أزمة كورونا والمقاربات الدينية.
دكتور/ صلاح عثمان.
أستاذ المنطق وفلسفة العلم- رئيس قسم الفلسفة بكلية الآداب – جامعة المنوفية – مصر.
salah.mohamed@art.menofia.edu.eg
الأوبئة ما بين رؤية المفكرين والواقع الاجماعي.
في كتابهما المُشترك «الطاعون الأبيض» The White Plague سنة 1952، وصف عالما الاجتماع «رينيه جول دوبو» René Jules Dubos (1901 – 1982) وزوجته «جين بورتر دوبو» Jean Porter Dubos (1918 – 1988) الأمراض بالديناميات التي قسَّمت عصور التاريخ البشري. ولا غرو، ففي سنة 327 قبل الميلاد أدى مرض الملاريا إلى فشل حملة الإسكندر الأكبر على الهند، ومع هذا الفشل تغير مسار التاريخ في المجتمعات الشرقية والغربية؛ وفي سنة 541 م عمل طاعون جستنيان Plague of Justinian (وهو وباء طاعون دملي) على تقويض أسس الإمبراطورية البيزنطية؛ كذلك ساهم طاعون مُسلم بن قتيبة (وهو اسم أول من مات به) سنة 748 م في إسقاط الخلافة الأموية وقيام دولة العباسيين؛ وأدى الطاعون الأسود في القرن الرابع عشر إلى تغيير مسار التاريخ الأوربي بقضائه على ما يقرب من ثلث سُكان القارة! وتأتي جائحة فيروس كورونا (كوفيد 19) الآن لتُذكرنا مرة أخرى بالتأثيرات الضخمة التي يمكن أن تُحدثها الأمراض على مسيرة الإنسان الحضارية.
من المنظور السياسي، تناولنا في مقالٍ سابق تأثير جائحة كورونا على العولمة (جائحة كورونا والعولمة العارية)، وكذا على النظام الدولي الحالي الذي يُنظر إليه غالبًا على أنه امتداد لمعاهدة وستفاليا Treaty of Westphalia سنة 1648، تلك التي وضعت حدًا للصراع الديني في أوربا وأرست قواعد تقسيم الدول القومية ذات الحدود الجغرافية المتميزة، وأوضحنا كيف أن الحدود الجغرافية ليست عقبة أمام انتشار فيروس كورونا – شأنه في ذلك شأن كافة الأوبئة التي سبقته – لأن مفاهيم مثل الأمة أو الحدود الوطنية ليست دائمًا ذات قوة تفسيرية عندما يتعلق الأمر بالديناميات البيولوجية التي تحدث في الطبيعة، وهو ما يجب أن نضعه في الاعتبار حين ننظر في مستقبل العولمة!
في هذا الصدد يذهب الكاتب التركي «غوكهان باجيك» Gökhan Bacık في مقاله «فيروس كورونا وتأثيره على الدين والنظام الدولي» The Coronavirus and its Impact on Religion and the International System (المنشور بتاريخ 19 مارس 2020 بموقع أحوال تركية Ahval) إلى أن كثرةً من القراءات السياسية والدينية للوضع الراهن تتجاهل أننا لسنا أمام مجموعات بشرية تتناحر لأسباب أيديولوجية أو قومية، وإنما أمام تهديد للنوع الإنساني برمته من قِبل نوعٍ آخر: الفيروسات! ومن ثم فإن استجابتنا في خضم الصراع من أجل البقاء يجب أن تكون بالنظر إلى أنفسنا كبشر، وليس كمواطنين ليبراليين أو اشتراكيين أو يهود أو مسيحيين أو مسلمين أو غير ذلك. وبعبارة أخرى، يجب أن تكون استجابتنا كلية بيولوجية متعالية على التشرذم السياسي والديني السائد. قد نقول مثلاً أن جائحة كورونا قد قوَّضت العولمة بالفعل، لكنها في الوقت ذاته قوَّضت أيضًا سُمعة الدولة الحديثة التي لم تستطع حماية مواطنيها رغم استثماراتها الضخمة في الأسلحة، وكان خيارها الوحيد – والأكثر عقلانية – هو إجبار الناس على البقاء في بيوتهم!
رؤية فكرية:
كورنا وأزمة رجال الدين. |
تعاطي رجال الدين التقليدين مع الجائحة في بعض البلدان كان له تأثيره السلبي القوي على الصورة الشعبية للدين، لاسيما لدي الأجيال الشابة؛ حيث تمادى بعض الدعاة في تقديم وصفات وهمية لعلاج المرض، في استغلال واضح لمشاعر الملايين من الناس بعد أن أصبح الدين الملاذ الوحيد لهم في ضوء نقص الإجابات العلمية، وافتقاد القيادة الواعية، وشُح المطهرات واللوازم الطبية! |
أزمة كورونا والمقاربات الدينية.
أما عن المقاربات الدينية الحالية لجائحة كورونا فقد اختلفت من منطقة إلى أخرى وفقًا لاختلاف العقائد والممارسات الدينية، لكنها في أغلبها لم تخرج عن رسم حدود العلاقة الجدلية اللامنتهية بين الدين والعلم، أو بالأحرى بين الإيمان الديني بالغيب وإشباع الجوانب الروحية من جهة، وتفعيل ملكة العقل كملكة فارقة للإنسان من جهة أخرى، وربما كان في وسعنا أن نقول أن تعاطي رجال الدين التقليدين مع الجائحة في بعض البلدان كان له تأثيره السلبي القوي على الصورة الشعبية للدين، لاسيما لدي الأجيال الشابة؛ حيث تمادى بعض الدعاة في تقديم وصفات وهمية لعلاج المرض، في استغلال واضح لمشاعر الملايين من الناس بعد أن أصبح الدين الملاذ الوحيد لهم في ضوء نقص الإجابات العلمية، وافتقاد القيادة الواعية، وشُح المطهرات واللوازم الطبية!
في طهران مثلاً أصبح رجل الدين الشيعي الإيراني «عباس تبريزيان» Abbas Tabrizian موضوعًا للسخرية لدى الشباب الإيراني بعلاجاته الطبية الكاذبة، حيث نشر وصفة علاجية – دعا جميع المصابين بالفيروس لتجربتها – مؤداها وضع كرة قطنية مدهونة بزيت البنفسج على فتحة شرج الإنسان قبل الخلود إلى النوم، معتبرًا أن هذه الوصفة منقولة من السلف وكتب الطب وأحاديث رجال الدين الشيعة! وفي بيروت قام الكاهن الماروني «مجدي علاوي» Majdi Allawi – الذي تحول من الإسلام إلى المسيحية في وقتٍ مُبكر من حياته – باستئجار طائرة خاصة ليطوف بها فوق لبنان قرابة ساعتين حاملاً القربان المُقدس في قمرة القيادة، زاعمًا أنه يُبارك البلاد ويدفع عنها البلاء بتضرعه إلى الله. وقبل صعوده إلى الطائرة، سأله جُندي في المطار عما إذا كان يحمل قناعًا واقيًا ومُعقم يد، فأجابه بقوله: «يسوع يحميني … إنه المُطهر الخاص بي»! وفي ميانمار Myanmar أعلن راهب بوذي أن جُرعة واحدة من عصير الليمون مع ثلاث بذور نخيل فقط كافية لتحصين من يتناولها من المرض، بينما شُوهد بعض الحُجاج في إيران وهم يلعقون الأضرحة الشيعية لدرء العدوى بتوجيه من ملاليهم. كذلك الحال في تكساس Texas بالولايات المتحدة الأمريكية، حيث زعم الداعية التليفزيوني «كينيث كوبلاند» Kenneth Copeland قدرته على التطبيب عن بُعد Telemedicine، وقام ببثٍ حيٍ باسطًا يده المرتجفة ومُدعيًا إمكانية شفاء المؤمنين عبر شاشاتهم! وفي تونس انتشرت بين النشطاء على مواقع التواصل الاجتماعي، قبل الإعلان عن تسجيل أول إصابة، تدوينات تؤكد أن البلد محميٌ من قِبل أوليائه الصالحين الذين يُعتبرون جدارًا منيعًا يُحصّن تونس من وصول الوافد غير المرغوب فيه، وبعد وصول الفيروس ظهر فيديو تم تداوله بشكل كبير عبر صفحات موقع فيسبوك لامرأة تدعي أنها مرسلة مع ستة أشخاص آخرين للقضاء على كورونا، وأنها من سلالة الصحابة والأنبياء، ومعجزتها تخليص التونسيين والعالم من الفيروس الخبيث!
الأكثر إثارة للدهشة هو تنظيم أعضاء طائفة هندوسية في العاصمة الهندية نيودلهي، في الرابع عشر من مارس 2020، لحفلٍ طقسي لشرب بول البقر اعتقادًا منهم بأنه يقي من الإصابة بمرض كورونا! وكذلك قيام امرأة في لبنان بزيارة مشفى حكومي حاملةً معها مزيجًا من الماء المُقدس والأتربة الملوثة المأخوذة من ضريح القديس شربل Saint Charbel لعلاج المرضى!
أما في العالم العربي الإسلامي فقد اتخذ رد الفعل الديني أنماطًا متباينة، وإن كانت أغلبها قد انطلقت من فواجع قهر المسلمين في الماضي البعيد والقريب على امتداد العالم، في معية تجنيد الفيروس واتخاذه دليلاً شرعيًا على صحة بعض تعاليم الإسلام في مواجهة العالم الغربي. على سبيل المثال، في الوقت الذي تسابقت فيه الدول الغربية بُغية تطوير لقاح ضد المرض، عمد بعض الدعاة إلى تغييب العقل تمامًا (رغم كونه بُعدًا هامًا من أبعاد الإيمان) بالدعوة إلى الاستسلام للأمر الواقع باعتبار الوباء قدرًا إلهيًا لا حيلة للبشر في دفعه. أيضًا ذهب آخرون في بداية انتشار الوباء إلى أنه عقابٌ إلهي لدولة الصين جراء اضطهادها للمسلمين: لقد عزلوا الإيغور فعزلهم الله! وحين تجاوز الفيروس نطاق الصين ممتدًا إلى الغرب، أصبح الفيروس رسولاً لإغلاق بيوت الدعارة وبؤر البغاء والملاهي والكباريهات وصالات القمار وحلبات السباق وساحات الممارسات الرياضية والحفلات الماجنة! وحين انتقل الفيروس إلى العالم العربي الإسلامي اتخذ رد الفعل سمة البحث عن رسالة الفيروس التأكيدية لبعض المناسك؛ فالكمامة دليل على النقاب، والعزل دليل على حُرمة الاختلاط، والنصيحة الطبية بغسل اليدين دليل على الإعجاز العلمي للوضوء، وهكذا. لقد غفل هؤلاء في ردود أفعالهم عن أن طاعون عمواس مثلاً قد تفشى في عهد الخليفة العادل عمر بن الخطاب رضي الله عنه، وقتل ما يقرب من ثلاثين ألف مسلم من بينهم كثرة من صحابة الرسول صلى الله عليه وسلَّم، ولم تتخذ ردود أفعال المسلمين وقتئذٍ طابع السلبية والمغالاة كما هو الحال الآن!
مع ذلك، لم يخل المشهد الإسلامي من دعاةٍ جمعوا بين الإيمان والعقل، واتسم خطابهم الدعوي بالحكمة والتوازن في مواجهة ما ارتأوا أنه خطرٌ يُهدد العالم بأكمله، ومن هؤلاء الدكتور أحمد الطيب شيخ الأزهر، الذي جمعت كلمته المتلفزة للناس بين التقرب إلى الله بالدعاء، ودعوة الأفراد والمؤسسات والدول إلى التكاتف وتحمل المسؤولية في مواجهة الوباء، وتشجيع الطواقم الطبية والالتزام بتوجيهات الجهات المُختصة، وتحريم اختلاق الشائعات، والأخذ بالأسباب مع الإكثار من الصدقات واللجوء إلى الله.
لا شك أننا كمسلمين لدينا إيمانٌ قوى بأن المرض – أي مرض – هو جُندٌ من جنود الله (وما يعلم جنود ربك إلا هو: الحشر 31)، وأن التقرب إلى الله بالدعاء عبادة، لكن كثيرًا من الدعاة يتناسون أنهم مسؤولون بالدرجة الأولى عن معاناة المسلمين بتجاهلهم لدعوة الدين إلى إعمال العقل، ومزاولتهم للتخدير الديني الحياتي إزاء كثير من الممارسات السياسية والمجتمعية التي دفعت بالعالم الإسلامي إلى مستنقع الجهل والتخلف، وازدواجية حضورهم الدعوي الزُهدي وترف حياتهم الشخصية، وعدم إدراكهم أن أمة الإسلام ليست في حاجة إلى دلائل على صحة عقيدتها بقدر ما هي في حاجة إلى من يرفع عنها الظلم والقهر وينطلق بها نحو آفاق البحث العلمي!
لقد وضعت الجائحة رجال الدين التقليديين في مأزق وحيرة حول كيفية تحديد رسالتهم وما يُمكنهم الإسهام به في هذه الظروف العصيبة، وحاول بعضهم تجاوز المأزق بالترويج لمقولة التكافؤ بين النصيحة الدينية والنصيحة العلمية، مما يُذكرنا بالشعارات التي رفعتها الكنيسة الغربية حين اصطدمت بالعلم في مطلع العصر الحديث!
رؤية لواقع نعيشه | كثيرًا من الدعاة يتناسون أنهم مسؤولون بالدرجة الأولى عن معاناة المسلمين بتجاهلهم لدعوة الدين إلى إعمال العقل، ومزاولتهم للتخدير الديني الحياتي إزاء كثير من الممارسات السياسية والمجتمعية التي دفعت بالعالم الإسلامي إلى مستنقع الجهل والتخلف، وازدواجية حضورهم الدعوي الزُهدي وترف حياتهم الشخصية، وعدم إدراكهم أن أمة الإسلام ليست في حاجة إلى دلائل على صحة عقيدتها بقدر ما هي في حاجة إلى من يرفع عنها الظلم والقهر وينطلق بها نحو آفاق البحث العلمي! |
أزمة كورنا وتأثيراتها على مستقبل الطوائف الدينية.
من جهة أخرى، وبغض النظر عن نوعية الدين، فإن إغلاق الكنائس والساحات الكبرى (بما في ذلك ساحة القديس بطرس بالفاتيكان)، والمساجد (وفي مقدمتها الحرمين الشريفين بالمملكة العربية السعودية)، والمجامع اليهودية والبوذية وغيرها، سيترك بلا شك أثرًا كبيرًا في ذكريات الشباب الذين لم يعهدوا ذلك من قبل، خصوصًا وأن بعض الممارسات الدينية اتخذت بُعدًا بنكهة التحدي بعد تحرك السلطات الدينية لتقييد التجمعات، الأمر الذي أدى إلى تفاقم أزمة كورونا في بعض الدول. من ذلك مثلاً تصاعد عدد المصابين في ماليزيا نتيجة تجمع ما يقرب من ستة عشر ألف مشارك في تجمع ديني بأحد المساجد قرب العاصمة كوالالمبور في الفترة من 27 فبراير حتى الأول من مارس. وفي كوريا تسببت امرأة مُصابة بالمرض في الستينات من عمرها في تفشي الوباء بعد أن حضرت أربعة احتفالات دينية بكنيسة المسيح في سينتشيونجي Shincheonji Church of Jesus بمدينة تايجو Daegu. وعلى الرغم من حظر التجمعات الكبيرة في نيويورك خلال الفترة الأخيرة، فقد أقيمت عدة حفلات بالمجامع اليهودية الحسيدية ببلدة بروكلين Brooklyn’s Hasidic Jewish communities، وقد كان لهذه الحفلات تأثيرها في انتشار الفيروس بشكلٍ كبير. أيضًا في الأراضي الفلسطينية المحتلة، استعانت الشرطة الإسرائيلية المزودة بالكمامات الواقية والقفازات بطائرات مروحية وهراوات للسيطرة على مجموعة من اليهود المتشددين الذين يصرون على خرق تعليمات وزارة الصحة، حيث شارك مئات الأشخاص قبل أيام في تشييع جثمان أحد الحاخامات بمدينة «بني براك» قرب تل أبيب، ضاربين عرض الحائط بإجراءات الطوارئ! لقد ارتكب هؤلاء جميعًا جريمة القتل باسم التقوى، سواء عن وعي أو عن غير وعي، على حد تعبير «فيفيان يي» Vivian Yee في مقالها بصحيفة نيويورك تايمز New York Times بتاريخ 22 مارس 2020، تحت عنوان: «في حالة الوباء، يمكن أن يكون الدين بلسمًا وخطرًا» In a Pandemic, Rilgion Can Be a Balm and a Risk.
بعض المؤسسات والطوائف الدينية اتخذت سُبلاً جديدة للتواصل مع الناس وتقديم خدماتها تلافيًا لحالة السُبات الدعوي خلال فترة تفشي المرض، وتلبية لحاجات الناس الروحانية والنفسية، وإن اختلف مدى التواصل وزخمه. مثال ذلك ما قامت به بعض الأبرشيات والكنائس في الولايات المتحدة الأمريكية من إطلاقٍ لكافة خدماتها الدينية عن طريق الإنترنت، بما في ذلك طقوس اليوجا وقراءات الشعر والخُطب الإرشادية، وتجنيد الرعايا الأصغر سنًا لمساعدة الشيوخ، سواء بتوصيل الطعام لهم، أو متابعة حالاتهم الصحية، أو حتى للدردشة معهم وإرسال البطاقات والرسوم التحفيزية. كذلك بث الموقع الالكتروني للفاتيكان صلاة البابا فرنسيس، التي أقامها وحيدًا في ساحة كاتدرائية القديس بطرس الخالية، بثمان لغات، من بينها الصينية والعربية، مع إضافة قناة بلغة الإشارة. كما نشطت لجان الفتوى بالمؤسسات الدينية الإسلامية، للرد على كثيرٍ من التساؤلات منذ تفشي الوباء في الصين، سواء عن طريق الهاتف أو من خلال مواقعها الإلكترونية. هل ثمة تأثير لأزمة كورونا على مستقبل الأديان؟
في الستينات من القرن السابع عشر، كتب الفيلسوف الفرنسي فولتير Voltaire (فرانسوا ماري آروويه François-Marie Arouet) يقول: «إذا لم يكن الإله موجودًا فعلينا أن نخترعه، ولكن الطبيعة بأسرها تصيح فينا أنه موجودٌ بالفعل»! لم يكن فولتير ضد الدين كجانب روحي مهم في حياة الإنسان كما ظن كثيرٌ من الباحثين، بل إن معظم ما صدر منه من أقوال لم تكن ضد الدين بقدر ما كانت ضد أفكار من يعتقدون أنهم يُمثلون الدين ويتحدَّثون باسم الله!
نعم، الطبيعة لا تكف عن الصياح في كل لحظة مُعلنة أن المُلك لله، ولن يجري في مُلكه إلا ما شاء وقدَّر، وما فيروس كورونا إلا صيحةً لإيقاظ الناس من سُبات الفساد الأرضي وتنبيه الغافلين (وما نُرسل بالآيات إلا تخويفا – الإسراء: 59)، لكن يبدو أن صياح كثرة من الدعاة التقليدين قد أرهق آذان الناس وعقولهم، وعظَّم من معاناتهم، ولئن كانوا في حاجةٍ إلى الدين، فقد أدرك أكثرهم اليوم – أو ربما سيُدركون – ليست مملوكة لأحد من رجال الدين وإن تدثر بالتقوى، وأن صياح الطبيعة يقتضي إعمال العقل وتأمل ملكوت الله بطلب العلم والمعرفة، وأن الإيمان بدون علمٍ إساءة للدين وطعن في التكريم الإلهي للبشر، كما أن العلم بدون إيمان حماقة وعماء!
تصحيح أفكار مغلوطة |
|
الخلاصة والرؤية:
سيخرج الناس بعد أفول أزمة كورونا بصدمةٍ قد تُسهم أولاً في عودتهم إلى الخالق: إيمانًا وفكرًا وعلمًا، وقد تُسهم ثانيًا في إعادة ضبط علاقتهم بالطبيعة التي يكادون يستنزفون طاقتها؟ وستؤدي المفاهيم الصحية والتقنيات الطبية التي ارتبطت بمكافحة الفيروس إلى ظهور ابتكارات وقواعد جديدة للممارسات الدينية، مثل إنتاج سجادة صلاة للاستخدام مرة واحدة في الحالات التي تستلزم ذلك، وتزويد دور العبادة بالمطهرات بشكلٍ دائم، وتقييد مشاركة المرضى في الصلوات الجماعية، والتماس سُبل الوقاية والعلاج من المتخصصين لا من بائعي الوهم وممارسي الدجل. وإذا كانت أزمة كورونا قد شكَّلت تحديًا قويًا للدين المؤسسي المُنظم أدى إلى التكيف قسرًا مع ثمرات النشاط التكنولوجي، فقد تستمر رهبة قدر كبير من الناس من التجمعات وما يمكن أن تنقله من أمراض حتى بعد انتهاء الجائحة، وبالتالي يمكن أن نجد نزوعًا نحو إيمانٍ أكثر فردية!
رؤية مستقبلية | إذا لم يُسرع العرب والمسلمين إلى النهوض بالوعي الجمعي من خلال مؤسساتهم التعليمية والإعلامية، وظل العقل العربي والمسلم أسيرًا للصراعات الأيديولوجية، مطعونًا بمصالحها، مُتسولاً لمقومات وجوده ممن يُمسكون بتلابيب العلم والتكنولوجيا، فقد تؤدي برامج الهيمنة السياسية المتوقعة بعد الأزمة إلى انتكاسة دينية تتصاعد معها وتيرة الشد والجذب بين فكرٍ إلحادي مفتونٍ بالغرب، وفكرٍ ديني مشوبٍ بالخرافة والوهم! |
مركز المجدد للبحوث والدراسات.