يوم في حياة باحث منذ ربع قرن.
أ د . عبد الحميد عبد الجليل شلبي.
أستاذ التاريخ الحديث والمعاصر – جامعة الأزهر.
طريق البحث ومشقته:
(منذ ربع قرن) كان البحث العلمي (ولايزال) مهنة شاقة على مافيها من متعة تحصيل العلم والوصول إلى الهدف الذي من أجله يسعى الإنسان – ويكد – وهو الحقيقة .
وقد اختلفت وسائل البحث العلمي من جيل إلى جيل، وكلما تقدمت البشرية كلما أصبح البحث العلمي أكثر يسرًا ولكنه في ذات الوقت أصبح أكثر تعقيدًا ويحتاج إلى أولي العزم من الباحثين المجيدين والمجتهدين .
ومادعاني لأن أكتب هذا المقال لأوضح لأبنائنا الباحثين ما كنا عليه بالأمس، وما هم عليه اليوم من يسر ، وعلى الرغم من ذلك تجد البعض يتكاسل بل ويتعجل إنجاز بحثه دون قراءة كافية لدرجة أن احد الباحثين لم يمض على تسجيله شهر واحد حتى هاتفني ليسألني هل أبدأ الآن أكتب التمهيد أم الفصل الأول؟ ألهذا الحد وصل الأمر ببعض الباحثين ؟.
وإليكم يوم في حياة باحث منذ ربع قرن أويزيد:
كان عمر صاحبنا حينما سجل لدرجة الدكتوراة (27) عامًا، وكانت عن العلاقات المصرية العراقية 1951-1963م، فكان صاحبنا يستيقظ مبكرًا ، وبعد أن يؤدي صلاة الصبح يخرج من بيته متوجهًا إلى رملة بولاق (بالقرب من ميدان التحرير) حيث مقر دار الكتب والوثائق القومية ، فيبدأ بالذهاب إلى دار الوثائق، وكانت قاعة الاطلاع محل مكتب رئيس الهيئة حاليًا، وكان رئيس الدار وقتها أ. إبراهيم فتح الله، وكانت مديرة القاعة أ.س ، أما حكمدار القاعة فتلميذتها النجيبة أ.(ن) ، وكانت أ. س تترك للأستاذة (ن) القاعة وتذهب إلى مكتب أ. إبراهيم، وكان الباحث في نظر (الحكمدار) متهم حتى تثبت براءته، وكنا نبتهل إلى الله تعالى أن تمن علينا بالموافقة على إحضار المحافظ ( كان نظام الاطلاع قبل الأرشفة الحديثة ونظام الكود الأرشيفي بنظام بالمحافظ ، وكل محفظة تحتوي على عدد من الملفات ، ومن حسن الحظ أن كنا من أوائل من اطلع على هذه الوثائق)، وكان لكل باحث أربعة محافظ في اليوم سواء وجد بها ضالته أم لا؟ وكانت (ولازالت) بعض المحافظ تحمل عناوين رنانة يسيل لها لعاب الباحثين ، ولكن حينما يطلبها إما أن يكون محتواها ورقة واحدة ، أو يقال له الملف مسحوب .
وبعد أن يتم صاحبنا مهمته في دار الوثائق (وكانت تغلق ابوابها في الساعة الواحدة) ، ينتقل إلى مبنى دار الكتب حيث قاعة الدوريات في الطابق الثاني (وكان الإطلاع على الأصل الورقي قبل العمل بنظام الميكروفيلم)، وقبيل الصعود إلى قاعة الدوريات، نتجه صوب البدروم مع صحبة طيبة من الباحثين والباحثات لنتناول بعض المأكولات ونحتسي بعض المشروبات لنتقوى بها على بقية اليوم ، وفي تلك الأثناء نتبادل الأراء حول موضوعاتنا البحثية التي كنا نحفظها جميعًا، ومن كانت لديه فكرة يطرحها على زملائه، ومنهم من يوجه نظر زميل إلى مرجع أو مصدر في موضوعه، ويعد المشروبات وصلاة الظهر، نتجه إلى قاعة الدوريات إلى أن ياتي موعد الرحيل وكان (على ما أتذكر ) الثالثة والنصف أو الرابعة عصرًا .
نودع بعضنا بعضًا، ويتجه صاحبنا صوب ميدان التحرير حيث مكتبة الجامعة الأمريكية بالقاهرة، وكنت حينئذ أحمل بطاقة استعارة تصل إلى عشرة كتب( كانت الاستعارة لمدة أسبوعين ويمكن تجديدها)، فكان يمكث في المكتبة ليطلع على المصادر References والوثائق المنشورة التي لا يتم استعارتها، ويظل صاحبنا في المكتبة حتى موعد الإغلاق( الساعة الثامنة ليلاً)، وقبيل المغادرة يستعير ما يتيسر من المراجع العربية والأجنبية، ويبدأ في تصفحها في المواصلات (مترو الأنفاق حيث كان يسكن في ضاحية عزبة النخل)، وحينما يصل إلى بيته يبدأ في فرز المادة العلمية التي جمعها فيضع مايخص الوثائق، والدوريات، والمصادر، في الملفات المخصصة لها، وإن تيسر له بعض الوقت يقوم بجمع المادة العلمية من بعض المراجع التي استعارها، ثم يخلد إلى النوم والراحة ليبدأ يومًا جديدًا، من أيام البحث الممتعة، حيث لا تضاهيها متعة.
رحلة البحث العلمي ما بين الماضي والحاضر:
وفضلاً عن هذا اليوم المليء بالعمل كنا لا نهمل حضور السيمنارات العلمية التي كانت تُعقد بعد الساعة الخامسة سواء في الجمعية التاريخية (وكان مقرها شارع البستان بالقرب من ميدان التحرير وشارع قصر النيل) ، أو سيمنار كلية الآداب بجامعة عين شمس، أو سيمنار كلية البنات جامعة عين شمس، حيث التعلم من الكبار من كافة الجامعات المصرية، وكانت هذه السيمنارات فرصة للباحثين للاطلاع على أحدث المؤلفات والأبحاث لكبار الأساتذة الذين كانوا يفتحون باب المناقشات لسماع طلابهم من كافة الجامعات.
هكذا كان حال البحث العلمي، لذا أقول لأبنائي الباحثين، لا تنغلقوا على أنفسكم، فإن كان الله قد أنعم عليكم بتوفر المصادر في بيوتكم بضغطة زر، قلا تقبعوا في بيوتكم منعزلين عن المناخ العلمي، فابحثوا عن المؤتمرات والسيمنارات، فهي كفيلة بصقل مواهبكم العلمية، وسوف تضيف إلى معارفكم الكثير، فالكتاب يعطيك المعلومة المجردة، أما المنتديات العلمية فتعطيك الأفكار والتحليل وطرق التفكير، وهي عدتنا حتى كتابة هذه السطور .
مفاهيم بحثية:
المحافظ البحثية |
نظام الاطلاع قبل الأرشفة الحديثة ونظام الكود الأرشيفي بنظام بالمحافظ، وكل محفظة تحتوي على عدد من الملفات، ومن حسن الحظ أن كنا من أوائل من اطلع على هذه الوثائق. |
الخلاصة والرؤية:
وليكن شعارك أخي الباحث قول القائل:
ومن لم يذق مُر العلم ساعة تجرع ذل الجهل طول حياته.
ومن فاته التعليم وقت شبابه فكبر عليه أربعً لوفاته.
وفي النهاية هذه نصيحتي لمن يقبلها ، وأتمثل قول ابي زيد القيرواني(ت: 386هـ):
إني لأمنح نُصحي ثم أبُذُله لمن بغى نفعه عني ويقبله. وفقنا الله وإياكم لكل خير.
مركز المجدد للبحوث والدراسات.