعلاقته بفكرة الاستبداد الملكي” حيث يحاجج في هذا المقام بأن السيادة أو الحاكمية التي يتمتع بها الملك سواء من حيث الممارسة أو المفهوم تعبر في معناها الحقيقي عن امتلاك الحاكم لسلطة مطلقة يمارس من خلالها الحكم على رعايا مذعنين تماما لهذه السلطة[9] بمعنى أوضح أن هناك علاقة استبداد تعاقدي (خضوع يتشكل طبيعياً ) ينظم علاقة الحاكم بالمحكوم .
في هذا الصدد عرف الحكم الاستبدادي تطوراً من حيث البنية والمفهوم حيث شكلت فكرة استخدام القوة والعنف أو ما يصطلح عليه حالياً “بالعنف المادي المشروع للسلطة”أحد أهم الدعائم الضرورية المستخدمة للحفاظ على بقاء الأنظمة المستبدة وإعادة إنتاجها، لكن تأثير مجموع التحولات الاقتصادية والاجتماعية على بنية النموذج الإقطاعي وتحويله إلى نموذج صناعي قد ساهم في إحداث تغير اجتماعي نتج عنه تغير في تراتبية الطبقات والقوى الاجتماعية وحدود وظائفها ومستويات تأثيرها في المجتمع والدولة ( الجيش، البرجوازية، البروليتاريا) بحيث أنها أصبحت قادرة على منافسة هرم السلطة (الطبقة الحاكمة) أو على الأقل التأثير في صانع القرار فيها ، إضافة إلى أن تعقد إدارة الصراعات الإثنية والدينية على المستوى القطري للعديد من الإمبراطوريات التقليدية شكلت جملة من العناصر المؤثرة على منظومة الاستبداد التي أدت في نهاية المطاف إلى تغير أسلوب ونمطية الحكم داخل هذه الأنظمة التسلطية القائمة. في فحوى هذا النقاش ومع بدايات القرن الثامن عشر اتجهت معظم الأنظمة التقليدية المستبدة إلى زيادة حجم تكيفها السياسي مع مجموع التحولات الحاصلة على مستوى بنية وبيئة النظام سواء الداخلية أو الخارجية عبر تغيير نمط حكمها من الاستبداد القصري و المطلق إلى ما يصطلح عليه ” بالاستبداد المستنير” أو الحكم المستنير قصد الحفاظ على ديمومتها. حيث يُعبر هذا الأخير عن أسلوب حكم قائم على فكرة مأسسة المؤسسة الملكية قصد زيادة تكيفها الوظيفي والزمني بالشكل الذي يحقق سياسات الدولة وبرامجها من خلال استخدام الوسائل البيروقراطية والسياسية المتاحة بدلاً من الاعتماد على القوة المطلقة كفاعل وحيد في تسيير شؤون الحكم[10]. بمعنى آخر هو الانتقال إلى أسلوب حكم أكثر مرونة وتكيفاً يتم من خلال منح جزء من التفويض السياسي إلى الدوائر والهيئات الرسمية التي تقوم مقام الحاكم في تسيير شؤون الحكم بطريقة شبه تشاركية مع تغيير فكرة استخدام القوة والعنف كعامل وحيد وأساسي في عملية الحفاظ على بنية وتماسك النظام . كمثال عن ذلك، انتهج هذا الأسلوب في الإمبراطورية الروسية من طرف كاترين الثانية (Catherine II) حيث تجنبت في فترة حكمها فكرة استخدام القوة في التعامل مع الأقليات العرقية والدينية الداخلية و تعويض عامل القوة باستخدامها لأسلوب الإقناع و إتباع التدابير السياسية للحصول على مزيد من القبول الطوعي بالسيادة الروسية من طرف الأقليات الدينية والعرقية، وقصد تنظيم هذا الإطار تم إصدار مرسوم التسامح مع جميع الأديان في عام 1773 والذي كان نتاجه إدماج العديد من القيادات المسلمة في الهيكل الحكومي الروسي خصوصاً في فترة 1785-1796 وهو ما زاد من النفوذ الروسي في منطقة آسيا الوسطى[11]. على النحو نفسه يرى المفكر “موريس دوفرجيه” أن فكرة الاستبداد المستنير هي التي حافظت على ديمومة الأنظمة الملكية لفترة من العقود بما فيها الأنظمة الملكية الحالية وخاصة تلك الموجودة في دول الخليج حيث تستغل هذه الدول الريع البترولي في عملية إدماج المحكومين من خلال خلق استثمارات ضخمة وتحسين المرافق العامة وزيادة الدخل الفردي وهو ما نتج عنه خلق سياسة رضائية أو عقد اجتماعي جديد يوفق طبيعة العلاقة بين الحاكم والمحكومين في هذه الدول[12] . في خضم هذا الطرح وبغية تقويض ديمومة هذه الأنظمة السياسية المستبدة حاول العديد من المفكرين في المجال السياسي والاجتماعي البحث في طبيعة وبنية هذا الأنظمة وطرح مجموعة من الاقترابات والنماذج المختلفة التي يتم بموجبها تحديد نمط الاستبداد وكذا الآليات الكفيلة بإحداث عملية تغيير وتحول يفكك العلاقة السببية والمركبة التي ترتكز عليها هذه الأنظمة السياسية في إعادة إنتاج نفسها. لهذا فمجموع التصورات والنماذج المقدمة في هذا السياق تعمل على تعزيز إقامة أنظمة سياسية بديلة وكذا تحديد مجموع الإجراءات الكفيلة بالحفاظ على هذا التحول وعدم إنتاج أنظمة استبدادية بواجهات ديمقراطية شكلية[13]. كما أن مجموع الأبحاث التي تناولت كيفيات التحول والتغيير السياسي الحاصل على مستوى الأنظمة المتسلطة في هذا المنظور وظفت السياقات والأطروحات الوضعية المستسقاة من جملة التجارب الدولية التي تمت في هذا المجال، ويمكن حصر هذه التصورات في ثلاثة أنماط رئيسية لها علاقة وطيدة بفكرة تفكيك الاستبداد.
- التفكك والتحول من المستوى الفوقي (Top-down) :
وفق هذا النموذج تأخذ النخب السياسية الموجودة في النظام الاستبدادي القائم زمام المبادرة وتلعب دورًا حاسمًا في إنهاء هذا النظام وتحويله إلى نظام ديمقراطي، كما تتطلب عملية التغيير السياسي في هذا النمط وجود نخب سياسية قوية تكون في غالب الأحيان قوى من المعارضة. على سبيل المثال لا الحصر تعد التجربة البرازيلية أنموذجاً تحليلياً يناسب هذا السياق حيث أشار “ألفريد ستيبان” إنه عند بداية عملية التغيير السياسي، لم تكن هناك معارضة سياسية كبيرة ، ولا أزمة اقتصادية، لكن القادة والنخب السياسية الإصلاحية في البرازيل كان لديهم القوة لتحريك النظام البرازيلي نحو أكثر تشاركية وديمقراطية من النظام الذي كان قائماً[14]. وبالتالي إن أهم ما يحاجج به مؤيدي هذا الطرح في تناولهم لموضوع تفكيك الأنظمة التسلطية هو حجم و قوة النخب السياسية الإصلاحية المتواجدة في هرم النظام التسلطي ودورها في تغيير أو إسقاط الأنظمة الاستبدادية وتثبيت وتوطيد نظام ديمقراطي تشاركي بديل عن بنية النظام التسلطي،فحسب المفكر “رستو” إن خلق نظام بديل للأنظمة التسلطية (نظام ديمقراطي) يتطلب توصل النخب السياسية (الإصلاحية) إلى “إجماع إجرائي جديد يحدد قواعد اللعبة السياسية”[15].
- التفكك التفاوضي
وفقًا لهذا النموذج الانتقالي تحدث عملية تفكك الأنظمة التسلطية ، بسبب عجز وظائف النظام السياسي في مواجهة الدور المتزايد للقوى الاجتماعية التي تكون سبباً في حدوث تشرذم في بنية النظام الاستبدادي، بحيث إن إمكانية إحداث تغيير سياسي تكون نتاجاً لظهور الانقسامات الداخلية في هرم السلطة بين التيار المتشدد والملتزم باستمرارية الحكم الاستبدادي و التيار الإصلاحي الذين يتبنى طرح فكرة وضرورة تحرير النظام السياسي، وعلى أساس هذا الصراع يبحث التيار الإصلاحي عن حلفاء وتأييد من الجماعات المدنية المعتدلة والقوى الاجتماعية الجديدة الداعمة لفكرة التغيير والتحول[16]. فعلى سبيل المثال، اتسمت عملية التحول السياسي في كل من الأنظمة السياسية الموجودة في البيرو، الإكوادور وبوليفيا بـحدوث تفاوض مبدأي بين المعارضة والتيار الإصلاحي قصد إدارة المرحلة الانتقالية والخروج من كنف النظام الاستبدادي[17].
- التفكك من المستوى القاعدي( bottom-up))
ترتبط عملية التغير في هذا النمط بحدوث عملية تعبئة اجتماعية من طرف الفواعل المشكلة للفضاء العام السياسي والمدني مستغلة في ذلك زيادة المستوى التعليمي، والتنقل المهني، والتعرض لوسائل الإعلام وما ينتج عن ذلك من وعي عام قادر على إحداث عملية تحول سياسي في بنية النظام القائم. حيث أن وظيفة هذه التعبئة تعمل على تفكيك جملة المرتكزات البنيوية والفكرية التي استطاع النظام الاستبدادي أن يكرسها ويستغلها في عملية تقويض أي تحول سياسي أو اجتماعي من شأنه أن يغير أسلوب التنشئة ومحور الثقافة السياسية الداعمة للنظام التسلطي القائم ، ولذلك فعملية التعبئة الاجتماعية أو السياسية تعمل أساساً على فصل المواطنين عن جميع وجهات النظر والرسائل الاجتماعية التقليدية المضبطة لأي عملية تغيير سياسي وإعدادهم لولاءات والتزامات جديدة قائمة على فكرة تكريس مبادئ الحرية والعدالة الاجتماعية، والتسيير التشاركي للسياسات والمؤسسات العامة ، لذلك يركز هذا النموذج على قدرة مؤسسات المجتمع المدني على خلق قوى اجتماعية قادرة على إحداث عملية تحول وتغيير سياسي ديمقراطي[18].
نستنتج مما تقدم أن الحكم الاستبدادي في الأنظمة الغربية تَفَكك عبر العديد من المستويات والمراحل التي كانت بحاجة إلى صياغة أطر مؤسساتية وتنظيمية وعقد اجتماعي جديد يتكيف مع كل مرحلة من مراحل الاستبداد، لأن الأنظمة التقليدية المستبدة استطاعت حقيقة أن تتكيف بشكل متفاوت مع مخرجات التغير الاجتماعي ، والسياسي و الاقتصادي الناتج عن جملة التحولات التي مست بنية الأنظمة السياسية التقليدية، لكن نمطية هذا التكيف التدريجي هو الذي أفضى إلى عملية الانتقال من التصور الإجرائي القائم على فكرة ممارسة الحكم بطريقة لا تخضع إلى مستوى آخر يستطيع فيه الإطار القانوني والتنفيذي أن يقيد إرادة الحاكم الذي هو مصدر القانون في الدولة وصولاً إلى سياق يملك فيه الملك ولا يحكم، مع إخضاع الهيئة الحاكمة التي يمثلها إلى بيئة قانونية يمارس في إطارها حدود صلاحيته أي الانتقال من الحكم الملكي المطلق إلى الملكية الدستورية ومن الأنظمة الاستبدادية إلى أنظمة ديمقراطية[19].
ثالثاً– المجتمع المدني في مواجهة الاستبداد
على الرغم من أن المجتمع المدني كظاهرة سوسيو-سياسية ارتبطت دائماً بمستويات التحول الحاصل في بنية المجتمع وتطور وظائف الدولة إلا أن دوره الوظيفي في عملية تفكيك الأنظمة الاستبدادية جاء في سياقات فكرية حديثة ومعاصرة ناقشت آليات التفكيك والبناء التي بموجبها يتم التحول والتغير من الأنظمة التسلطية إلى أنظمة غير مستبدة و ديمقراطية.
في خضم هذا التجاذب الفكري المتعلق بسياقات التفكيك والبناء أشار العديد من الباحثين والأكاديميين إلى أن وظيفة مؤسسات المجتمع المدني في سياق دراسة الأنظمة السياسية المقارنة تعد مقاربة حديثة لفهم الكيفيات والآليات التي تحدث من خلالها عمليات التحول والتغير السياسي في الأنظمة عامة والاستبدادية خاصة.
تدعم هذه الأطروحة مقاربة التحول والتغير السياسي الموجه من القاعدة إلى القمة ((The bottom-up democratization)) كما أسلفنا الذكر فهدف هذا التصور هو تحديد الكيفية والفواعل المساهمة في عملية تقويض المجال السياسي للاستبداد والتحول نحو النظم الديمقراطية. يحاجج أصحاب هذا الطرح أن مجموع الفواعل المشاركة في عملية تغيير النظام السياسي ترتكز على فكرة توجيه عملية التغيير السياسي من الأسفل ((مؤسسات المجتمع المدني والبيروقراطيين المحليين)) إلى الأعلى (النظام السياسي الديكتاتوري) قصد القضاء على بيئة وبنية النظام التسلطي جذرياً وتعويضه بفواعل بديلة لها عبر خلق مجال سياسي وفضاء اجتماعي يعمل ضمن بيئة سياسية توافقية جديدة تعزز المكانة الوظيفية للمجتمع المدني ودوره في عمليات الانتقال الديمقراطي وتفكيك بنية النظم التسلطية[20]، على اعتبار أن مؤسسات المجتمع المدني تعمل على كسر عدم قابلية الأنظمة المستبدة لعملية التنمية السياسية التي يتم من خلالها خلق بيئة مواتية وفضاء خصب لممارسة العمل الديمقراطي، لأن وظيفة وطبيعة العناصر المكونة للمجتمع المدني تعمل على تحسين الأداء الديمقراطي عبر خلق شرعية سياسية جديدة للأنظمة السياسية وكذا معالجة الإطار البنيوي المسبب للأزمات الديمقراطية (خاصة أزمة السلطة والاستقرار السياسي وأزمة الهوية )[21]. في خضم هذا الطرح يمكن أن نستدل بدور مؤسسات المجتمع المدني في تونس حيث ساهم هذا الأخير في تفكيك بنية النظام السياسي الذي نظام الرئيس بن علي وهذا من خلال رفضه الدائم للعمل بمحتوى الدستور السابق خصوصا في مرحلة ما بعد الثورة من خلال مطالبته بتشكيل جمعية تأسيسية لإعداد دستور جديد يضمن حريات وحقوق أكثر للمواطنين ويجدد الحياة السياسية بعيدا عن موروثات وتبعات النظام السابق[22]. إضافة إلى هذا تعمل الجمعيات المدنية على الهيمنة على المجال العام الذي يقوض المجال السياسي المتحكم فيه من طرف السلطة بالشكل الذي يمكن مجموع الأفراد المنتمين لهذه المنظمات المدنية من القيام بتعزيز شبكاتهم الاجتماعية والتعبير عن علاقاتهم (الأخلاقية)المناهضة لفكرة الاستبداد التي تشكل لنا في آخر المطاف معايير و قيم سياسية تدعم أفكار التحرر من المجال السياسي المقوض لفكرة العدالة والحرية. لذلك فإن انتقال هذه القيم من مستوى الفكرة إلى الفعل الاجتماعي يؤدي إلى تشكل العقل الجمعي والتصور المشترك القائم على فكرة المواطنة الديمقراطية التي تعتبر ركيزة أساسية في تكوين الوحدة الاجتماعية وخلق بيئة مثالية للعمل الديمقراطي[23]. وبالتالي فإن عملية تفكيك الاستبداد من خلال هذا المنظور ترتكز على مجموعة الأدوار التي من خلالها يستطيع المجتمع المدني أن يشكل مجالاً عاماً يمكن من خلاله تجسيد تنمية سياسية حقيقية تعمل على تفكيك بنية الاستبداد وكذا ترسيخ قيم الحرية والسيادة الشعبية والمؤسسات الحرة الكفيلة بخلق نظام بديل عن النظام الاستبدادي، هذا لأن التنمية السياسية تساهم في زيادة قدرة النظام السياسي على إدارة الشؤون العامة والتعامل مع المطالب التي تعكس طبيعة الثقافة السياسية للمجتمع[24].
عند حديثنا عن المجتمع المدني وعلاقته بمستويات المشاركة السياسية على اعتبار أن محور هذه العلاقة يعتبر محدداً رئيسياً في عملية تنميط النظم الديمقراطية، نشير إلى رؤية روبرت بوتنام “Robert D. Putnam “ الذي يعتقد أن أهم وظيفة يمكن أن تقوم بها منظمات المجتمع المدني في عملية تقويض الأنظمة السياسية التسلطية هي قدرته على زيادة نسبة المشاركة الجماعية للأفراد في عملية ترسيخ القواعد المنظمة للمجتمع والتي تعد مكوناً أساسياً في عملية تكوين “رأس المال الاجتماعي” اللازم لخلق التعاون ما بين المجال السياسي والفضاء العام المدني[25]. يمكن أن نفهم سياق هذه الأطروحة من خلال تجسيد الدور الذي قامت به منظمات المجتمع المدني في أمريكا اللاتينية والتي أحدثت مقاومة فعالة ساهمت في عملية تفكيك الأنظمة الاستبدادية التي كانت تحكم هذه الدول عبر توظيفها الإطار البنيوي المكون للمجال العام في عملية نشر الأفكار الديمقراطية ونقلها إلى مستويات سلوكية وقيم تعمل على تغيير بنية المجتمع من الأسفل لخلق مستويات تأثير أكبر على البنية الفوقية (السلطة). كان نتاج هذه العملية هو توسيع مجال المشاركة السياسية في عملية الإصلاح السياسي وإجراءات التمثيل العام وتفويض السلطة. إضافة إلى مشاركة منظمات المجتمع المدني في إعداد دستور جديد، وإضفاء الطابع المؤسسي على العديد من المجالات التي لها علاقة بالحرية الفردية والجماعية. علاوة على ذلك، وبغية تقويض إعادة بناء أنظمة تسلطية في دول شرق أوروبا رافقت منظمات المجتمع المدني عملية تحديث الأحزاب السياسية وإنشاء نظام انتخابي يدعم فكرة توسيع مجال التمثيل السياسي الذي يشمل كافة الأطياف السياسية المكونة للمجتمع وكذا إضفاء مزيد من الشفافية والمساءلة على العمل السياسي من خلال القيام بالتعبئة الاجتماعية التي تفضي إلى مشاركة الجمهور في عملية مراقبة الانتخابات أو تحديد نتائج الانتخابات والسلطة التشريعية[26].. في السياق نفسه استطاعت العديد من تنظيمات المجتمع المدني في الوطن العربي على الرغم من محدودية دورها في عملية تفكيك بنية الأنظمة السياسية في المنطقة أن تغير الثقافة السائدة القائمة على فكرة التخويف والسلبية من أي تغيير سياسي قادر على الإطاحة بالأنظمة المستبدة ولعل أبرز مثال عن ذلك هو الحالة المصرية ودور منظمات المجتمع المدني الناشطة في الإطاحة بنظام حسني مبارك[27].
رابعاً– المجتمع المدني والاستبداد في الوطن العربي أي دور…؟
يعتبر المجتمع المدني بمفهومه المعاصر بنية مستحدثة على البيئة والمنظومة السياسية العربية على الرغم من وجود تشابه وظيفي بينه وبين وظائف بعض المؤسسات التقليدية المستوحاة من الموروث العربي والإسلامي كمؤسسات الأوقاف، المساجد، الزوايا والمدارس الدينية وغيرها من التنظيمات. لذلك فإن الإطار البنيوي والوظيفي المكون للمجتمع المدني المعاصر ومستويات العلاقة التي تربطه بالدولة والنظام السياسي الراهن يختلف مضمونه الإجرائي عن طبيعة النمط المنظم لمؤسسات المجتمع المدني التقليدية. مرد هذا الاختلاف يرجع أساساً إلى السياق الزمني والمكاني الذي نشأت فيه هذه المؤسسات، حيث أن المجتمع المدني بمنظوره المعاصر هو محصلة ونتاح للتحولات والتغير الاجتماعي والسياسي الذي رافق مختلف مراحل بناء الدولة، في حين أن الآخر جاء في سياق عقد اجتماعي ديني وأخلاقي محدد مسبقاً كما أشرنا سابقاً. إلا أن المُجمع عليه في اعتقادنا أن المجتمع المدني المعاصر في الدول العربية ضعيف الأداء والانتشار مقارنة بنظيراتها في الدول الغربية،لأن بناء الدولة في السياق العربي لم يدمج مؤسسات المجتمع المدني بنوعيها التقليدي والمعاصر في عملية التأسيس للعقد الاجتماعي المحدد لطبيعة العلاقة بين الحاكم والمحكوم في هذه الأنظمة، وبالتالي فإن النخب السياسية المكونة للسلطة الحاكمة عملت على منع أي دور فعال ومنتج لمؤسسات المجتمع المدني التي من شأنها أن تخلق مجال موازي للنظام والسلطة [28]. نتاج هذا الفعل السياسي أثر على مستويات العلاقة البينية للدولة والمجتمع المدني في هذه الدول، لذلك ولحد الساعة فإن نمط الطبيعة العلائقية لهذا التصور البيني لا تخرج عن سياق علاقة صراع والتصادم أو علاقة إخضاع، على الرغم من أن التصور الغرامشي (Gramsci) يعزز فكرة الصراع بين الدولة والمجتمع المدني على اعتبار أن هذا الأخير هو المجال العام الذي ينبغي أن تتجسد فيه الهيمنة القادرة على كسر الأيديولوجية السائدة التي يستغلها النظام الاستبدادي كأداة لإعادة إنتاج هيمنته[29]. إلا أن هذا الصراع يمكن أن ينتقل إلى مستوى التوافق أو الإخضاع عندما تدرك النخب التسلطية أن الدولة في سياقها الراهن بحاجة إلى تحقيق الهيمنة السياسية من خلال وسائل أخرى بديلة عن فكرة استخدام العنف والإكراه المادي وحسب منظوره أنه يمكن تحقيق ذلك من خلال بناء توافق في الآراء من خلال مختلف المؤسسات الخاصة، مثل الأحزاب السياسية والنوادي والنقابات والشركات [30]. في خضم هذا الطرح يلاحظ أن أغلب الأنظمة السياسية العربية لها علاقة تفاعلية أفقية فقط مع الفواعل المكونة لبنية نظام الحكم أو تلك التي كانت سبباً في تكونها (العامل الخارجي) في حين أن بقية الفواعل الأخرى والتي تعتبر جزءاً أساسياً في خلق نسق سياسي منتظم (الأحزاب السياسية، القطاع الخاص، المجتمع المدني….) ما زالت تشكل تهديداً لها، لذلك فإن هذه الأنظمة وقصد الحفاظ على بنية العقد الاجتماعي الذي تستمد منه شرعيتها وتتحكم به في شعوبها إما توظف القوة باعتبارها حق للنظام في عملية حفظ مؤسساته -العنف المادي المشروع- (مصر،سوريا…) أو توظف العامل المادي سواء من خلال تقويض مصادر تمويل منظمات المجتمع المدني وبأعلى أي صوت معارض أو عبر تمويلها قصد خلق مجتمع مدني تابع يسوق لأيديولوجية النظام السياسي وهو ما تولد إما ديمومة أنظمة ملكية استبدادية مستنيرة أو أنظمة ديمقراطية مزيفة.
استناداً إلى ما تقدم ذكره يظهر أن وظيفة المجتمع المدني في عملية تفكيك الاستبداد في الوطن العربي تأخذ منحى متشعباً ومتشابكاً إلا أن إعادة بناء ومأسسة المجال العام الذي تشغل فيه مؤسسات المجتمع المدني دور الوسيط بين الدولة والمجتمع من شأنه أن يعيد بناء الرأي العام الذي يصحح أو ينتقد مجموعة السياسيات وكذا صانع القرار على مستوى هذه الدول[31]. لأن صانع القرار في هذه المنظومة يهمش كل المجموعات الاجتماعية التي لا تمتلك وسائل للتعبير عن اهتماماتها على الرغم من وجودها،لذلك فإن تجميع المصالح المشتركة في شكل تنظيمات اجتماعية تسيرها نخب علمية ودينية واقتصادية تشتغل فيها المجال العام وتمتلك الموارد ووسائل الإعلام اللازمة لإنشاء مجموعات ضغط ناجحة[32] من شأنها أن تقوض مسارات الاستبداد المستدام التي تسعى هذه الأنظمة إلى تكريسه. كما أن زيادة الضغط الاجتماعي والسياسي على بنية وسلوكيات هذه الأنظمة ينبغي تكيفاً وظيفياً وزمنياً لمؤسسات المجتمع المدني النشطة في المنطقة العربية بالشكل الذي يمكنها من أداء دور رقابي فعال، وهذا لا يتم إلا من خلال توسيع مجال نشاطها جغرافياً ووظيفياً بحيث لا يبقى نشاط المجتمع محصوراً فقط في المناطق الحضرية بل ينبغي أن يتغلغل إلى جميع المناطق التي تمثل حاضنات للطبقات الاجتماعية المهشمة بالشكل الذي يخلق فيما بعد أداء وظيفياً قادراً على زيادة حجم التعبئة الاجتماعية والسياسية وكذا يحقق قابلية تشبيك العلاقات بين المستوى الداخلي ومجموع المنظمات الدولية غير الحكومية التي تتقاسم نفس التصورات والأفكار خصوصاً في المسائل المتعلقة بحقوق الإنسان ومجال العدالة وغيرها من المجالات التي تنظم مسألة الحقوق المدنية والسياسية للمواطنين لكن بشرط أن توافق هذه التصورات طبيعة الموروث الديني والاجتماعي المكون للبيئة والبنية الاجتماعية للدول العربية. لنصل أخيراً إلى تشكيل نظام قيمي وأخلاقي يعكس سلوكيات الأفراد الرافضة لأي نوع من أنواع التحكم والاستبداد وهذا لا يتأتى إلا من خلال إعادة بعث وتجديد مؤسسات المجتمع المدني التقليدية خصوصاً دور المساجد والأوقاف قصد تجديد المنظومة الأخلاقية و ترسيخ قيم العمل الجماعي والرقابة الذاتية بما يتوافق وطبيعة البنية الاجتماعية العربية والإسلامية .
خاتمة
نستشف من خلال النقاش الفكري السابق الذكر والمتعلق بمسألة تفكيك بنية الاستبداد سواء على المستوى الفكر الإسلامي أو الغربي أن قضية الاستبداد ومسألة تفكيكه تعبر عن طرح متعدد الأبعاد والجوانب، فعلى الرغم من اختلاف البيئة السياسية والموروث الثقافي المحدد لطبيعة الأنظمة السياسية فإن جوهر وأثر الاستبداد على الشعوب يكاد يكون قضية متفقاً عليها. لهذا فمجمل الدراسات المتعلقة بهذا وخاصة تلك الدارسة للنظم السياسية، ترى أن غياب تواجد مؤسسات مجتمع مدني فعال في المجال العام الذي يتوسط الدولة والمجتمع من شأنه أن يخلق ديمومة للاستبداد في الأنظمة السياسية عامة والعربية خاصة. لذلك فإن عملية تفكيك وتقويض الأنظمة الاستبدادية في العالم العربي لابد لها من إطار مؤسساتي وتنظيمي يمنع النخب السياسية الحاكمة من الاستفراد بالسلطة الحاكمة، وهذا لا يتم إلا من خلال إعادة إنتاج وبعث مجتمع مدني حقيقي قادر على الهيمنة على الفضاء العام والحيلولة دون أن تكون الدولة هي الفاعل الرئيسي والوحيد المتحكم في عملية صنع القرار ، ولتعزيز هذا الإطار المؤسساتي لابد من ربطه بإطار وظيفي يمكن من خلاله خلق سياقات فكرية ووظيفية تمكن منظمات المجتمع المدني من أن تكون فاعلاً رقابياً ومشاركا في عملية صنع ورسم السياسات بغية خلق أطر جديدة تمكن المنظمات والفواعل الأخرى من عملية المشاركة في صنع القرار بالشكل الذي يجعلها تتكيف وظيفياً وزمنياً ضد جميع التحولات التي من شأنها أن تعيد إنتاج أنظمة سلطوية أخرى في الأنظمة السياسية العربية ، وهذا ما ينتج لنا بدوره نظام قيمي و إطار سلوكي يحقق لنا الاتساق التام بين الجانب المؤسسي و الدور الوظيفي للمجتمع المدني خصوصاً في الوظيفة المتعلقة بتقويض جميع السياقات المنتجة للاستبداد.
[1] – رفاعة رافع الطهطاوي، تلخيص الإبريز في تلخيص باريز،( مصر: مؤسسة هنداوي، 2012) ص105.
[2] – محمد عابد الجابري، العقل السياسي العربي: محدداته وتجلياته،( بيروت: مركز دراسات الوحدة العربية، 2000) ص.350.
[3] – محمد العبد الكريم، تفكيك الاستبداد دراسة مقاصدية في فقه التحرر من التغلب،ط1، (بيروت: الشبكة العربية للأبحاث والنشر، 2013) ص.72.
[4] – عبد الإله بلقزيز، الدولة في الفكر الإسلامي المعاصر، ط2، (بيروت: مركز دراسات الوحدة العربية) 2003 ص.50.
[5] – المرجع نفسه، ص51..
[6]– عبد الرحمان الكواكبي، طبائع الاستبداد ومصارع الاستعباد، ط3،( بيروت: دار النفائس، 2006) ص 17.
[7] – المرجع نفسه، ص179.
[8] – صالح جواد الكاظم وعلي غالب العاني، الأنظمة السياسية،( بغداد: دار الحكمة، 1991) ص.15.
[9] – Michael Curtis ,Orientalism and Islam European Thinkers on Oriental Despotism in the Middle East and India ,) United States of America : Cambridge University Press ,2009(, p.56.
[10] – Alan W. Fisher, Enlightened Despotism and Islam Under Catherine, Slavic Review, vol. 27, no 4) 1968( p.542.
[11] – Ibid, p.543.
[12] – موريس دي فارجيه، المؤسسات السياسية والقانون الدستوري: الأنظمة السياسية الكبرى، ترجمة: جورج سعد، ط1،( بيروت: المؤسسة الجامعية للدراسات والنشر، 1992) ص.341.
[13] – Munck, Gerardo and Carol Skalnik Leff, Modes of transition and democratization: South America and Eastern Europe in comparative perspective, Comparative Politics , Vol. 29, No. 3,(1997) p.343.
[14] – Samuel P. Huntington, How Countries Democratize , Political Science Quarterly, Vol. 106, No. 4 (Winter, 1991-1992) p.591.
[15] -Samuel P. Huntington, The Third Wave Democratization in the Late Twentieth Century, ( University of Oklahoma Press, 1993) p.36.
[16] – Kevin Neuhouser, Transitions to Democracy: Unpredictable Elite Negotiation or Predictable Failure to Achieve Class Compromise?. Sociological Perspectives, vol. 41, no 1, )1998( p.70.
[17] – Samuel P. Huntington, The Third Wave Democratization in the Late Twentieth Century, p.166.
[18] – Robert Springborg, Negotiated Transitions to Democracy, Critique: Critical Middle Eastern Studies, vol.3, No. 7) 1994( p.01.
[19] – ثامر كامل الخزرجي ، النظم السياسية الحديثة والسياسات العامة: دراسة معاصرة في إستراتجية إدارة السلطة ، ط1،( عمان: دار مجدلاوي ،2004) ص.268.
[20] – Faraon, Montathar, Co-creating democracy: Conceptualizing co-creative media to facilitate democratic engagement in society,Thèse de doctorat. Department of Computer and Systems Sciences, Stockholm University, 2018, p.32.
[21] – ليلى بن بغيلة، دور المجتمع المدني في التحديث والتنمية السياسية في الجزائر، مجلة المعيار، العدد 35، (2014) ص.343.
[22] – برنامج الأمم المتحدة الإنمائي، تقرير موجز حول التجارب الدولية والدروس المستفادة والطريق قدما، المنتدى الدولي حول مسارات التحول الديمقراطي، 5-6 يونيو (2011) ص.29.
[23] – Amanda, Bernard, Henny, Helmich, Civil society and international development, OECD Publishing, )1998( p.30.
[24] – Pye, Lucian W., and Sidney Verba, Political culture and political development, )New Jersey : Princeton University Press, 1969( p.13.
[25] – Foley, Michael W. and Edwards, Bob ,The paradox of civil society, Journal of democracy, vol. 7, no 3,)1996( p. 41.
[26] – Alagappa, Muthiah, Civil society and political change: An analytical framework, Civil society and political change in Asia: Expanding and contracting democratic space, (2004),p.p, 25-57.
[27] – عمرو الشوبكي وآخرون ، الحركات الاحتجاجية في الوطن العربي: مصر- المغرب- لبنان- البحرين- الجزائر-سوريا-الأردن، ط2، (بيروت: مركز دراسات الوحدة العربية، 2014) ص258.
[28] – برهان غليون، مجتمع النخبة، ط1، )بيروت: معهد الإنماء العربي،1986( ص.278.
[29] – Toepler, Stefan, Zimmer, Annette, Fröhlich, Christian, et al. The Changing Space for NGOs: Civil Society in Authoritarian and Hybrid Regimes. Voluntas:International Journal of Voluntary and Nonprofit Organizations, (2020), p.17.
[30] – Amon. Barros et Scott. Taylor. Think tanks, business and civil society: The ethics of promoting pro-corporate ideologies. Journal of business ethics, vol. 162, no 3,( 2020) p.507.
[31] – Erich J. Sommerfeldt, The civility of social capital: Public relations in the public sphere, civil society, and democracy, Public Relations Review, vol. 39, no 4, (2013) p.281.
[32] – Zhuravleva, Irina Vladimirovna. Institutions of civil society in space of democratic politics. In : Procedia-Social and Behavioral Sciences. Vol. 166: Proceedings of The International Conference on Research Paradigms Transformation in Social Sciences 2014 (RPTSS-2014), 16–18 October 2014,( Tomsk, Russia, 2015. Elsevier, 2015) p. 548 .