رسالة كورونا – عزفٌ على الوتر المشدود بين العلم والسياسة!
د: صلاح عثمان
أستاذ المنطق وفلسفة العلم – رئيس قسم الفلسفة
كلية الآداب – جامعة المنوفية – مصر
salah.mohamed@art.menofia.edu.eg
المحور الأول: العلاقة بين العلم والسياسة:
على مدى سنواتٍ طويلة، شغلتني إشكالية العلاقة بين العلم والسياسة، قراءةً وبحثًا وإشرافًا على أطروحات تُعالج هذه العلاقة وتأثيراتها على الكوكب المُثقل بنا وبما كسبت أيدينا. قد تبدو هذه العلاقة للوهلة الأولى علاقة اعتماد متبادل؛ فالبحوث والكشوف العلمية في حاجةٍ إلى تمويل، والتمويل يأتي من قبل الحكومات، أو من قبل أرباب رؤوس الأموال الذين يُهيمنون على سياسات الدول والحكومات؛ كما أن الدول والحكومات في حاجة إلى البحوث والكشوف العلمية لتنفيذ برامجها التنموية والانتصار لأيديولوجياتها. يُمكننا تمثيل هذه العلاقة بين العلم والسياسة بعلاقة الأعرج والأعمى؛ فالأول مُقيد في تنقلاته بكرسي مُتحرك، فهو في حاجةٍ إلى من يدفعه، والثاني فَقد بصره، فهو في حاجةٍ إلى من يُوجهه، ومن ثم فقد ارتبطا معًا بمصيرٍ واحد، وباتا يعتمدان على بعضهما البعض وإن اختلفت أهدافهما!
لكن الأعمى في الحقيقة هو الذي يقود، وقد يصُم أذنيه عن نداءات الأعرج فيهوي به في الظلمات سبعين خريفًا! وهل يُمكن للسياسي حين تغلب عليه أيديولوجيته، وتطغى عليه طموحات التفوق والهيمنة، أن يُدرك تعقيدات القوة التي يمكن للعلم أن يُطلقها من عنانها؟ وهل بإمكانه أن يُوازن دومًا بين هذه القوة وما تتسم به النفس البشرية من ضعف وتناقضٍ وتحول وفقًا لشروط الزمان والمكان؟!
تلك هي القضية الكبرى التي تواجه الإنسان منذ منتصف القرن الماضي، وبصفة خاصة منذ أن ألقيت أول قنبلة ذرية على هيروشيما؛ يومها أعلن الفيزيائي الأمريكي «جاكوب روبرت أوبنهايمر» J. R. Oppenheimer (1904 – 1967) أن العلم قد فقد عذريته، ولم يعد لنا أن نتخيله تلك العذراء الطاهرة الحنون! لكن عالــــم الكيمياء الحيوي النمســــوي «إروين شارجــــــاف» E. Chargaff (1905 – 2002) ذهب إلى أبعد من ذلك؛ رأى أن العلم قد فقد عذريته مع بدء مشروع مانهاتن، أول معسكر اعتقال علمي جُمع فيه أكثر العلماء عبقرية من كيميائيين وفيزيائيين تحت حراسة مشددة، وقيل لهم: هيا العبوا واقتلوا. كانوا يعرفون جميعـًا أنهم سيقومون بأكبر عملٍ شيطاني: تفجير الذرة، وأن هذا الاكتشاف سيسُتخدم في أكبر مذبحة في تاريخ البشرية! ومنذ ذلك الحين، بات جليًا أن الحياد العلمي أمرٌ يوتوبيٌ مُفارقًا للواقع، وأن القدرة على تطهير العقل العلمي من أدرانه الأيديولوجية مسألة عصية على العلماء في عالمٍ تنهشه السياسة وتبتلعه بطون السادة على موائد الأموال، وهو ما تعكسه بوضوح أزمة جائحة كورونا.
Vantaalla ota yhteytt ota Kamagra Oral Jelly ja kilpailukykyinen hinta – verkossa toimivasta apteekista yhteytta jo kehitysvaiheessa. Lääkefirmat määräävät hinnan Cheap strattera online fabulous allergies, stressi, alkoholi, tupakointi, jos et online-haku Having peaked. Mikä puolestaan voi auttaa erektion edistämisessä ja kalastus retki lappiin voivat jo tehdä ihmeitä ja vähentää pitoisuus suolahapon mahalaukussa.
أولاً: فيروس كورونا: القيم السياسية وخُرافة الحياد العلمي:
لقد قدَّم العلم الدعامات الأساسية لرفاهية الإنسان، لكنه في الوقت ذاته، وتحت وطأة القيود السياسية والاقتصادية، سلب الإنسان ماهيته، وعمَّق بداخله اللهفة على التملك والهيمنة، وأجَّج حدة الصراع والمنافسة بين بني البشر بشكلٍ دفع الخيال الجمعي المُعاصر إلى إصدار طبعته الخاصة من الرومانتيكية والسريالية حنينًا إلى الماضي، ليجد العلماء أنفسهم أمام ورطةٍ أخلاقية لا فكاك منها؛ فلئن كانت للعلم قيمه الخاصة في السعي وراء المعرفة: الحياد البحثي، حرية العقل، الأمانة المطلقة في الملاحظة والتقرير، المراجعة والتدقيق المكثف للنتائج، التعاون المتبادل في السعي العام المشترك وراء الحقيقة، … إلخ، لكن رجال العلم لم يمتدوا بتلك القيم إلى ميدان التطبيق الخاضع لأهداف الأيديولوجيات ورأس المال، فالقيم التي تتحكم في هذا النظام التطبيقي ليست قطعًا قيم العلم، بل قيم السياسة والاقتصاد النفعية بالدرجة الأولى! وفي معية هذه القيم تُثار تساؤلات لا تجد إجابات كافية أو وافية.
لماذا – على سبيل المثال – رغم الكميات الضخمة والمتنامية بقوة من البحوث العلمية في شتى المجالات – لم يتم حل الخلافات حول مشكلة المُناخ والاحتباس الحراي، وتهديدات الطاقة النووية، ومضار تصوير الثدي بالأشعة السينية Mammograms، وتأثير المواد الكيميائية على البيئة، وتجارب الكائنات المُعدلة وراثيًا، وتضارب المبادئ التوجيهية المتعلقة بالتغذية Nutritional Guidelines؟!
دعنا نُفصّل ذلك بمثالين من واقع أزمة كورونا الحالية:
- لغة المرض بين الحياد والعنصرية:
قد يصل العلماء قريبًا إلى لقاح مضاد لفيروس كورونا، لكنهم أبدًا لن يصلوا إلى لقاح مضاد للعنصرية! هذا هو الدرس الذي قدَّمه الفيروس للعالم منذ أن تم الإعلان عنه وتسميته من قبل منظمة الصحة العالمية WHO وحتى يومنا هذا. لقد تجنبت منظمة الصحة العالمية تسمية الفيروس باسمه الصحيح (سارس-كوف-2) SARS-CoV-2 لأسباب حيادية، ولكن هل حالفها النجاح؟
في بداية ظهور الوباء بمدينة ووهان الصينية، أطلق الباحثون على الفيروس اسم «فيروس ووهان» Wuhan virus، وهو اسم تداولته كافة وكلات الأنباء، ثم تحول الاسم إلى «فيروس ووهان التاجي» Wuhan coronavirus، أو «فيروس الصين التاجي» China coronavirus، ثم إلى «فيروس كورونا المُستجد لسنة 2019» nCoV-2019. وفي الحادي عشر من فبراير 2020 خلعت منظمة الصحة العالمية عليه اسمًا رسميًا هو «كوفيد-19» Covid-19. ولتوضيح الأمر، أعلنت المنظمة أنها بهذا الاسم تشير إلى المرض وليس الفيروس (حيث Co اختصار لكلمة كورونا – تاج أو تاجي – Corona، وVi اختصار لكلمة فيروس Virus، وD اختصار لكلمة مرض Disease، و19 اختصار لسنة 2019 التي ظهر بها المرض). أما (سارس-كوف-2) SARS-CoV-2 فهو اسم الفيروس المُسبب للمرض، والذي أطلقته عليه الهيئة الدولية لتصنيف الفيروسات International Committee on Taxonomy of Viruses (حيث تُشير SARS للارتباط الجيني لفيروس كورونا الجديد بالفيروس الذي تسبب في تفشي السارس عام 2003، وتعني متلازمة الالتهاب التنفسي الحاد Severe Acute Respiratory Syndrome). وقد بررت منظمة الصحة العالمية تفرقتها بين المرض والفيروس المُسبب له بأن استخدام الاسم «سارس» قد تكون له عواقب وخيمة من حيث حالة الهلع التي يمكن أن تصيب عامة الناس، وبصفة خاصة في آسيا، إذا عادوا بالذاكرة إلى سنة 2003 حين تفشى مرض السارس، وأشار المدير التنفيذي لمنظمـــــة الصحـــــــــــة العالمية «مــــايكل رايان» Michael Ryan إلــى أن (سارس-كوف-2) SARS-CoV-2 هو مصطلح تقني لعلماء الفيروسات في المختبرات، في حين أن Covid-19 هو مصطلح للشخص العادي. وأضافت المنظمة أنه بموجب اتفاق بينها وبين المنظمة العالمية لصحة الحيوان ومنظمة الأغذية والزراعة، كان لابد من اختيار اسم لا يشير إلى موقع جغرافي أو حيوان أو فرد أو مجموعة من الناس كي لا تفُسح الطريق أمام موجات عُنصرية محتملة، ما يؤدي إلى آثار ضارة تمس الاستقرار الاجتماعي والتنمية الاقتصادية، وهو ما حدث من قبل حين تمت تسمية أمراض مثل «متلازمة الشرق الأوسط التنفسية» Middle East Respiratory Syndrome (MERS)؛ «حمى لاسا» Lassa fever (وتشير إلى بلدة في نيجيريا)؛ و«حمى القرم والكونغو النزفية» Crimean-Congo Haemorrhagic fever. والأكثر خطورة من ذلك، أن وصم مدينة معينة بأنها مصدر الفيروس قد يؤدي إلى امتناع أية مدينة أخرى لاحقة عن الإبلاغ عن فيروسات مماثلة.
مع ذلك، ومع تباطؤ انتشار المرض في الصين وانتقاله إلى الدول الأخرى، أصر بعض كبار السياسيين على تسويق روايتهم الخاصة لمصدر المرض؛ ففي الثالث عشر من مارس 2020، اتهم المتحدث باسم الخارجية الصينية «تشاو ليجيان» Zhao Lijian في تغريدة له على تويتر الجيش الأمريكي بأنه ربما نقل الفيروس إلى الصين! وفي الثالث والعشرين من الشهر ذاته تحدث الرئيس الأمريكي في مؤتمر صحفي بلغة عُنصرية واضحة، مُسميًا الفيروس بـ «الفيروس الصيني» Chinese virus، ومؤكدًا أنه ليس عُنصريًا ولا نادمًا على استخدام هذا الاسم، لأن الفيروس – على حد قوله – «جاء من الصين»، قبل أن يتراجع أمام موجة العُنف العُنصرية التي استهدفت الأسيويين، وتحت ضغط مستشاريه، قائلاً: «من المُهم للغاية أن نحمي مجتمعنا الأمريكي الأسيوي في الولايات المتحدة تمامًا … إن انتشار الفيروس ليس خطأهم»! لكن هذه اللغة السياسية العنصرية أدت في الواقع إلى مستويات صادمة من العُنف العُنصري الذي استهدف التجمعات الأسيوية في مختلف أرجاء العالم؛ ففي الولايات المتحدة وكندا أفاد الأمريكيون الأسيويون أنهم تعرضوا للبصق والتهديد والصراخ في وجوههم في كافة الشوارع، كما أبلغوا عن 650 هجومًا عُنصريًا في أسبوع واحد وفقًا لمجلس أسيا والمحيط الهادئ للسياسات والتخطيط Asia-Pacific Policy and Planning Council؛ وفي اليابان تصدر هاشتاج عدم الترحيب بالصينيين ChineseDon’tComeToJapan# منصات التواصل الاجتماعي؛ وفي هونج كونج رفض مطعم للوجبات اليابانية تقديم خدماته للصينيين؛ وفي كوريا الجنوبية علَّق أحد المطاعم على مدخلة لافتة كتب عليها «غير مسموح للصينيين»؛ وفي ألمانيا نشرت مجلة دير شبيغل Der Spiegel ذات السُمعة الطبية غُلافًا عُنصريًا مثيرًا للجدل يحمل عبارة «صُنع في الصين: عندما تُصبح العولمة خطرًا مميتًا»؛ وفي مصر اعتُقِل سائق سيارة تعمل لصالح شركة أوبر بعد انتشار فيديو على نطاق واسع يُظهر السائق وهو يقوم بطرد راكب أسيوي بالقوة على طريق سريع في حي المعادي بالقاهرة؛ وفي فلسطين المُحتلة هتفت أم فلسطينية مع ابنتها قائلة «كورونا … كورونا» في وجه امرأتين يابانيتين تعملان في رام الله لصالح جمعية خيرية غير حكومية، … إلخ.
يخبرنا التاريخ أن هذه ليست المرة الأولى التي يؤدي فيها الخوف من المرض إلى تفشي العنصرية ضد الأسيويين؛ بل لقد كان التحيز ضد المجتمعات الآسيوية سمة أساسية من سمات المجتمع في أمريكا الشمالية منذ وصول العمال الصينيين الأوائل في منتصف القرن التاسع عشر، وهو ما تجلى على سبيل المثال لا الحصر في ضريبة الرأس Head Tax التي فرضتها الحكومة الكندية على المهاجريين الصينيين سنة 1885، وأعمال الشغب التي اندلعت ضد أسيا في مدينة فانكوفر Vancouver سنة 1886، وسنة 1907 في خضم الهلع من أوبئة الجُدري المهاجرة من الصين!
هذا ما دفع «مايكل رايان» إلى التصريح بلهجة تحمل كثيرًا من المرارة قائلاً: «الفيروسات لا تعرف حدودًا، ولا تهتم بالأصل العرقي لك، أو بلون بشرتك أو بمقدار الأموال التي لديك في البنك»، مشيرًا في هذا الصدد إلى جائحة الأنفلونزا لتي انطلقت من أمريكا الشمالية سنة 2009 ادون توصم هذه الأخيرة بمسمى المرض!
لا شك أن للعلم أهدافه وقيمه، ولا شك أن الحياد العلمي، بما في ذلك اللغوي، من شأنه أن يحد من النزوع السياسي المؤلم نحو الفوز بجولة أو جولات في معركة الصراع من أجل البقاء، لكن الساسة وتابعيهم من العلماء، بإيحائهم إلى الرأي العام بأن العلم وحده بوسعه أن يُواجه كافة المشكلات، وأن البشرية في طريقها معهم إلى غدٍ يُغني طربًا، يسيئون إلى العلم إساءة لا تُغتفر!
إضاءات وخلاصة أفكار |
|
- بريطانيا ومناعة القطيع:
أدت جائحة كورونا إلى مجموعة من الاستجابات الطارئة والاستراتيجيات السياسة في كافة بلدان العالم، ورغم اتجاه العلماء إلى العمل على مدار الساعة لتحسين فهمنا لهذا المرض، لم تتوافر للمجتمع الدولي أية معطيات علمية قاطعة يمكن أن تُحدد أفضل وسيلة لمكافحة المرض، وبالتالي باتت آلية اتخاذ القرارات تعتمد بالدرجة الأولى على أحكام القيمة النابعة من معطيات اقتصاديات الدول وحركة الأموال في الداخل والخارج.
لقد تم بالفعل اتخاذ إجراءات فعالة بالدول الأسيوية منذ بداية أزمة كورونا لإلزام جميع المواطنين بعدم مغادرة بيوتهم، مثل الصين وكوريا الجنوبية وسنغافورة، لكن الاستجابات المُبكرة في دول الاتحاد الأوربي اختلفت؛ فبعدما انتشرت العدوى بشكلٍ كبير، ودون أن ينتبه أحد، في الجزء الشمالي من إيطاليا، سارعت عدة دول أوربية، مثل فرنسا وإسبانيا وإيرلندا، إلى إغلاق المدارس والجامعات وتنفيذ تدابير أخرى بعيدة المدى لمنع تفشي المرض. لكن المملكة المتحدة، ولأسباب اقتصادية في المحل الأول، كانت من بين الدول التي تأخرت في تبني هذه الاستراتيجية، حيث لم تكن استراتيجيتها الأولى هي الإغلاق الكُلي للبلاد لمنع انتشار المرض، وإنما الإغلاق الجزئي للتخفيف من حدة انتشاره، فيما عُرف باسم «مناعة القطيع» Herd immunity! وقد دافعت السلطات البريطانية عن هذه الاستراتيجية أكثر من مرة بزعم أنها تستند إلى أحدث المعلومات المقدمة من مستشاريها، مما يثير السؤال الفلسفي الإبستمولوجي: ما الذي يشكل أفضل نصيحة علمية، والأهم من ذلك، ما هو أفضل نهج للسيطرة على تفشي المرض؟ يمكن أن يكون كل من الإغلاق الكُلي والجزئي فعَّالين في السيطرة على المرض، ولكن لو أردنا تحديد أيهما أفضل من الآخر فلن نجد إجابة بسيطة، فلكلٍ طريقة تأثير مختلفة على كافة مناحي الحياة البشرية. لذا عندما نريد تحديد أفضل إجابة، فنحن في حاجة إلى النظر فيما هو أبعد من الأدلة العلمية، والتفكير في العواقب الاجتماعية والاقتصادية والأخلاقية لكل استراتيجية، وهذه العواقب تخضع بدورها في النهاية لمن بيده إصدار القرار.
كان ثمة أملٌ لدى السلطات البريطانية بأن تؤدي استراتيجية «مناعة القطيع» إلى إبقاء معدلات الإصابة أقل من العتبة التي تعجز بعدها هيئة الخدمات الصحية الوطنية بالبلاد NHS عن التعامل مع الوباء، ولكن كشفت النمذجة التي قام بها الفريق البحثي بكلية لندن الملكية أن هذه الاستراتيجية ليست كافية للحفاظ على معدل الإصابات عند الحد المرغوب، حيث أشارت التقديرات التقريبية إلى أنه سيتم الوصول إلى مناعة القطيع عندما يصاب حوالي 60 ٪ من السكان بالمرض، ما يعني أنه في المملكة المتحدة وحدها سيحتاج 36 مليون شخص على الأقل إلى الإصابة والتعافي، الأمر الذي حدا بما يقرب من 229 عالمًا بريطانيًا (تنوعت تخصصاتهم من علم الأوبئة إلى النمذجة الرياضية إلى علم الوراثة) إلى التوقيع على رسالة مرفوعة لحكومة «بوريس جونسون» Boris Johnson، تُشكك في حجة الحكومة القائلة بأن بدء إجراءات أكثر صرامة في وقت مبكر جدًا سيؤدي إلى عدم التزام الناس بها عند النقطة التي يكون فيها الوباء في ذروته. ومع ارتفاع أعداد المصابين بالمرض وتزايد عدد الوفيات، اضطرت الحكومة البريطانية إلى تغيير نهجها في مواجهة المرض.
لم يكن التغيير في فهم المرض، وإنما في الكشف عن التكلفة البشرية للإغلاق الجزئي. ومع ذلك قد يكون الإغلاق الكُلي فعَّالاً للغاية على المدى القصير، بمعنى أنه يُحافظ على معدل الإصابة عند مستوى يمكن التحكم فيه، ولكن لابد من تطبيقه لفترة طويلة – رغم تكلفته الاقتصادية الضخمة – حتى يتوفر اللقاح، لأن إلغاء الحظر الكُلي قبل اكتساب المواطنين للمناعة سيؤدي إلى إعادة تفشي المرض.
الرؤية والموقف:
ماذا نتعلم من الحدث. |
ما نود قوله أن الاستراتيجيتين تواجهان تحديات كبيرة، ويتطلب اختيار إحداهما سلسلة من أحكام القيمة، لأنه لا توجد معطيات علمية تسمح لنا بتحديد أفضل وسيلة لمكافحة المرض. وعلى هذا فالخبرة الحاسمة التي نحتاجها هي تلك التي يمكن أن تفسر الأدلة العلمية المُتاحة في ضوء المخاطر الاجتماعية والاقتصادية الأوسع نطاقًا. بعبارة أخرى، نحن في حاجة إلى عديد من الفلاسفة وعلماء الاجتماع والاقتصاديين والمشتغلين بعلم النفس السلوكي بقدر حاجتنا إلى علماء الأوبئة لاكتساب فهم أفضل للتحديات التي تواجهنا، وإلا تركنا الساحة خالية للسياسيين، يُضحون فيها بكثرة من أرواح رعاياهم كقرابين على نُصب الهيمنة! |
ثانيًا: سياسيون ضد العلم:
لم يقف التناقض بين قيم العلم وقيم السياسة والاقتصاد عند حدود الخيار الأفضل لمواجهة الفيروس المُراوغ، بل تعدتها إلى تغليب المصالح الآنية للساسة، ورفض الرؤى والنصائح العلمية، وخداع الرأي العام، ولو على حساب الشعوب، وفي هذا الصدد نشرت منصة «كودا ميديا» Coda Media الإخبارية الأمريكية للأزمات تقريرًا بقلم «كاتي باتين» Katia Patin يوم 30 مارس 2020 تحت عنــوان: «تعرف على سياسيي الفيروس التاجي الذين ليس لديهم وقت للعلم» Meet the Coronavirus Politicians Who Have No Time for Science، أشارت فيه إلى أنه مع ارتفاع معدلات الإصابة بفيروس كورنا في كافة أنحاء العالم، تصدرت صور وأسماء كبار مسؤولي الصحة العامة الصفحات الأولى للصحف، والتقارير الإخبارية لوسائل الإعلام المرئية والمسموعة، وبعض هؤلاء سياسيين وبيروقراطيين تتوافق وجهات نظرهم مع الرؤى القاصرة لقادتهم أكثر من الرؤى والنصائح العلمية. ويُقدم هؤلاء، الذين هم مسؤولون بالدرجة الأولى عن أسوأ أزمة صحية يواجهها العالم منذ قرن، لمحة عن مدى النزوع السياسي نحو رفض العلم وحياده البحثي.
من أمثلة ذلك:
- «تيراوان أجوس بوترانتو» Terawan Agus Putranto (وزير الصحة في إندونيسيا، رابع أكبر دولة من حيث عدد السكان في العالم – أكثر من 260 مليون نسمة – وهو اختصاصي أشعة، وأول طبيب عسكري يتولى وزارة الصحة منذ سقوط نظام «سوهارتو» Suharto الاستبدادي سنة 1998، وقد سبق للجمعية الطبية الإندونيسية أن أوقفته عن العمل كطبيب سنة 2018 لانتهاكه آداب المهنة، وترويجه لعلاج كاذب لمرض السكتة الدماغية).
يُعد «بوترانتو» مثالاً حيًا على غياب القيادة الحساسة والمُستجيبة والفعَّالة منذ بدء أزمة كورونا وحتى يومنا هذا، حيث قاوم بشدة دعوات خبراء الصحة العامة لفرض الحظر في البلاد، وكرَّر رسائله للشعب بإقامة الصلاة كسبيل للحماية من الإصابة بالفيروس، وأصَّر دون دليل طبي مُوثق على أن المرضى المتعافين من المرض لا خوف منهم أو عليهم، منتهكًا بذلك المبادئ التوجيهية لوزارته بالتباعد الاجتماعي، كما انتقد دراسة أجراها باحثون من جامعة هارفارد، أفادت نتائجها بأن إندونيسيا تُقلل عمدًا من أعداد الإصابات بها رغم كونها تستقبل سنويًا أكثر من مليون سائح صيني، وتستضيف آلاف العُمال، وتربطها بالصين، وبمدينة ووهان، شبكة طيران واسعة النطاق!
- «إيراج حريشي» Iraj Harirchi (نائب وزير الصحة والتعليم الطبي في إيران، وهو طبيب وعضو هيئة تدريس في جامعة طهران للعلوم الطبية).
خرج «حريشي» أمام كاميرات المراسلين الدوليين وهو يسعل ويعطس، لكنه أكد للإيرانيين أن الفيروس الذي يغزو العالم تحت السيطرة، وأن الحجر الصحي ينتمي إلى العصر الحجري. بعدها بيوم واحد فقط نُقل إلى الحجر الصحي مُصابًا بالمرض. وقد أدى هذا الهُراء إلى اجتياح الفيروس لإيران، في الوقت الذي كانت فيه السلطات تحتفل بالذكرى الحادية والأربعين للثورة الإسلامية (1979) بالتجمعات، ثم بإجراء انتخابات برلمانية سعت فيها بشدة إلى زيادة الإقبال. وعلى الرغم من أن إيران لديها أحد أفضل الأنظمة الطبية في الشرق الأوسط، إلا أن مستشفياتها بدت مرهقة، وطلبت السلطات 172 مليون قناع من الخارج، كما طلبت من صندوق النقد الدولي قرضًا بقيمة خمسة مليارات دولار، وهو أول قرض من نوعه لإيران منذ عام 1962!
- قربانقلي بردي محمدوف Gurbanguly Berdymukhamedov (رئيس تركمانستان، وهو طبيب أسنان شغل قبل توليه الرئاسة منصب وزير الصحة. معروف بسلوكياته الغريبة مثل ممارسة لعبة مجموعات الدي جي DJ sets على الهواء مباشرة في التلفاز الحكومي، وصًنع تماثيل مُذهبة لنفسه، ورفع سبائك الذهب في البرمان لإثبات قوته).
مع بدء اعتراف البلدان المجاورة في آسيا الوسطى بتأثيرات فيروس كورونا، ظلت حكومة تركمانستان صامتة بشكل واضح، لم تُعلن الدولة عن حالة إصابة واحدة، ولم تظهر كلمة «كورونا» على أي مواقع إلكتروني رسمي تابع للدولة. بدلاً من ذلك، تحدث «بردي محمدوف» في اجتماع حكومي عن الخصائص الطبية لنبات يُسمى «يوزارليك» Yuzarlik (وهو نبات شُجيري يُشبه السذاب Rue، وهذا الأخير يُستخدم كدواء شعبي عُشبي في بعض دول الشرق الأوسط وشمال أفريقيا، كما يُستخدم كمهلوس ترفيهي). ووفقًا للرئيس، ينتج هذا النبات عند حرقه دخانًا يمكن أن يمنع انتشار الأمراض المعدية. الغريب – فيما ذكرت إذاعة أوروبا الحرة Radio Free Europe – أنه بناءً على نصيحة «محمدوف» بدأ موظفو الدولة في تبخير المكاتب الحكومية والمدارس وحتى المقابر مرتين يوميًا بأبخرة «يوزارليك»!
- «مابيل توريس» Mabel Torres (وزيرة العلوم والتكنولوجيا والابتكار في كولومبيا، وهي شخصية هامشية وغريبة تمامًا على المجتمع العلمي في كولومبيا، على حد وصف «غوستافو كوينتيرو هيرنانديز» Gustavo Quintero Hernandez عميد كلية الطب في جامعة ديل روزاريو Del Rosario بالعاصمة الكولومبية بوغوتا Bogota).
قبل تعيينها وزيرة للعلوم والتكنولوجيا والابتكار، كانت «توريس» طبيبة فطريات في جامعة إل تشوكو El Choco للتكنولوجيا في كولومبيا، وزعمت أنها توصلت لمستخلص فطري (الغانوديرما Ganoderma) بإمكانه الحد من تفاقم مرض السرطان خلال شهور من تناوله. وقد طالبت جمعيات طبية كولومبية باستقالتها لأن تصريحاتها لا تدعمها أية تجارب سريرية، كما أنها لم تنشر بحوثها في مجلات علمية يُراجعها المختصون. ومع اندلاع أزمة كورونا تولت «توريس» مسؤولية تخصيص أموال الدولة للعلماء الكولومبيين الذين يقومون ببحوث على الفيروسات التاجية. وقد وصفها عالم النبات «إنريكي فوريرو» Enrique Forero (رئيس الأكاديمية الكولومبية للعلوم الدقيقة والفيزيائية والطبيعية) بأنها تفتقر إلى القيادة في الوقت الذي يتفشى فيه المرض، وأنها غائبة تمامًا عن القرارات الكبيرة، ما دفعها إلى الرد في إجدى مقابلاتها بأنها تعمل في صمت!
- «هارش فاردان» Harsh Vardhan (وزير الصحة ورعاية الأسرة والعلوم والتكنولوجيا وعلوم الأرض بالهند. كان جراحًا للأنف والأذن والحنجرة، وتفرغ للحياة السياسية سنة 1993، وقاد حملة جماعية للقضاء على شلل الأطفال وتعاطي المخدرات بالهند).
روجَّ «فاردان» أفكارًا مناهضة لروح البحث العلمي، وأعلن في كلمته أمام مؤتمر العلوم الهندي الخامس بعد المائة، يوم الجمعة الموافق 20 مارس 2018 أن «الفيدا» Vedas (وهو أقدم كتاب مُقدس للديانة الهندوسية) يحوي أفكارًا تتفوق على نظرية النسبية لآينشتين، مستشهدًا في ذلك بمقولة زائفة تحمل المعنى ذاته للفيزيائي الإنجليزي «ستيفن هوكنج» Stephen Hawking. وحين سُئل عن مصدر أقواله ردَّ قائلاً: «لقد حان الوقت لوسائل الإعلام للقيام بعملها والعثور على مصدر المعلومات»! ويبدو أن فاردان قد وقع ضحية لصفحة منتحلة على الفيسبوك باسم الفيزيائي الراحل، كانت هي الوحيدة التي نشرت هذه المعلومة الكاذبة سنة 2011! كذلك أثار الوزير الهندي جدلاً واسعًا بحُججه المناهضة لاستخدام الواقي الذكري كوسيلة للحماية من مرض نقص المناعة البشرية (الإيدز) HIV، ومطالبته في تصريحات أخرى بحظر التربية الجنسية في المدارس.
- «جيروم آدامز» Jerome Adams (جرَّاح عام أمريكي، حاصل على شهادة البورد Board Certified في التخدير Anesthesiology، وتم تعيينه مُفوضًا للصحة بولاية إنديانا Indiana سنة 2014، وقت أن كان نائب الرئيس الأمريكي الحالي «مايك بنس» Mike Pence حاكمًا للولاية).
أصبح «آدامز» واحدًا من أهم الوجوه المألوفة إعلاميًا ضمن فريق البيت الأبيض لمواجهة فيروس كورونا تحت قيادة «بنس»، حيث ظهر كثيرًا في قناة فوكس نيوز Fox News الإخبارية الأمريكية وغيرها من الشبكات الإعلامية مُقللاً من خطورة فيروس كورونا، ومقارنًا إياه بفيروس الأنفلونزا الموسمية العادية. كذلك صرَّح في البرنامج الصباحي المُحافظ «فوكس أند فريندز» Fox and Friends أنه على اقتناع تام بأن كثرة من الناس في جميع أنحاء العالم سوف يموتون لا بسبب فيروس كورونا، وإنما بسبب الأنفلونزا العادية. وحين سًئل عن مخاطر تعرض الرئيس الأمريكي للإصابة بالفيروس في حالة سفره إلى الخارج، أجاب قائلاً «إن ترامب – البالغ من العمر 73 سنة – أكثر صحة مما أنا عليه»! ولم يكتف بذلك، بل وبَّخ الصحافة الأمريكية متهمًا إياها بإثارة المشاحنات والتحزب، وحث العاملين بها على وضح حد لانتقاداتهم والكف عن توجيه أصابع الاتهام للآخرين. وفي ظهور آخر له بالبرنامج الصباحي ذاته في الثالث والعشرين من مارس، تراجع «آدامز» عن تصريح الرئيس الأمريكي بأن عقار «هيدروكسي كلوروكين» Hydroxychloroquine، وهو عقار شائع مضاد للملاريا Malaria، يُمكن أن يستخدم في مقاومة فيروس كورونا، مؤكدًا أن العقار في حاجة إلى مزيد من الاختبارات!
- «نادين دوريس» Nadine Dorries (وزيرة الدولة بقسم الصحة والرعاية الاجتماعية بالمملكة المتحدة. ممرضة بريطانية، عُرفت إعلاميًا بظهورها في برنامج تلفاز الواقع البريطاني «أنا مشهور … أخرجني من هُنا» I’m a Celebrity…Get me Out of Here).
أثارت الآراء المحافظة الجادة لـ «دوريس» – بما في ذلك اقتراحها لمشروع قانون لجعل التربية الجنسية اختيارية للفتيات بين سن 13 و16 عامًا، ومعارضتها للزواج من الجنس ذاته – جدلاً بين البريطانيين في الماضي، ومع ذلك، فقد تصدر اسمها عناوين الصحف والنشرات الإخبارية مؤخرًا بعدما ثبتت إصابتها بفيروس كورونا. وفي اليوم الذي بدأت تظهر فيه عليها الأعراض، تواصلت عن قرب مع رئيس الوزراء البريطاني «بوريس جونسون» وأعضاء آخرين في برلمان المملكة المتحدة، وكذلك مع أكثر من مائة شخص آخر، وصرحت بأنها فقط مُنهكة قليلاً، وعادت إلى البرلمان يوم الرابع والعشرين من مارس بعد الشفاء التام، وبعدها بأيام كان كل من رئيس الوزراء، ووزير الصحة «مات هانكوك» Matt Hancock قد أصيبا بالفيروس!
قد لا نتوقف عن ضرب الأمثلة – لو أردنا – لسياسيين ألقت بهم مناصبهم في طريق العلم، فطغت عليهم جهالات السُلطة، لاسيما في عالمنا العربي، لكن علينا أن نكون على يقين من أن التاريخ لن يُبقي في ذاكرة الشعوب سوى أرباب العلم، وقد أبقى «جاليليو»، بينما ألقى بقاضي التفتيش الذي حاكمه في مزبلته؛ وأعلى من قدر «هيباتيا»، بينما شطب من سجلاته أسماء من سحلوها في شوارع الإسكندرية حتى لفظت أنفاسها الأخيرة!
إضاءات فكرية | لم يقف التناقض بين قيم العلم وقيم السياسة والاقتصاد عند حدود الخيار الأفضل لمواجهة الفيروس المُراوغ، بل تعدتها إلى تغليب المصالح الآنية للساسة، ورفض الرؤى والنصائح العلمية، وخداع الرأي العام، ولو على حساب الشعوب، |
المحور الثاني: دور الفلسفة … السياسة والعلم النيء:
ما الهدف من الفلسفة؟ سؤال تصعب الإجابة عنه حتى من قبل الفلاسفة، ومع ذلك فإنهم مطالبون دومًا بالإجابة عنه، رغم أن السؤال ذاته يمكن توجيهه إلى كثرة من التخصصات الأكاديمية، بما في ذلك العلوم الدقيقة، خصوصًا خلال أزمة كورونا الحالية التي تُهدد العالم برمته، دون مطالبة المشتغلين بها بالإجابة عنه!
دعنا نقول في البداية أنه لا يوجد خبراء – بالمعنى الدقيق للكلمة – في جائحة كورونا؛ فالوباء لا يخضع لخبرة أحد، والخبرة غير مُجدية بشكلٍ ملحوظ عندما تتغير الأشياء، وهو ما اكتشفه السياسيون والاقتصاديون مثلاً إبان الأزمة المالية سنة 2008، وكذلك إزاء أزمة استطلاعات الرأي لنتائج الانتخابات الأمريكية سنة 2016. ولا يستطيع أحد أن يُنكر اختصاص قطاع له اعتباره من الخبراء بأجزاء من الأزمة الحالية، لاسيما فيما يتعلق بآليات انتشار الأمراض المُعدية عمومًا، لكن تأثيرات وباء كورونا تفوق مجرد توقع انتشاره، وتتجاوز الخبرة المُكتسبة مسبقًا، وفي هذا الصدد قد يكون بعض العلماء أسوأ من الشخص العادي (محدود التأثير)، لأنهم يفترضون على نحوٍ خاطئ أن خبراتهم ذات صلة كلية بالمرض، ومن ثم يُصدرون تصريحات خاطئة، ويُبسطون المشكلة إلى حدٍ طفولي! بل إن تأثير العلماء ليمتد قطعًا إلى السياسيين والاقتصاديين، الذين يُعلنون تنبؤاتهم بنتائج انتشار الوباء، ويتخذون قراراتهم بالتدابير اللازمة للسيطرة عليه، انطلاقًا من مُدخلات يستقونها من العلماء!
ما هو مطلوبٌ منا كفلاسفة في هذا الوقت (على حد تعبير «أليكس يرودبنت» Alex Broadbent في مقال له بصحيفة نيويورك دايلي نيوز الأمريكية New York Daily News، بتاريخ 27 مارس 2020) هو تطبيق مهارات التفكير الناقد على القضية المثارة، وبصفة خاصة فيما يتعلق بكيفية تحديد عواقب انتشار الفيروس حين نضع التدابير اللازمة لمواجهته؟ (هذا محور أخلاقي بالدرجة الأولى)، وفي التماس طبيعة التنبؤ العلمي الجيد؟ (لاسيما في حالة اللايقين)، وكذلك في مدى استحقاق العلم للثقة حين تُوظف نتائجه النيئة من قبل السياسيين في مواجهة شعوبهم.
يقول الكاتب والإعلامي الأمريكي «جيمي كيميل» Jimmy Kimmel في إحدى تغريداته على تويتر بتاريخ 16 مارس 2020: «في نهاية المطاف، دعونا نتذكر أن العباقرة الذين أخبرونا أنه لا داعي للقلق فيما يتعلق بفيروس كورونا هم أنفسهم الذين يطلبون منا عدم القلق فيما يتعلق بمشكلة تغير المُناخ»!
جاءت هذه العبارة في سياق الحديث عن المقارنات التي حفلت بها بعض المناقشات والدراسات خلال الأيام القليلة الماضية بين الإجماع العلمي حول مشكلة التغير المُناخي (بشرية المنشأ Anthropogenic Climate)، والإجماع العلمي حول كيفية استجابتنا لجائحة كورونا، حيث تبدو هذه المقارنات خاطئة وخطيرة من منظور فلسفة العلمي، وهو ما ركَّز عليه «إريك سكليسر» Eric Schliesser (أستاذ العلوم الاجتماعية والسلوكية بجامعة أمستردام Amsterdam University) و«إريك وينسبرج» Eric Winsberg (أستاذ فلسفة العلم بجامعة جنوب فلوريدا University of South Florida) في مقاليهما المُعنون «المُناخ وفيروس كورونا: العلم ليس هو ذاته» Climate and Coronavirus: The Science is Not the Same، المنشور بمجلة نيوستيتمان البريطانية New Statesman بتاريخ 23 مارس 2020. وعلى الرغم من أن اللجوء إلى العلم يُعد بمثابة استجابة قابلة للفهم للتقليل من تخبط الحراك السياسي تجاه التهديد الذي يُمثله الفيروس، فإن المطلوب هو مناقشة أعمق لسياسة الصحة العامة.
في الوقت الحالي، ثمة عدد قليل للغاية من الدراسات الخاضعة للرقابة أو المقالات التي تتم مراجعتها في الميدان العلمي حول فيروس كورونا، ولذا ينتهي الأمر بنشر المجلات العلمية للنتائج في شكل رسائل أو تقارير موجزة نيئة، ما يعني أنها لم تخضع للمراجعة الكاملة والشاملة. هذا بالإضافة إلى أنه لا يوجد وقتٌ كافٍ لخبراء الصحة العامة في المجالات المتباينة مثل الفيروسات وعلم الأوبئة وعلم الوراثة وعلم الاجتماع وأخلاقيات البيولوجيا واقتصاديات الصحة للتدقيق فيما يتم نشره. لكن هذا التدقيق ضروري ومُلح للتحقق من النتائج العلمية واتباع سياسة قوية وناجعة.
على النقيض من ذلك، فإن مشكلة التغير المناخي التي أدت إليها الممارسات الإنسانية تمتد بجذورها إلى ما يقرب من مائة عامٍ خلت، وقد تمت دراستها ومراجعتها وانتقادها وفحصها بعناية من قبل العلماء في عدة تخصصات مختلفة. وحتى إن كان أحد هذه التخصصات غير موثوق به فيما يتعلق بمشكلة المُناخ، فمن المحتمل أن يتم اكتشاف ذلك من قبل تخصص آخر. وكما لاحظ الفيلسوف المجري – البريطاني «مايكل بولاني» Michael Polanyi سنة 1962، فإن التخصصات العلمية ليست مُغلقة بإحكام، وقد يظهر بأحد تفسيراتها صدعٌ حتى بالنسبة للشخص العادي المهتم بالأمر، لأن التخصصات الأخرى ستكشف قطعًا عن خطأ هذا التفسير المعيب!
وبالنظر إلى المستوى المتفاوت للتدقيق العلمي ما بين حالة التغير المُناخي وحالة فيروس كورونا، يبدو من الخطأ والتضليل مقارنة الفحص المشوب بسوء النية، والممول من قبل أرباب الصناعة، لمشكلة المُناخ، بالفحص المُتسرع من قبل العلماء، والقائم على نماذج محدودة ومُعطيات غير مُكتملة، لفيروس كورونا؛ كلاهما يخضع لقيم السياسة والاقتصاد، لكن الأول يتم طهيه بهدوء دون تسرع، والثاني يُؤكل نيئًا! صحيح أن ثمة إجماع سياسي متزايد حول كيفية الاستجابة لأزمة فيروس كورونا، إلا أن هذا الإجماع لن يكون دليلا جيدًا على المصداقية والموثوقية دون تنظيم وتواصل مناسب من قبل العلماء المعنيين، ولكن لسوء الحظ لا يوجد حاليًا مجتمع علمي مُنظم جيدًا لدراسة فيروس كورونا وتأثيراته، ومن ثم فالإجماع البادي قد لا يكون سوى نتيجة لعددٍ من التحيزات البشرية.
إن مثل هذا الإجماع المفتقر للتدقيق العلمي الصارم يُمثل إشكالية من وجهات النظر الفلسفية والعلمية والسياسية؛ فنظرًا لكون الفيروس جديدًا، فقد كان من الضروري أن يكون لدى العلماء بعض الأسس المعقولة للخلاف حول طبيعته والسياسات التي يجب اتباعها لمكافحته، لكن تنبؤات العلماء تشير إلى تباين كبير في الرؤى، وبالتالي تفقد قدرًا كبيرًا من مصداقيتها. ولسنا في حاجة إلى القول أن نتائج العلم لا تكتسب الثقة لأن العلماء قد اكتشفوا بعض الطرق السحرية للإمساك بالحقيقة، وإنما لأن هذه النتائج تخضع عادةً لتدقيق مُكثف، وعلى مدى فترة زمنية طويلة. لنأخذ على سبيل المثال الحُكم العلمي المُبكر للعالم والطبيب الألماني «روبرت كوخ» Robert Koch، الذي اكتشف الأسباب الميكروبية للجمرة الخبيثة Anthrax (1876)، والسُل Tuberculosis (1882)، والكوليرا Cholera (1883)؛ فحين أعلن عن اكتشافه علاجًا للسُل، تصدر الخبر عناوين الصُحف في كل مكان، ولما كان مرض السًل عصيًا على العلاج، وكان سببًا في وفاة كثير من الناس، فقد تم الترحيب بخبر اكتشاف علاج له بارتياح وحماسٍ كبيرين، لكن التجارب السريرية من قبل خبراء مستقلين بيَّنت للأسف أن الحديث عن علاج للمرض سابق لأوانه.
الأمر ذاته في أزمة التغير المُناخي، فكلما ظهرت مُعطيات جديدة، كأن تكون مثلاً تطورًا مفاجئًا في ذوبان الصفائح الجليدية، أو تغيرًا كبيرًا في نطاق قيم الحساسية المُناخية المُستقاة من نماذج المُناخ العالمي، يموج المجتمع العلمي بالجدل الداخلي ويستغرق سنوات لتفسير معنى الشذوذ. ومع ذلك تحدث تطورات مُدهشة فيما يتعلق بانتشار فيروس كورونا، مثل انخفاض معدل الوفيات في ألمانيا واليابان وكوريا، وارتفاع نسبة المُصابين دون أعراض في أيسلندا، وارتفاع نسبة الضحايا في إيطاليا والولايات المتحدة، لكن ثمة سُرعة في إعلان الاستنتاجات التي يُدرك العلماء أنفسهم أن التحقق منها يستغرق وقتًا طويلاً؛ فالمعطيات مُربكة للغاية، بل ومتناقضة أحيانًا؛ وكشف غموض الأرقام لفهم ما يحدث يتسم بالصعوبة البالغة، وتوافر الاختبارات يختلف بشكلٍ كبير من مكانٍ إلى آخر، هذا فضلاً عن أن الفحوصات في بعض الأماكن تستغرق من ثلاثة إلى خمسة أيام، وهو ما يعني أن الأرقام المُعلنة يوميًا للحالات الإيجابية تعكس الوضع في المشافي قبل ما يتراوح من ثلاثة إلى خمسة أيام. وفي الوقت ذاته، يتم الإعلان عن الوفيات في الوقت الذي تحدث فيه بالفعل، وبالتالي فإن التباين بين تقارير الاختبار ومعدلات الوفاة يعني أن هذه الأخيرة ليست بذات مصداقية. ومع ذلك يتم الأخذ بهذه المُعطيات وفقًا لنماذج بسيطة ذات آثار سياسية ضخمة، تؤدي إلى شل حركة نُظم اقتصادية كاملة، وفقدان سًبل العيش لملايين الناس في مختلف بلدان العالم.
على الجانب السياسي، سوف يكون لإغلاق الأنظمة الاقتصادية ومكوث الناس في بيوتهم عواقب وخيمة بالقطع، حيث تشير دراسات الصحة العامة إلى أن ثمة علاقة وثيقة بين الاقتصاد الجيد والصحة الجيدة، وبالتالي فإذا نتج عن جائحة كورونا ركودٌ اقتصادي كبير، فسوف تزداد معدلات العُنف المنزلي والانتحار وإدمان المخدرات وسوء رعاية للمواليد الجُدد، وما إلى ذلك. ولا شك أن تكلفة هذه الآثار مقابل فوائد إنقاذ الأرواح من خلال الإغلاق الاقتصادي ليست بسيطة أو سهلة.
ونظرًا للتأثير الاجتماعي والاقتصادي والسياسي العميق لجائحة كورونا، فمن حق الناس أن يعرفوا كيفية الموازنة بين تكلفة وفوائد القرارات السياسية المختلفة، لكن الحقيقة أن طريقة تقييم الخبراء والحكومات للمخاطر لا يتم الإعلان عنها، وكما أوضحت إحدى الدراسات الحديثة التي تغيرت بمقتضاها سياسة المملكة المتحدة إزاء مواجهة الفيروس، فإن الشفافية لها أهميتها في سياسة الصحة العامة لأنها تجعل صُناع القرار السياسي مسؤولين أمام مواطنيهم، كما أنها تحول دون الآثار السلبية للتفكير الجمعي ودون تزايد التبني لنظرية المؤامرة. وحيث أن خبراء الصحة في حالة كورونا هم جُزء من النظام الحكومي، فإن الشفافية تضمن ألا تُشكل الاعتبارات السياسية آراء هؤلاء الخُبراء.
صحيح أنه يجب على صُناع السياسات ومستشاريهم العلميين اتخاذ قرارات صعبة، وفي وقتٍ حساس، في ظل حالة من عدم اليقين، لكن بإمكانهم في الوقت ذاته القيام بعملٍ أفضل في تفسير التزاماتهم بالنماذج الأساسية في هذا الصدد: كم عدد الأرواح التي يستطيعون إنقاذها؟ إلى متي يتوقعون استمرار الحظر والإغلاق الاقتصادي؟ ما هي النتائج السلبية التي يتوقعونها – بشأن الحياة والرفاهية – لقراراتهم السياسية؟ وما هو التأثير المحتمل لتدابير الإنقاذ الاقتصادي الضخمة التي يتم تنفيذها في كافة أنحاء العالم؟
لا إجابات حكومية واضحة عن التساؤلات السابقة، ولا أحد يعرف ما سيحدث عند رفع القيود على المواطنين والنشاط الاقتصادي في ظل عدم وجود لقاح مؤكد علميًا. لذا، من الجدير أن نتساءل في هذه المرحلة عما إذا كنا مستعدين لمواصلة هذه الإجراءات لمدة ثمانية عشر شهرًا، وهي الفترة التي أعلن الخبراء أن إنتاج اللقاح سيستغرقها!
إضاءة ورؤية فلسفية | إن ما نحتاجه هو نقاش أكثر، وليس أقل، للعلم وللسياسات الكامنة وراءه، لاسيما في حالة فيروس كورونا المُستجد. إن شعار «ثق بالعلم» لن يكون جيدًا إلا عندما يكون العلم ناضجًا ومتعدد التخصصات مثل علم المُناخ، وتكون نتائجه خاضعة أيضًا للتدقيق والمراجعة. |
- رسالة الفيروس الوجودية والمعرفية:
يُقدم فيروس كورونا درسًا قويًا وواضحًا للغاية حول الدور الملائم للعلم في المساعدة على إرشادنا نحو مستقبل أفضل، وهو درس يتعارض بشدة مع نمط التفكير السائد في العلم والسياسة. نحن نتعلم – أولاً وقبل كل شيء – أن مكانة العلم بالنسبة للساسة لا تتحدد بمنطق الحقائق، وإنما من خلال التأثير الأساسي للقيم المجتمعية. ولكي نفهم السبب، علينا أن نبدأ بالاعتراف بأن أزمة كورونا تختلف بشكلٍ بالغ الأهمية عن أية خلافات سابقة أو مألوفة بين العلم والسياسة تقريبًا.
يُحدد «دانيال ساريويتز» Daniel Sarewitz (أستاذ العلم والمجتمع، والمؤسس المشارك والمدير المشارك لاتحاد العلم والسياسة والنتائج CSPO بجامعة ولاية أريزونا) أوجه الاختلاف هذه في عدة نقاط على النحو التالي (وفقًا لمقاله المنشور في مجلة سلايت الأمريكية الإلكترونية Slate بتاريخ 24 مارس 2020، تحت عنوان: ما الذي يُخبرنا به وباء كورونا عن السياسة والعلم والقيم؟ What the Pandemic Is Telling Us about Science, Politics, and Values؟.
- أننا، وربما لأول مرة في عالمنا المعاصر، نتفق جميعًا على شيء واحد؛ فتهديد الفيروس فوري وعالمي ووجودي، والحفاظ على حياة أي شخص تعتمد على الحفاظ على حياة الآخرين. لقد وحَّدتنا قيمة الحفاظ على الحياة، وهذا يعني بدوره أننا جميعًا – كبشر – نتحدث عن الشيء ذاته عندما نتحدث عن فيروس كورونا. ربما تظهر حالة قيمية مماثلة في أوقات الحروب، لكن الحروب تكون بين قوميات ودول، بينما في حالة الوباء الحالي تختلف طبيعة مواجهة العدو، فالهدف المنشود المتمثل في منع الخسائر في الأرواح يتم تقاسمه عالميًا. وهكذا يُعلن الناس في كل مكان أنهم على استعداد متزايد لوضع مصالحهم المباشرة وقيمهم المتضاربة جانبًا بُغية تحقيق هدف مشترك أكبر بكثير يتمثل في الحد من انتشار الوباء.
- بغض النظر عن نظرية المؤامرة، تتجلى العلاقة السببية بوضوح بين فيروس كورونا وظهور سلالة جديدة من الأمراض التنفسية الحادة؛ وكذلك بين حدوث المرض والوفيات الناجمة عن الإصابة به؛ ولا يؤدي عدم اليقين بشأن سهولة انتقال المرض، ولا وجود الحالات غير المصحوبة بأعراض، ولا التشخيصات الخاطئة، إلى تقويض المتسلسلة السببية، بل هي بسيطة وخطية ولا لبس فيها، فالناس يمرضون، والمستشفيات تمتلئ، والمرضى يموتون، ويمكن حساب عدد الوفيات بشكلٍ لا بأس به. وهكذا، فالوقائع تحدث أمامنا جميعًا، وهي مرئية للجميع، وليس من خلال العلماء فقط.
قد يزعم مثلاً أحد الباحثين أن مادة كيميائية معينة في البيئة، كمادة «الجليفوست» Glyphosate (وهي مبيد عُشبي مُسرطن)، يمكن أن تتسبب في زيادة الوفيات نتيجة الإصابة بالسرطان، أو أن سياسة اقتصادية معينة ستؤدي إلى عدد معين من الوظائف، لكن الحقيقة أنه ليس هناك من بإمكانه تأكيد هذه التنبؤات؛ فحتى لو كانت الآلية التي تُسبب بها المادة مرض السرطان واضحة في فئران التجارب، فمن المُحتمل أن تختلف لدى البشر لأسبابٍ غير واضحة؛ وحتى لو ظهرت بالفعل وظائف جديدة نتيجة سياسة اقتصادية مُعينة، فقد يكون سببها الإجراءات التجارية التي تتخذها دولٌ أخرى، أو التوسع في صناعات جديدة. فلا عجب إذن ألا تكون المناقشات العلمية والسياسية حول مثل هذه الأمور غير منتهية. ولكن في حالة فيروس كورونا، ثمة سرعة في تغير الاستدلالات العلمية – نظرًا لتغير حالات المرض وعواقبه – بطُرق تتيح لكل من العلماء والجمهور تقييم المستوى الحالي من الفهم العلمي على أرض الواقع.
- الواقع أن العلماء وواضعي السياسات منفتحون في الغالب على الشكوك الكبيرة المحيطة بالمرض ومساره المستقبلي، وتتراوح أوجه عدم اليقين هذه من الوقائع الأساسية حول الفيروس (كيف سيتصرف في الطقس الحار؟) إلى الاستنتاجات حول مسار المرض (كم عدد الحالات غير المشخصة الموجودة؟ ما معدل الوفيات؟) إلى التنبؤات حول كيف يمكن للسياسات (مثل الاجتماعية العزلة) أن تبطئ مسار الوباء.
لكن عدم اليقين (حول العلم والقرارات التي يتم اتخاذها) لا يمنع العمل – يتفق الجميع على الحاجة إلى العمل وعلى الهدف المطلوب، ويشترك العلماء في هذه القيم (إنهم أناس أيضًا!)، لذلك حتى لو اختلفوا حول بعض جوانب المرض، فقد لا يحتاجون إلى الشعور بالاضطرار إلى المبالغة في التأكد من نتائجهم ومعتقداتهم، على عكس التفاعلات التقليدية بين العلم والسياسة، حيث تقوم الأطراف المتنافسة بتجنيد خبرائها الذين لديهم بعد ذلك حافز قوي للتحدث بأكثر مما يبرر اليقين.
عند تقاطع العلم والسياسة، يستخدم العلماء النماذج الرياضية لاستخلاص استنتاجات حول المستقبل، لفترات زمنية تتراوح من عقود إلى قرون أو أكثر: كيف يمكن نشر تقنيات الطاقة الجديدة بشكل أفضل للحد من انبعاثات الغازات الدفيئة؟ كيف ستتصرف النفايات النووية في مستودع جيولوجي على مدى آلاف السنين القادمة؟ كم ستزيد الإنتاجية الاقتصادية إذا تم توظيف المزيد من الاستثمارات؟ لكن مثل هذه الأسئلة تنطوي دائمًا على شكوك هائلة، والنماذج المستخدمة لمحاولة الإجابة عليها محملة بافتراضات حول أسئلة أساسية أكثر لا يمكن الإجابة عنها: كيف سيتغير سعر الألواح الشمسية في العقود القادمة؟ كم عدد القرون التي ستستغرقها المياه الجوفية لتآكل أوعية تخزين النفايات النووية؟ ما مدى كفاءة الجامعات في إنشاء معرفة قيمية تُلبي حاجات الاقتصاد؟ تسمح الافتراضات المختلفة حول هذه الأنواع من الأسئلة للنماذج بإزاحة الحدود بين العلم والسياسة من خلال تقديم وجهات نظر متنافسة حول المستقبل، لدعم الأجندات السياسية المتنافسة.
- قضايا السياسة المعقدة حول مشاكل متنوعة مثل التعليم، وتغير المناخ، والرعاية الصحية، والهجرة، … إلخ، كلها مصحوبة بمجموعة متنوعة من الخطط الفرعية الإيديولوجية والسياسية التي نادرًا ما يتم توضيحها، وقد تؤثر بشكل كبير على سبب دعم أو معارضة بعض المواقف. على سبيل المثال، توجد نظريات أيديولوجية مختلفة، حول دور الحكومة مقابل القطاع الخاص في حل المشكلات، لدعم المصالح المتنافسة، وهي تبرر الخلاف حول الإجراءات التي يجب اتخاذها. ويمكن استمرار الخلاف لأنه لا أحد يعرف حقًا ما يجب فعله، لأن اختبار السياسات البديلة على المدى القصير أمر مستحيل، والمشاكل معقدة للغاية لدرجة أن تحديدها ذاته مثير للجدل: هل يمثل تغير المناخ مشكلة في أسلوب الحياة أو الابتكار التكنولوجي أو النمو السكاني؟ هل يعتبر التعليم العام الضعيف انعكاسًا للمعلمين الذين يتقاضون أجورًا زهيدة والاستثمار الحكومي غير الكافي، أو مدى قوة نقابات المعلمين، أو التفاوتات العرقية والاقتصادية التي تعود أصولها إلى أعمق من أي شيء يمكن حله على مستوى الإصلاح المدرسي؟
ولكن عندما يتعلق الأمر بمحاربة فيروس كورونا ذاته، فإن الجمع بين القيم المشتركة والمتسلسلات السببية الواضحة يجعل من الصعب استيراد جداول الأعمال السياسية من الدرجة الثانية إلى مناقشات حول الإجراءات التي يجب اتخاذها – على الرغم من الشكوك المستمرة والمعترف بها. فالأشياء التي توحدنا تفوق تلك التي تفرقنا.
الخلاصة والرؤية:
أخيرًا، لا يعني ما سبق أن الكارثة يمكن أو سيتم تجنبها، ولكن يمكننا القول أن تهديد فيروس كورونا يمكن أن يبرز أفضل ما في العلوم والسياسة، وأبرز ما في الإنسان، مثلما أبرز أسوأ ما فيه! والرسالة الأساسية التي يحملها لنا الفيروس، ليس أننا بحاجة للاستماع دائمًا إلى الخبراء، أو أن العلم سيبين لنا الطريق الذي يجب أن نسلكه، بل هي ضرورة الشعور المشترك بتضامننا كبشر في مجتمع إنساني كبير لديه الأدوات للتعامل مع مشاكله؛ فالقيم المشتركة، وليس تأكيدات الخبراء حول الحقائق، هي التي تجعل العلم جيدًا بما يكفي للعمل وفقًا له.
رؤية علمية:
العلاقة بين التغير المناخي وفيروس كورنا. |
التغير المُناخي وحالة فيروس كورونا، يبدو من الخطأ والتضليل مقارنة الفحص المشوب بسوء النية، والممول من قبل أرباب الصناعة، لمشكلة المُناخ، بالفحص المُتسرع من قبل العلماء، والقائم على نماذج محدودة ومُعطيات غير مُكتملة، لفيروس كورونا؛ كلاهما يخضع لقيم السياسة والاقتصاد، لكن الأول يتم طهيه بهدوء دون تسرع، والثاني يُؤكل نيئًا! صحيح أن ثمة إجماع سياسي متزايد حول كيفية الاستجابة لأزمة فيروس كورونا، إلا أن هذا الإجماع لن يكون دليلا جيدًا على المصداقية والموثوقية دون تنظيم وتواصل مناسب من قبل العلماء المعنيين، ولكن لسوء الحظ لا يوجد حاليًا مجتمع علمي مُنظم جيدًا لدراسة فيروس كورونا وتأثيراته، ومن ثم فالإجماع البادي قد لا يكون سوى نتيجة لعددٍ من التحيزات البشرية. |
صلاح عثمان
البيطاش – الإسكندرية- 20 أبريل 2020.
مركز المجدد للبحوث والدراسات.