هل السياسة تتوقف عند حافة الماء؟
قراءة نظرية لمعضلة الاستدعاء الأيديولوجي في السلطة
د. عبد الحق دحمان
مركز المجدد للبحوث والدراسات – الوحدة السياسية
إذا انطلقنا من الافتراض القائل بأن السياسية الداخلية تشكل جزءاً مهماً من تفسيرات السياسة الخارجية للدول، فإن ما يشكل تفسيراً سياسياً محلياً لخيارات السياسة الخارجية للدول لم يتم تفصيله بوضوح، حيث صورت الواقعية الدول كفواعل وحدوية وعقلانية، بحيث تأخذ بعين الاعتبار ما ستفعله أو قد تفعله الدول الأخرى عندما تختار السياسات الخارجية. في حين أن السياسة الخارجية يمكن فهمها بشكل أفضل إذا افترضنا أنها نتاج تفاعلات مستمرة للجوانب الحزبية ومنظورها للتغيرات في البيئة الإقليمية والدولية ليس برؤية السلطة بل بالرؤية المعيارية للحزب، فكون هذا الأخير يحمل أيديولوجيات وتفضيلات مجتمعية مختلفة، فإنه يمكن أن ننظر إليه على أنه يحمل رؤية للسياسة الدولية وقضاياها أيضاً.
إن التساؤل الأكثر إثارة للاهتمام هو ماهي أهمية السياسة الداخلية بالنسبة لصنع القرار الخارجي، فقضايا الحرب والنزاعات الإقليمية بلا شك تحتاج الى مساهمين محليين لاتخاذ قرار بشأنها، بالإضافة إلى القضايا السياسية والاقتصادية كالتجارة والديمقراطية وغيرها كلها تدفع إلى الحجة القائلة بأن العوامل السياسة المحلية يمكن اعتبارها كمتغيرات مستقلة أو على الأقل متداخلة ولا يمكن تجاهلها عند صناعة القرار الخارجي. بالتالي إشكالات مثل هذه تحتاج إلى ضبط العوامل والجهات الممثلة داخل الدولة وذلك لتفسير خيارات السياسة الخارجية إذا افترضنا أنها تحمل تفسيراً سياسياً داخلياً. لذا فإن الاعتبارات المحلية والسياسية لا تقل أهمية عن العوامل الدولية عند اتخاذ قرار معين.
نظرياً، هدف أي حزب بكل بساطة هو زيادة أصوات الحزب إلى الحد الأقصى في أي استحقاقات قادمة. مثل هكذا هدف من شأنه أن يقودنا إلى توقع أن الأحزاب لن تتبنى سياسة الحكومة في حال كانت محسوبة على المعارضة بل ستتخذ مواقف تتقارب الى حد ما من رأي الناخبين بشأن قضية معينة. وذلك للحفاظ على الدعم الانتخابي والتشريعي اللازم للبقاء كقوة انتخابية محتملة. وعليه فالحزب الذي تتطابق تفضيلات سياسته الخارجية مع تفضيلات قاعدته الانتخابية في حال كان خارج الحكومة سيشعر بحرية نسبية في تبني سياسات معارضة لسياسات الحكومة. ليتطابق في هذه الحالة موقف السياسة الخارجية مع التفضيلات الأيديولوجية للحزب. على العكس من ذلك في حال كان الحزب جزء من حكومة فهناك متغيرات كثيرة تفرض نفسها على صناعة القرار الحزبي تجاه السياسية الخارجية، لجهة طبيعة النظام السياسي الموجود، وكذا هامش التطابق بين أولويات السياسة للأحزاب السياسية وأولويات الحكومة.
يمكن النظر إلى مفاوضات تشكيل الحكومة على أنها ساحة لصنع السياسات حيث يكون برنامج الحكومة انعكاساً حقيقياً للسياسات والنوايا السياسية للحكومة المستقبلية. على سبيل المثال تتطلب صنع السياسة (الخارجية) في إطار الحكومة الائتلافية مفاوضات بين الأحزاب السياسية المختلفة لتحديد السياسات اللاحقة ومختلف الترتيبات والمبادئ التوجيهية المسبقة بين الأحزاب الحاكمة كضرورة للحد من صراع محتمل بين شركاء التحالف والذي من شأنه أن يؤدي إلى سقوط مجلس الوزراء. لذا نفترض بأن مشاركة الأحزاب السياسية من حيث تفسير صعود وهبوط الاهتمام بقضايا معينة قد تحدث في مرحلة مبكرة من عملية صنع سياسة التحالف، ولا سيما أثناء المفاوضات السرية لتشكيل الحكومة. وعليه فإن استدعاء التفضيلات الحزبية وفرضه على الحكومة من شأنه أن يسبب جدلا او صراعا بين شركاء الائتلاف الحكومي ويشتت وجهات النظر، ذلك ان الحدث الخارجي يحتاج الى الرد ضمن هوامش سياسة محددة ومتفق عليها، ولا يعطي الأولوية للمناقشة مع شركاء الائتلاف. لذا فمن الصعب على الحزب فرض أو تبني تفضيلات أيديولوجية معينة من دون مراعاة باقي الأحزاب المشاركة في الائتلاف.
ثم حجة لدى الواقعين مفادها أن “السياسة تتوقف عند حافة الماء Politics stops at water’s edge”، فيما معناها أن الخلافات الحزبية يجب أن تحيد جانباً إذا تعلق الأمر بقضايا الأمن أو وجود تهديدات كبرى للدولة، نتيجة لذلك فمستبعد جداً حدوث تصويت حزبي ضد قضايا الأمن الوطني، بعبارة أخرى فإن التصويت على قضايا السياسة العليا يلقى نوعاً من الإجماع عند مقارنتها بقضايا السياسة الدنيا. كون أن السياسة العليا تعطي الأسبقية للأفعال بين الدول، بالتالي الأهداف الحزبية المتضاربة تتجمع في الأخير في تفضيلات الدولة ومعتقداتها. على عكس السياسة الدنيا التي تلقى استقطاباً حاداً بين الجهات الفاعلة. بالتالي من الضروري التمييز بين السياسات “العليا” للعلاقات بين الدول والسياسات “الدنيا” على مستوى الوحدة الدولتية الفرعية التي تكون فيها الجهات الفاعلة متنوعة وتعكس توجهات مختلفة.
تتمثل إحدى الطرق في فهم أهمية السياسة الداخلية في صنع السياسة الخارجية للدولة فيما إذا كانت السياسة تتوقف حقاً عند حافة الماء، وهل يتلقى الرؤساء الدعم المناسب من الأحزاب السياسية بشأن قضايا السياسة الخارجية. فبالنسبة لأبرز نظريات العلاقات الدولية، الواقعية البنيوية، فإن السياسة الداخلية لا تشكل أهمية إذا تعلق الأمر بصنع القرار في السياسة الخارجية. كون أن السياسة الخارجية لا تنشأ نتيجة اهتمامات ومطالبات أيديولوجية لحزب معين، وإنما مصلحة الدولة هي الموجه في هذا الصدد. على العكس من ذلك فإن فتح المجال للاستقطابات الحزبية الداخلية فيما يخص مسائل السياسة الخارجية، فمن شأن ذلك أن يضعف الموقف التفاوضي للدولة ويجعلها أكثر عرضة لضغوطات الخصوم. وتفسر أدلة الواقعيين تحييد الخلاف الحزبي عبر حجة التهديد الأمني الخارجي، عندما تصبح الوحدة الوطنية على المحك مع حالات الشك وعدم اليقين بشأن التهديدات الخارجية، فإن الخلافات الحزبية يجب أن توضع جانباً مع ضرورة إبداء موقف موحد تجاه الخصم، مما يساعد التماسك الداخلي وبل ويزيد من احتمالية وجود تحالفات عبر أيديولوجية بين الأحزاب فيما يخص إبداء موقف موحد من السياسة الخارجية. بالتالي قد تشهد قضايا السياسة العليا نوعاً من الوحدة وإدراك واسع النطاق للمصلحة الوطنية ومصحوباً بالشعور الوطني.
إن حجة الواقعيين قد تبدو قاصرة في حالة عدم الأخذ بعين الاعتبار القضايا الأخرى للسياسة الخارجية؛ التي لا يمكن حصرها في قضايا الأمن والدفاع، ذلك أن مسائل مثل التجارة والمساعدات الاقتصادية وبناء التحالفات التي هي في الأصل تندرج ضمن قضايا “السياسة الدنيا” فكونها مرتبطة بالسياسة الخارجية، فإنها تطرح التساؤل بشأن احتمالية دعم الأحزاب لهذه القضايا. لا شك أن الجهات الفاعلة داخل الدولة لديها مصالح وأهداف مختلفة وأحياناً متضاربة على المستوى المحلي. فبالإضافة الى الأحزاب السياسية، تلعب جماعات الضغط، الرأي العام المحلي بالإضافة إلى مجموعات المصالح دوراً في صنع السياسات الداخلية، وبنفس الوقت لها تأثير فيما يتعلق بصنع القرار على المستوى الخارجي. ومع ذلك فإن كانت الأحزاب تعتبر ضمن الجهات الفاعلة الرئيسية فإنها ليست الوحيدة على مستوى المحلي، بل يجب أن تشمل أيضاً جهات فاعلة غير حكومية قد تم تجاهلها (الرأي العام، المؤسسات الإعلامية، الحركات الاجتماعية…). والحديث عن توحيد الجبهة الداخلية تجاه الموقف من قضية معينة من قضايا السياسة الخارجية لا يعني توحيد الموقف الحزبي فقط بل يقتضي توحيد باقي الفواعل الأخرى تجاه قضايا السياسة العليا، على سبيل المثال يلعب الرأي العام أحد الفواعل المؤثرة في صنع السياسة دوراً رئيسياً في السياسة الداخلية والخارجية، فكونه مرتبط بالأحزاب السياسية، فإنه يشكل قاعدة انتخابية واسعة لا يجب على الأحزاب السياسية تجاهله في اتخاذ القرار، وكما قد يتوحد الرأي العام ويقف عند حافة الماء، فإنه قد يشكل حالة استقطاب حادة تجاه مواقف معينة، في هذه الحالة قد ينقسم الرأي العام تجاه قضايا السياسة الداخلية والخارجية مما يشكل مجالاً خصباً لعمل الأحزاب السياسية لناحية السعي هذه الأحزاب الى تبني قضاياه والتعبير عنها. والدافع الانتخابي من حيث السعي للوصول إلى السلطة والاحتفاظ بها، يدفع بالأحزاب السياسية الى التركيز على الرأي العام. مما يطرح التساؤل التالي: إذا حدث استقطاب حاد لدى الرأي العام تجاه قضايا من قضايا السياسة العليا التي تحتاج توافق بشأنها ففي هذه الحالة هل على الأحزاب (الحاكمة- المعارضة) أن تتبنى موقف أيديولوجي معبر عن شريحة معينة من الرأي العام المتمثل في قاعدته الانتخابية أم عليها أن تقف عند حافة الماء؟
إن حصر قضايا السياسة العليا في المجال الأمني قد يدفع الى سياسة خارجية أقل حزبية لصالح الدولة، في حين أن قضايا السياسية الخارجية لا يمكن حصرها في هذا المجال؛ فمسائل المتعلقة بالمساعدات الخارجية، حقوق الإنسان والاتجار بالمخدرات قد يكون للأحزاب السياسية مرونة في إبداء مواقف تعكس رؤيتها الأيديولوجية مقارنة بمواقف متعلقة بالأمن والتنافس الاستراتيجي. ومن أجل ان توسع الأحزاب السياسية قاعدتها الانتخابية فإنه من الضروري أن تبدي مواقف ليس فقط تجاه قضايا السياسة الدنيا، بل إن القضايا الاستراتيجية الكبرى تحتاج إلى بناء مواقف حزبية للتعامل معها وليس بالضرورة أن تتماهى مع رؤية السلطة بالتالي هناك فجوة بحاجة إلى البحث وهي ضرورة أن يحلل البحث المستقبلي علاقة الارتباط بين أيدولوجية الأحزاب وشرعيتها لدى الرأي من حيث موقفها ليس تجاه قضايا السياسة الدنيا فقط بل من خلال بناء استراتيجيات للتعامل مع قضايا السياسة العليا، وذلك لأجل بناء مواقف واضحة من السياسة الخارجية لا تعكس بالضرورة رؤية السلطة، ولكن أيضاً لإثبات حجة بديلة وهي أن السياسة لا تتوقف بالضرورة عند حافة الماء.
يبدو أن تحولات ما بعد الحرب الباردة أدت الى بروز فواعل ما دون الدولة والعابرة للحدود كالرأي العام، المجتمع المدني، تنظيم الدولة الإسلامية… إلخ، في حين يبدو أن فاعلية الأحزاب السياسية غائبة على المستوى الخارجي مقارنة مع الفواعل آنفة الذكر. بالتالي على الرغم من التوجه نحو تبني مقاربة الحوكمة كأداة فعالة للمشاركة محلياً وخارجياً، يبدو أن الأحزاب السياسية انحصر دورها محلياً لجهة التركيز على قضايا القيادية وعملية صنع القرار التنظيمي وقضايا البيروقراطية، في حين تبدو أنها غائبة بشكل واضح على مستوى السياسة الخارجية.