انتهينا في الحلقة السابقة إلى مسح لأهم الأوبئة العالمية التي شكلت منعطفات في تاريخ البشرية، وشكلت سياقات مؤطرة لنهاية حضارات وظهور حضارات جديدة بشكل دوري، تمخض عنه تعاقب حقب تاريخية، وصولا إلى حقبة العولمة المتسيّدة في فضائنا الزمني الراهن، والتي يشكل وباء كورونا إحدى مشاهدها الأساسية.
والفرضية التي يطرحها هذا المقال تكمن في أن هذا الوباء سيغيّر أيضا من إيقاع العولمة، ويجعل مسار الإنسانية يتخذ منحى جديدا.
مدخل منهجي:
يبدو أن معالجة موضوع وباء كورونا زمن العولمة كمقاربة لتفسير بداية أو انتهاء حقبة تاريخية نعايشها، لا يخلو من مغامرة في التفكير، فهو موضوع يتسم بكثير من اللبس والضبابية والاستعصاء على الفهم الدقيق، لأنه يعكس تجلياّ من تجليات أزمة العولمة؛ و”المعلومة” التي يستند إليها المؤرخ في البناء والتفسير التحليل في مراحل الأزمات والكوارث، غالبا ما تكون ناقصة أو مشوهة أو عصية على الاختراق.
كما أن الموضوع لحظي، لا يزال في طور التشكّل تحت سمعنا وبصرنا، بوتيرة سريعة، نتيجة تسارع الأحداث التي قد تجعل الباحث يعدّل آراءه كل يوم بسبب المتغيرات التي تحملها الأخبار على مدار الساعة. وهذا ما يستلزم تناوله ضمن ما سماه الفيلسوف الألماني إيمانويل كانط عند معالجته مسألة التنوير ب” الجرأة على الفهم“، لإدراك الأحداث وتفاعلاتها.
وهو نفس ما دافع عنه الفيزيائي ديفيد دويتش في كتابه “بداية اللانهاية” بالقول: ” إننا إذا تجرأنا على الفهم، يصبح التقدم ممكنا في كل المجالات العلمية والسياسية والأخلاقية“.
ما يهمنا من هذه الاستشهادات أن طرحنا لموضوع تأثير وباء كورونا في نظام العولمة أو النيوليبرالية سيكون أقرب للجرأة لفهم الموضوع مدار الدراسة، ومحاولة رسم خطوطه الأولية، وليس تقديم إجابات دقيقة، لأن قراءتنا لهذه المتغيرات تستند على معطيات تتغير باستمرار كما أشرنا سابقا.
بيد أن التراكمات التي أفرزتها العولمة المتوحشة في العقود الأخيرة، إلى جانب بعض المؤشرات الحالية، تجعلنا نسير بفرضيتنا قدما، وإن كان من الصعب التكهن بموعد التحول أو حجمه، لأن درس التاريخ علّمنا أن التحولات التاريخية لا تتم بعصا سحرية، بل تستغرق عقودا، أو حتى قرونا كما عرفنا بالنسبة للوباء الذي أصاب الإمبراطورية الرومانية أو البيزنطية والطاعون الأسود، فكلها أوبئة لم تظهر انعكاساتها في انهيار حضارات وصعود حضارات أخرى إلا بعد حيّز زمني طويل.
وباء كورونا يكشف هشاشة نظريات العولمة:
لن أعالج مواطن ضعف نظريات العولمة والنظام النيوليبرالي الذي أشبع بحثا من قبل المتخصصين الاقتصاديين من طينة سمير أمين وجون إيف هوارت Huwart ، والمفكرين والفلاسفة الغربيين من قبيل ادغار موران، وروجي غارودي، ونعوم تشومسكي والمفكرين العرب من قبيل المرحومين محمد عابد الجابري والمهدي المنجرة وغيرهم ممن يندّ عن الحصر.
لقد أجمع هؤلاء على خروج هذا النظام عن سكة الإنسانية، وعن دائرة الأخلاق، وفرضه تنميطا ثقافيا سعى من خلاله إلى طمس القيم الإنسانية التي شيّدتها الحضارات السابقة، وأعلن نفسه حضارة متفوقة عسكريا واقتصاديا. وسعى سياسيا إلى إنتاج دول فاشلة للهيمنة عليها، في الوقت الذي غزا بسلطته المالية وشركاته العابرة للقارات كل المجتمعات الفقيرة، ليجعل منها سوقا استهلاكية ربحية كما بيّن ذلك مؤخرا المفكر روبين نيبلت في مجلة Foreign policy التي استطلعت آراء مجموعة من أبرز المفكرين حول مستقبل العالم بعد وباء كورونا.
تأسيسا على ذلك، سنكتفي في معالجتنا لهذه النظريات على إبراز الوجه الآخر من هشاشة العولمة في علاقتها مع الأوبئة، من خلال وضع الأصبع على المجال الصحي في الدول الكبرى المنضوية في فضاء العولمة، بهدف إبراز رخاوة النظريات التي روجت لها، وصوّرتها كنظام قوي في جميع القطاعات، بما في ذلك القطاع الصحي، وعدم صواب زعمها أنه نظام صلب قادر على قيادة البشرية، ويشكّل نهاية للتاريخ.
أعتقد أنه لو كتب فرانسيكو فوكوياما كتابه “نهاية التاريخ والإنسان الأخير” بعد وباء كورونا، لغيّر نظريته التي أسسها على قدر كبير من اليقين الخادع، والخمار المعرفي المظلل، وابتلع كل الحبر الذي أساله دفاعا عن هذه النظرية القائلة أن الليببرالية الديموقراطية تعد آخر حقبة في التاريخ. عن العولمة. وقد سبق أن فندنا في دراسة سابقة بالدلائل والقرائن منزلقات “فوكوياما” وبؤس نظريته حول “نهاية التاريخ“.
أما صموئيل هنتنغتون الذي صّور في المحاضرة التي ألقاها في أكتوبر 1992 العالم بأنه صراع حضاري بين الغرب والإسلام، قبل أن ينقحها في صيف السنة الموالية ، وينشرها في مجلة Foreing Affairs بعنوان “صدام الغرب والآخرين” : The West and the Rest ، فقد سبق أن أثبتنا فجاجية نظريته المتنكرة لحقائق التاريخ الإسلامي ووقائعه التي استمدها من برنارد لويس، دون أن يكلف نفسه عناء الرجوع للمصادر، فنسج نظريته حول استمرارية معادلة “نحن” و “هم” ، ومقولته حول “نضج الحضارة الغربية”، وتهديد المهاجرين المسلمين للحضارة.
كما أثبتنا أن كبوته المعرفية وعدم معرفته الدقيقة بحضارات المجتمعات غير الغربية، جعلته لا يدرك أن الحضارات البشرية لا تتصارع، وإنما تتكامل، وأن القوى السياسية والمصالح هي التي تتصارع. في حين أن الشعوب والمجتمعات المدنية تتكاثف جهودها وتبني تحالفات وأشكال من التثاقف في مجال الطب وأساليب التصدي للأوبئة والكوارث. وتقف اليوم نظرية هنتنغتون على المحك، حيث أن الغرب المتحضر هو أكثر مجال جغرافي يفتك بشعوبه فيروس كورونا، بل إن زعيمته الولايات المتحدة تقف عاجزة مذهولة لا تعرف أي قدم تقدّم أو تؤخر، فعدّاد الموتى في تصاعد صاروخي، والموت حصد إلى حدود كتابة هذه السطور ما يناهز تسعة آلاف من الأمريكيين، والرقم مرشح للارتفاع.
ولو قدّر أيضا للمفكر الكندي وعالم الاجتماع النفساني ستيفن بينكر Steven Pinker تأليف كتابه “التنوير الآن: دفاعا عن العقل والعلم والنزعة الإنسانية والتقدم” بعد جائحة كورونا التي هزّت العالم هذه الأيام، لتخلى عن بعض آرائه التي كتبها حول المجال الصحي في العالم، مع أن الرجل دعّم أحكامه بإحصائيات أمدّه بها الخبراء والمؤسسات والمعاهد العلمية. غير أن الإحصائيات قد تكون أحيانا خادعة نتيجة الأخطاء المنهجية التي تقع في فخ العجز عن المطابقة بين الأرقام والواقع الذي ينطق بلغة مخالفة.
ولعلّ “التحسن الصحى” الذي تحدث عنه، لا يعضده الواقع الذي فرضه وباء كورونا حيث عجزت المستشفيات عن استيعاب عدد المصابين حتى في البلدان الأكثر تصنيعا في العالم كما سنفصل فيما بعد. وحسب مؤشرات الأمن الصحي العالمي(GHS index) لسنة 2019، فإن ما يقدر بنحو 400 مليون شخص لا يستطيعون الحصول على أبسط الخدمات الصحية، وأن 75٪ من البلدان على الأقل صنفت في درجات منخفضة على المخاطر البيولوجية الكارثية على المستوى العالمي.
وأحسب أن وباء كورونا جاء ليعريّ النظريات التي روجت لنظام العولمة، ويقلب تصوراته حول مرتكزين كان يدعي القدرة إلى حد الغرور في امتلاكهما وهما معا مرتبطان بمجال الأوبئة:
مقولة العلم المطلق المسيطر على الطبيعة:
إن إطلاق صفة المطلق على العلم، لا يعني انتقاصا من قيمته، بل نقدا للنظريات ذات النزعة الوثوقية التي تراه في حقيقته المطلقة، وتتبجح بسيطرته الكاملة على الطبيعة، دونما مراعاة لخصوصية التجريب والتطبيق عند حدوث الكوارث غير المتوقعة. فبعد أن كان العالم يعتقد أن نظريات نيوتن تمثل الحقيقة المطلقة، جاءت نظريات إنشتاين لتثبت أنها نسبية، وأن مفهوم الزمن قد تبدّل من كونه مطلقا إلى كونه نسبيا. لذلك لا يمكن أن يكون العلم نهائيا في أي حقبة تاريخية، بل يبقى دائما خاضعا لقيم النسبية في سنّته التطورية. واستعماله بالموقف الإطلاقي لا يمكن إلا أن يلعب دورا سلبيا في تطور البشرية ، بل يساهم في تدميرها. وقد زعم كلّ من فوكوياما وهنتنغتون أن العلم الذي بلغته حضارة الغرب في مجال الآلة التقنية والشبكات الرقمية والتكنولوجيا المتطورة والأبحاث الفضائية، قادر على السيطرة على كل التوقعات والكوارث المحتملة، وهي في تقديرنا أحكام مجانبة للصواب.
التعالي عن فكرة ضعف الإنسان:
لا مشاحة أن صفة مقولة ضعف الإنسان من المسلّمات الوجودية المتأصلة في الكينونة الإنسانية التي لا يخطئها العقل السليم، وهو ما أكدته الكتب السماوية، وخصوصا القرآن الكريم الذي جعل من الضعف سمة من سمات الإنسان، طبقا لقوله تعالى: {وَخُلِقَ ٱلْإِنسَٰنُ ضَعِيفًا}. غير أن نظام العولمة قفز على معمار هذين المكوّنين الأساسيين لحقيقة الوجود الإنساني وإدارة الحياة البشرية، عندما أصابه جنون العظمة والغرور، واعتقد خاطئا أنه قادر بآلية العلم الهيمنة على مقدرات الكون، وتجاوز كل نقط الضعف البشري. بل تجرأ على العبور نحو استنساخ البشر بعد أن استنسخ الحيوان، وظنّ أنه بذلك قد تربّع على عرش العلم والمعرفة.
غير أن فيروس كورونا التاجي الذي ينتمي للجيل السادس من الفيروسات غير المرئية، قلب العرش على صاحبه حين زرع فيه الرعب والهلع، ووضع حدّا لأنشطته الاقتصادية ومبادلاته التجارية وتعاملاته المالية، وعطّل الشركات، وأربك البورصات والأسواق العالمية، وشلّ حركة المطارات، وأوقف أسفار أصحاب رؤوس الأموال، وفرض على الملوك والرؤساء وعلى جميع الكائنات البشرية الخيار بين الحجر المنزلي أو الموت، وتأكد للجميع أن هذا الفيروس لا يميّز بين غني وفقير، ولا ينفع معه مال ولا بنون ولا سلطة ولا جاه.
وباء كورونا حدث غيّر كل الموازين والمعادلات، وقلب رأسا على عقب صورة الإنسان العولمي الذي ألّهته نظريات العولمة وكتائبها الفكرية، فأعاده إلى طبيعته الأصلية وضعفه الفطري، وأبان عن عجزه التام أمام مخلوق صغير لا يرى بالعين المجردة. لم يعد مقياس خطر وباء كورونا يقوّم بما يخلفه من أعداد مهولة من المصابين والموتى، بل بدرجة الوهن والضعف والشلل التام أمام هذا القاتل الذي لم تنفع معه منجزات المختبرات العلمية، ولا طائرات العولمة وبوارجها البحرية ولا عتادها وأسلحتها. غيّر فيروس كورونا الخريطة الجيو- اقتصادية المألوفة حين ألغى تقسيم الدول إلى مصنّعة ومتخلفة، وجعل كل الدول على قدم المساواة في الضعف وقلّة الحيلة. وبكلمة مختزلة، فقد كشف فيروس كورونا كم هي هشة تلك النظريات التي روجت للعولمة المتجبرة ، وكم أن لحم المجتمع العولمي قابل للنهش بسهولة ويسر.
منطق العولمة: الربح قبل صحة الإنسان:
بغض النظر عمّا إذا كان الفيروس التاجي مصنّعا أو طبيعيا، فقد عرّى نظام العولمة، وكشف أن الإنسان العولمي المغرور بنياشين علمه، المزهو بقدرته على قهر الطبيعة، استخدم العلم ونتائجه دون رادع أخلاقي، على حساب صحة البشر، فجعل من تطبيقات العلم وسيلة لصنع أسلحة الدمار الشامل، والغازات السامة وكافة الأسلحة البيولوجية لتدمير البشرية، بدل تسخير العلم في خدمة مكافحة الأوبئة. فالربح هو مركز تفكير الأسواق الرأسمالية قبل التفكير في مواجهة الكوارث، أو كما قال نعوم تشومسكي في إحدى حواراته مؤخرا: (( كانت إشارات السوق واضحة: لا يوجد أي ربح في منع كارثة في المستقبل)). وحسب بعض التسريبات، فإن بنك جي بي مورغان تشيس، وهو أكبر بنك في الولايات المتحدة، حذّر من أن بقاء البشرية في خطر، هو الوسيلة التي تبقيه في مساره الحالي، بما في ذلك استثماراته في الوقود الأحفوري.
لقد أنفقت الولايات المتحدة أموالا باهظة في إعداد الصواريخ ذات الرؤوس النووية والأسلحة الجرثومية، والغازات السامة الضارة بالبيئة، والمسبّبة للأمراض والأوبئة التي تعصف بالبشر، في حين لم تخصص هذه المبالغ المالية الخيالية لبناء المستشفيات والمرافق الصحية تحسبا للكوارث المحتملة. علما أن صنع القرار الأمريكي لا يتم إلا بعد موافقة عالم رجال الأعمال، ويكرس للربح الخاص، بحيث لا يكون له أي تأثير إيجابي على الصالح العام كما يؤكد ذلك تشموسكي الخبير بالمجتمع الأمريكي. لقد أثقلت الشركات التجارية المتسيّدة الرعاية الصحية في الولايات المتحدة بالضرائب، مما جعل الاستجابة الشعبية لها ضعيفا. ويعزى هذا التلكؤ في الانخراط في الرعاية الصحية إلى قوة النظام التشريعي الذي صاغته قوة الأعمال وخدامها الاذكياء كما يقول تشومسكي في حواره المنشور في موقع truthout.org.
لذلك ظل القطاع الصحي الأمريكي يعاني من الضعف رغم صورته البراقة. حسبنا دليلا على ذلك ما تعانيه أمريكا اليوم من نقص كبير في المستشفيات، وأسرة المرضى ومختلف الأجهزة الطبية، حتى أنها اضطرت مؤخرا إلى تحويل مجمع رياضي للتنس وتخصيصه لاستقبال المصابين بفيروس كورونا. وفي كل يوم تطالعنا الأرقام بكثرة عدد المرضى المصابين بالفيروس من الشعب الأمريكي، وازدياد عدد الموتى الذي أصبح مقلقا.
كما قلّصت الولايات المتحدة من ميزانيتها المخصصة لأبحاث الأوبئة بنسبة 21 %، وأغلقت مكتب الأوبئة التابع للبيت الأبيض الذي تمّ تأسيسه في عهد الرئيس أوباما، وأوقفت برنامج “بريديكت” سنة 2019، وهو برنامج مختص بتتبع وبحث أكثر من ألف شكل من الفيروسات حسبما أورده أحد الباحثين. وتمّ أيضا إلغاء مشروع شراء الأجهزة التنفسية من شركة كانت قد تعاقدت معها وزارة الصحة الأمريكية، مما يشكل خطرا صحيا كبيرا نبّهت إليه صحيفة نيويورك تايمز مبكرا بالقول: (( إن الجهود المخصصة لإنشاء خزين جديد من أجهزة التنفس الرخيصة وسهلة الاستخدام تسلط الضوء على مخاطر الاستعانة بالشركات الخاصة في مشاريع ذات آثار حاسمة على الصحة العامة ، وتركيزهم على تعظيم الأرباح لا يتسق دائما مع هدف الحكومة المتمثل في الاستعداد لأزمة مستقبلية)).
وعلى غرار الولايات المتحدة، أعلنت الأنظمة الرأسمالية الغربية في أوروبا كذلك عجز نظامها الصحي عن مواجهة وباء فيروس كورونا المستجد، ومنها إيطاليا وفرنسا وإسبانيا التي قلصت من الرعاية الصحية للمصابين من الفيروس، وكذلك ألمانيا رغم نظامها الصحي المتطور، وبريطانيا التي لم يرحم كورونا رئيس حكوماتها الذي دعا الشعب البريطاني إلى توديع أقاربهم. ولم يكن هذا المآل سوى نتيجة من نتائج التنافس بين الدول السابحة في فلك النظام العولمي الذي وصل إلى حدّ استخدام المادة الوراثية لكائنات حية كالحيوانات والبكتريا والفيروسات، خدمة لأجندة عسكرية تمخضت عن تصنيع كائنات معدلة وراثيا، ومنفلتة عن السيطرة.
حلّ فيروس كوفيد 19 ليزيل ورقة التوت عن عورة النظام النيوليبرالي الصحي ويكشف سوء تطبيق منجزه العلمي، وبعده مسافة ضوئية عن أخلقة العلم وتنميته لما يخدم البشرية، ويعري الجانب المضمر المتوحش في نظام العولمة الذي جعل من فيروس كورونا “الوحش الذي تغذيه الرأسمالية” «The Coronavirus Crisis Is a Monster Fueled by Capitalism» حسب تعبير عنوان المقال الذي حبّره المؤرخ الأمريكي مايك ديفيس من جامعة كاليفورنيا. إنه مشهد آخر من مشاهد التردي الأخلاقي والتوحش الربحي المادي على حساب أرواح البشر، ومؤشر من المؤشرات التي توحي بنهاية نظام يحفر قبره بيده لينهي حقبة تاريخية غير مأسوف عليها، أو على الأقل سينحو بالعالم نحو حقبة أخرى معدّلة، تتسم بنزعة إنسية نسبيّة، ويتم فيها إعادة رسم خريطة تنظيم استغلال ثروات العالم والتصرف فيها بتدبر وتفكر، واستقاء الدروس والعبرة من قلب التاريخ، وتوزيع عادل للثروات، وبعد عن الإسراف والترف، ما دام أن التاريخ أثبت أن المجتمعات التي سيّرتها عقلية مجبولة على الترف والتبذير انطبق عليها قول الله تعالى: {وَإِذَا أَرَدْنَا أَنْ نُهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا فَفَسَقُوا فِيهَا فَحَقَّ عَلَيْهَا الْقَوْلُ فَدَمَّرْنَاهَا تَدْمِيرًا}.
كورونا في زمن العولمة والسؤال الوجودي:
أختم هذه الحلقة باستخلاص العبرة من تغوّل نظام عولمي عابر للقارات، فرض نفسه على المجتمع الدولي، وهي العبرة التي اختزلها السؤال الوجودي الذي طرحه الرومان أيضا على إمبراطوريتهم التي لم تكن تغيب عنها شمس، ولكنها كانت عاجزة عن توفير الدواء للأجساد المهددة بالموت جراء وباء الطاعون، الأمر الذي أسفر عن سقوط الحضارة الرومانية كما ٍأسلفنا القول في الحلقة السابقة. فعلى الرغم من روحه التفاؤلية ودفاعه عن النظام الصحي في العالم النيوليبرالي، أورد ستيفن بيكر في كتابه السالف الذكر سؤالا وجهته إليه إحدى الطالبات: “ما الذي يجب أن أحيا من أجله؟؟ “، وهو سؤال ذو مغزى عميق، رغم أنه صادر من طالبة في مقتبل عمرها العلمي، لأنه يعكس صوت غالبية الرأي العام المقصي من دائرة القرار، صوت صار كمرجل يغلي بمشاعر الإحباط، ويعبّر عن مرارة الواقع وحالة الانسداد، وعن القلق الوجودي الذي فرضه نظام العولمة، ويرسم شكلا من أشكال التبرّم من هذا النظام والنظرة التشاؤمية التي يعكسها منطوق سؤال الطالبة، والذي يمكن أن يقرأ بتعبير آخر: (( إما أن يموت نظام العولمة المتوحش أو أموت أنا…))، إنه مشهد من مشاهد التحولات والانتظارات المرتقبة، وهو ما سنعالجه في الحلقة الثالثة ( يتبع).
مركز المجدد للبحوث والدراسات