حتى الكفار استغاثوا
بقلم د عادل الحمد
18 شعبان 1441هـ
في هذا الحدث العالمي وباء (كورونا)، حدثت أمور كثيرة تحتاج إلى تأمل وتفكر، منها موضوع الاستغاثة بالله لرفع الوباء.
أما أفراد المسلمين، فلم يتوقفوا عن الدعاء والاستغاثة بالله.
لكن السؤال ما هو موقف حكومات العالم بأسره، من الاستغاثة بالله لرفع الوباء؟
هذه جولة تاريخية سريعة على بعض المواقف المشابهة لما نمر به، واستغاثة الناس بالله فيها:
أولا: عرب الجاهلية:
قص الله علينا حال كفار الجاهلية إذا اشتدت بهم الخطوب وأيقنوا بالهلكة، فقال: ]هُوَ الَّذِي يُسَيِّرُكُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ حَتَّى إِذَا كُنْتُمْ فِي الْفُلْكِ وَجَرَيْنَ بِهِمْ بِرِيحٍ طَيِّبَةٍ وَفَرِحُوا بِهَا جَاءَتْهَا رِيحٌ عَاصِفٌ وَجَاءَهُمُ الْمَوْجُ مِنْ كُلِّ مَكَانٍ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ أُحِيطَ بِهِمْ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ لَئِنْ أَنْجَيْتَنَا مِنْ هَذِهِ لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ[ [يونس: 22]
]فَإِذَا رَكِبُوا فِي الْفُلْكِ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى الْبَرِّ إِذَا هُمْ يُشْرِكُونَ[ [العنكبوت: 65]
وبتأمل هذه الآيات نجد أن المشركين الذين يعبدون مع الله آلهة أخرى، يتغير موقفهم في الشدائد، فيستغيثون بالله وحده، كما قال الله عز وجل: ]مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ[، والله جل في علاه يستجيب لهم على شركهم فينجيهم من الهلاك، قال تعالى: ]قُلْ أَرَأَيْتَكُمْ إِنْ أَتَاكُمْ عَذَابُ اللَّهِ أَوْ أَتَتْكُمُ السَّاعَةُ أَغَيْرَ اللَّهِ تَدْعُونَ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (40) بَلْ إِيَّاهُ تَدْعُونَ فَيَكْشِفُ مَا تَدْعُونَ إِلَيْهِ إِنْ شَاءَ وَتَنْسَوْنَ مَا تُشْرِكُونَ[ [الأنعام: 40، 41]
وقال: ]قُلْ مَنْ يُنَجِّيكُمْ مِنْ ظُلُمَاتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ تَدْعُونَهُ تَضَرُّعًا وَخُفْيَةً لَئِنْ أَنْجَانَا مِنْ هَذِهِ لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ (63) قُلِ اللَّهُ يُنَجِّيكُمْ مِنْهَا وَمِنْ كُلِّ كَرْبٍ ثُمَّ أَنْتُمْ تُشْرِكُونَ[ [الأنعام: 63، 64]
لقد أيقن الكفار أن آلهتهم التي يدعون من دون الله لا تملك أن تحميهم في حال الشدة.
فهل أدركت حكومات المسلمين أن دول الحلفاء، والدول الصديقة، لا يملكون أن يحموهم من أمر الله إذا جاء؟
إن الله عز وجل ينجي الكافر في حال الشدة إذا لجأ إليه.
فهل تلجأ حكومات المسلمين اليوم إلى الله لرفع الوباء؟
ثانيا: فرعون:
ما هو موقف فرعون الذي قال: ] أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلَى[ [النازعات: 24]، من الشدائد التي مرت عليه، وعلى قومه؟
قال تعالى: ] فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمُ الطُّوفَانَ وَالْجَرَادَ وَالْقُمَّلَ وَالضَّفَادِعَ وَالدَّمَ آيَاتٍ مُفَصَّلَاتٍ فَاسْتَكْبَرُوا وَكَانُوا قَوْمًا مُجْرِمِينَ (133) وَلَمَّا وَقَعَ عَلَيْهِمُ الرِّجْزُ قَالُوا يَامُوسَى ادْعُ لَنَا رَبَّكَ بِمَا عَهِدَ عِنْدَكَ لَئِنْ كَشَفْتَ عَنَّا الرِّجْزَ لَنُؤْمِنَنَّ لَكَ وَلَنُرْسِلَنَّ مَعَكَ بَنِي إِسْرَائِيلَ[ [الأعراف: 133 – 134]
] وَقَالُوا يَاأَيُّهَ السَّاحِرُ ادْعُ لَنَا رَبَّكَ بِمَا عَهِدَ عِنْدَكَ إِنَّنَا لَمُهْتَدُونَ [ [الزخرف: 49]
لقد أدرك فرعون حقيقة نفسه، وأنه لا يستطيع أن يقاوم الجراد ولا القمل، ولا الضفادع، فما الحل؟
الحل اللجوء إلى نبي الله موسى عليه الصلاة والسلام ليدعو لهم. ففعل موسى فكشف الله ما بهم.
فهل تلجأ حكومات المسلمين إلى العلماء ليدعو الله برفع الوباء عنا؟
إن فرعون على تكبره، إلا أنه كان يعلم علم اليقين أن موسى على الحق، وهو على الباطل، قال تعالى: ]وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنْفُسُهُمْ ظُلْمًا وَعُلُوًّا فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ[ [النمل: 14]
وإن حكومات المسلمين تعلم علم اليقين أن الإسلام هو الحق، لكنها تعرض عن تطبيقه ] ظُلْمًا وَعُلُوًّا[ ، فهل اعتبرت بهذا الوباء؟ أم أنها تنتظر المرحلة الأخيرة من حياة فرعون؟!
قال تعال: ]وَجَاوَزْنَا بِبَنِي إِسْرَائِيلَ الْبَحْرَ فَأَتْبَعَهُمْ فِرْعَوْنُ وَجُنُودُهُ بَغْيًا وَعَدْوًا حَتَّى إِذَا أَدْرَكَهُ الْغَرَقُ قَالَ آمَنْتُ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا الَّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنُو إِسْرَائِيلَ وَأَنَا مِنَ الْمُسْلِمِينَ (90) آلْآنَ وَقَدْ عَصَيْتَ قَبْلُ وَكُنْتَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ (91) فَالْيَوْمَ نُنَجِّيكَ بِبَدَنِكَ لِتَكُونَ لِمَنْ خَلْفَكَ آيَةً وَإِنَّ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ عَنْ آيَاتِنَا لَغَافِلُونَ[ [يونس: 90 – 92]
إن فرعون لما أيقن بالهلكة، لجأ إلى الله، ولكن لجوء المستكبرين، وأعلن إيمانه بما آمنت به بنو إسرائيل، فنجى الله بدنه دون روحه، ليكون عبرة للمعتبرين.
فهل تنتظر حكومات المسلمين هذه المرحلة لتكون عبرة للمعتبرين؟!
ثالثا: نار المدينة النبوية:
قال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لا تَقُومُ السَّاعَةُ حَتَّى تَخْرُجَ نَارٌ مِنْ أَرْضِ الْحِجَازِ تُضِيءُ أَعْنَاقَ الإِبِلِ بِبُصْرَى». (رواه البخاري).
وهذه النار خرجت في المدينة النبوية سنة 654 ه، قال ابن كثير رحمه الله: ((وَذكرَ أَنَّ ضَوْءَهَا يَمْتَدُّ إِلَى تَيْمَاءَ بِحَيْثُ كَتَبَ النَّاسُ عَلَى ضَوْئِهَا فِي اللَّيْلِ، وَكَأَنَّ فِي بَيْتِ كُلٍّ مِنْهُمْ مِصْبَاحًا، وَرَأَى النَّاسُ سَنَاهَا مِنْ مَكَّةَ، شَرَّفَهَا اللَّهُ.
قُلْتُ: وَأَمَّا بُصَرَى فَأَخْبَرَنِي قَاضِي الْقُضَاةِ صَدْرُ الدِّينِ عَلِيُّ بْنُ أَبِي قَاسِمٍ التَّمِيمِيُّ الْحَنَفِيُّ قَالَ: أَخْبَرَنِي وَالِدِي، وَهُوَ الشَّيْخُ صِفِيُّ الدِّينِ مُدَرِّسُ بُصَرَى، أَنَّهُ أَخْبَرَهُ غَيْرُ وَاحِدٍ مِنَ الْأَعْرَابِ صَبِيحَةَ تِلْكَ اللَّيْلَةِ مَنْ كَانَ بِحَاضِرَةِ بَلَدِ بُصَرَى، أَنَّهُمْ رَأَوْا صَفَحَاتِ أَعْنَاقِ إِبِلِهِمْ فِي ضَوْءِ هَذِهِ النَّارِ الَّتِي ظَهَرَتْ مِنْ أَرْضِ الْحِجَازِ.
وَقَدْ ذَكَرَ الشَّيْخُ شِهَابُ الدِّينِ أَنَّ أَهْلَ الْمَدِينَةِ لَجَئُوا فِي هَذِهِ الْأَيَّامِ إِلَى الْمَسْجِدِ النَّبَوِيِّ، وَتَابُوا إِلَى اللَّهِ مِنْ ذُنُوبٍ كَانُوا عَلَيْهَا، وَاسْتَغْفَرُوا عِنْدَ قَبْرِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، مِمَّا سَلَفَ مِنْهُمْ، وَأَعْتَقُوا الْغِلْمَانَ، وَتَصَدَّقُوا عَلَى فُقَرَائِهِمْ وَمَحَاويجِهِمْ)). (البداية والنهاية 9/ 298)
((وَبَاتَ النَّاسُ تِلْكَ اللَّيْلَةَ بَيْنَ مُصَلٍّ وَتَالٍ لِلْقُرْآنِ وَرَاكِعٍ وَسَاجِدٍ، وَدَاعٍ إِلَى اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ، وَمُتَنَصِّلٍ مِنْ ذُنُوبِهِ، وَمُسْتَغْفِرٍ وَتَائِبٍ، وَلَزِمَتِ النَّارُ مَكَانَهَا، وَتَنَاقَصَ تَضَاعُفُهَا ذَلِكَ وَلَهِيبُهَا، وَصَعِدَ الْفَقِيهُ وَالْقَاضِي إِلَى الْأَمِيرِ يَعِظُونَهُ، فَطَرَحَ الْمَكْسَ، وَأَعْتَقَ مَمَالِيكَهُ كُلَّهُمْ وَعَبِيدَهُ، وَرَدَّ عَلَيْنَا كُلَّ مَا لَنَا تَحْتَ يَدِهِ، وَعَلَى غَيْرِنَا، وَبَقِيَتْ تِلْكَ النَّارُ عَلَى حَالِهَا تَلْتَهِبُ الْتِهَابًا)). (البداية والنهاية 17/ 336)
فهل يتحرك القضاة والعلماء ليطالبوا الحكومات بإلغاء الضرائب، ورد المظالم، وإخراج السجناء من العلماء والدعاة والمظلومين؟ وهل تستجيب لهم الحكومات كما استجاب أمير المدينة للعلماء؟
رابعا: فيضان بغداد:
قال الذهبي رحمه الله عن سنة 654ه : (( وفيها كان غرق بغداد. وزادت دجلة زيادة ما سمع بمثلها، وغرق خلق كثير، ووقع شيء كثير من الدور وأهلها، وأشرف الناس على الهلاك، وبقيت المراكب تمر في أزقة بغداد وركب الخليفة في مركب، وابتهل الخلق إلى الله بالدعاء)). (العبر في خبر من غبر 3/ 271)
خامسا: أمريكا وأوروبا:
أمريكا وأوروبا، الدول الصديقة والحليفة، كذلك لجأت إلى الكنيسة والرهبان، بل وسمحوا برفع صوت الأذان في البلدان، وأذاعوا في قنواتهم القرآن، كل هذا لرفع الوباء عن عباد الصلبان.
يا حكومات المسلمين، لا ملجأ لكم من الله إلا إليه، فهذا أوان التوبة والعودة إلى الله بتحكيم شرعه، ورفع الظلم عن المظلومين، وترك المحرمات، قبل فوات الأوان.
اللهم ردنا إليك ردا جميلا، والحمد لله رب العالمين.