جائحة كورونا والعولمة العارية!
دكتور صلاح عثمان.
أستاذ المنطق وفلسفة العلم، رئيس قسم الفلسفة بكلية الآداب – جامعة المنوفية- مصر.
salah.mohamed@art.menofia.edu.eg
طوفان العولمة:
حتى لو لم يكن لدينا الآن ما نفعله إزاء عالمٍ يُواجه قسرًا تفكيك بنيته الأيديولوجية والاقتصادية، فلا أقل من أن نسعى لفهمه، لعلنا بالفهم نُسهم في إعادة بنائه.
قال أحدهم ذات يومٍ: لا عاصم اليوم من طوفان العولمة، فلنكن إذن على ظهر السفينة وإن كنا نجهل وجهتها، وقال آخر: بل هي أكذوبة القوي على الضعيف، تحملنا إلى ساحاتٍ تتماهى فيها الحدود والقوميات والثقافات وفق أنموذجٍ أوحد للتعايش، وهل ثمة ما يدعو للاغتباط أكثر من رؤية البشر وقد خرجوا من كهوف الهوية والتاريخ واللون لينعموا بدفء البنية الحياتية الواحدة والمصير الواحد، حتى ولو هيمن قطبٌ واحد ثقافةً وعلمًا واقتصادًا؟!
لكن يبدو أن المصير الواحد بات هلاكًا بمعطيات فيروس كورونا التي استباحت اليوم أهم مُخرجات العولمة: التقارب البشري! هكذا ارتأى كثيرٌ ممن يخوضون الآن حربًا شرسًا لوقف الجائحة؛ فلنشرع إذن في بناء جدران العُزلة، ولنغلق الحدود، ولنقيد التبادل التجاري، ولنُسكن الطائرات في مرابضها، ولنبحث عن الخلاص في قوميتنا، ولتكن ثرواتنا المادية والعلمية حِكرًا علينا،ولنقتل العولمة كما قتلتنا! ولِم لا؟
تساؤلات فكرية | من هنا لنا تساؤلات عدة وهي:
ألم تتحول دولة الرفاهية التي بشرتنا بها العولمة إلى كابوس تتضخم فيه بطون رجال الأعمال لتبتلع بشراهةٍ أقوات الشعوب؟ ألم نحمل العولمة مرتزقة الإرهاب على جناحيها لتُصدر الصراعات بين الدول والجماعات والأفراد إلى كافة بقاع الأرض؟ ألم تكن الثقافات في مجتمعات ما قبل العولمة أعمق بكثير من تلك الفقاعات الثقافية التي يبثها الإعلام والإنترنت وتحتفي بها مواقع التواصل الاجتماعي على مدار الساعة؟ ألم نكتشف أن الأسواق الحرة ليست حرة بالفعل، بل مُستبدة بقدر استبداد أربابها؟ ألم تُمزقنا منصات التواصل الإلكتروني أمام شاشات الهواتف والحواسيب لتُنتج مسوخًا تنهشها الأمراض الاجتماعية؟
|
تلك وجهة نظر جديرة بالتأمل، وإن كان قبولها على إطلاقها يستعصي على الواقع، وعلى ذلك المدى الذي قطعته سفينة البشرية في خضم الأمواج الهائلة للعولمة. ورغم تحفظي الشديد على تذويب الهويات والثقافات واللغات في بوتقة واحدة يُهيمن عليها رأس المال الدولي، إلا أن التقهقر إلى الخلف والتخلي عن مُكتسبات العولمة، وأهمها شراكات البحث العلمي ومستحدثات التقانة والتدفق المعلوماتي، قد يكون أشد خطرًا وأعمق تأثيرًا على الكوكب برُمته. لذا ربما كان من الأفضل نفض غُبار الأخطاء التي تراكمت فوق دُثر العولمة حتى أبلتها وكشفت عورتها!
أثر كورونا على العالم والعولمة العارية من وجهة نظر المفكرين:
هذا ما ذهب إليه مثلاً الفيلسوف الأمريكي «نعوم تشومسكي» Noam Chomsky (91 سنة) في حديث له من معزله الصحي في ولاية أريزونا الأمريكية مع الفيلسوف والناشط السياسي الكرواتي «سريتشكو هورفات» Srećko Horvat، نقلته قناة حركة الديموقراطية في أوربا DiEM25 TV، ونشرته وكالة بريسنزا الإخبارية Pressenza بتاريخ 31 مارس 2020، حيث أعلن اننا سنتجاوز أزمة فيروس كورونا، حتى وإن كانت له عواقب وخيمة، لكننا سنواجه أزمتين أشد رُعبًا وبأسًا؛ الأولى تتجلى في نُذر اندلاع حرب عالمية ثالثة تحصد من الأرواح ما لم تحصده أية حربٍ سابقة، وقد تكون أقرب مما كنا نتوقع؛ والثانية أزمة الاحتباس الحراري التي قد تقضي على الأخضر واليابس! ويُلقي «تشومسكي» باللوم على الرئيس الأمريكي «دونالد ترامب»، الذي وصفه بالمُهرج السوسيباتي Sociopath Buffoon، باعتباره رئيسًا للدولة التي يُفترض بها أن تقود البشرية نحو عالمٍ أفضل في ظل العولمة، لكنها ضربت عرض الحائط بكافة مقتضيات القيادة، مُؤثرة سياسات ليبرالية جديدة عمَّقت من المشكلات الاجتماعية والاقتصادية للمجتمع الأمريكي والعالم طمعًا في مزيدٍ من الأرباح. كان من الممكن أن تبدأ الولايات المتحدة في تطوير لقاحات للمرض منذ ظهوره في الصين نهاية ديسمبر الماضي ، وكان بإمكانها أن تُعلن التعبئة المالية والعلمية لإنقاذ العالم، لاسيما بعد أن استضاف مركز جونز هوبكنز للأمن الصحي Johns Hopkins Center for Health Security بالشراكة مع المنتدى الاقتصادي العالمي WEF ومؤسسة بيل وميليندا جيتس Bill and Melinda Gates Foundation الحدث 201 (مُحاكاة لتفشي وباء مُحتمل يُشبه كورونا أجريت في 18 أكتوبر 2019)، لكنها للأسف تمادت في غيّها الاقتصادي لتفاجئها الأزمة، وتتجلى العولمة عاريةً وفاضحة! وما أسخف أن تعمد كوبا إلى مساعدة أوربا، بينما يعجز الاتحاد الأوربي عن مساعدة إيطاليا، في الوقت الذي ما زالت فيه أمريكا تُمارس ضغوطاتها على كلٍ من إيران وكوبا! ويُنهي «تشومسكي» حديثه بأن أمامنا خيارين لا ثالث لهما بعد انتهاء أزمة كورونا: إما أن تنبثق دولٌ وحشية شديدة الاستبداد، أو ينتفض الناس من أجل إعادة بناء جذرية للمجتمع، ونحت مصطلحات أكثر إنسانية، مُستلهمةً تاريخ كفاحها الطويل في هذا الصدد.
على المنوال ذاته تقريبًا ينسج المؤرخ الإسرائيلي «يوفال نوح هراري» Yuval Noah Harari، مؤلف كتاب: «الإنسان العاقل: تاريخ موجز للبشرية» Sapiens: A Brief History of Humankind (2014)، وكتاب: «21 درس للقرن الحادي والعشرين» Lessons for the 21st Century (2018)؛ ففي مقالٍ له نشرته مجلة تايم Time الأمريكية بتاريخ 15 مارس 2020، عمد «هراري» إلى إبراء ذمة العولمة من جائحة كورونا، مؤكدًا أن السبب الأول لحالة الرُعب التي يكابدها العالم الآن هو افتقاد الإنسانية للقيادة الحكيمة!
حال الأوبئة مع ظهور العولمة:
لقد قتلت الأوبئة ملايين الناس قبل زمنٍ طويل من ظهور العولمة؛ ففي القرن الرابع عشر لم تكن ثمة طائرات أو سُفن تجوب القارات، ومع ذلك انتشر الطاعون الأسود من شرق أسيا إلى أوربا، وقتل ما بين 75 و200 مليون شخص (أكثر من ربع سكان أوراسيا Eurasia: أربعة من كل عشرة أشخاص في إنجلترا، وما يقرب من 50.000 من جملة 100.000 شخص في مدينة فلورنسا). وفي مارس من سنة 1520 ضرب مرض الجدري المكسيك، ولم تكن ثمة قطارات أو حافلات أو حتى حمير في أمريكا الوُسطى وقتئذٍ، ومع ذلك، وبحلول شهر ديسمبر من السنة ذاتها، كان الجدري قد دمَّر أمريكا الوسطى بأسرها، وقتل وفقًا لتقديرات بعض المؤرخين ما يقرب من ثلث سًكانها! وفي سنة 1918 تمكنت سًلالة من الأنفلونزا الخبيثة من غزو أبعد بقاع العالم انطلاقًا من أوربا، لتقتل ما يقرب من مائة مليون شخص في أقل من عامٍ واحد! ومع التقدم في شبكات النقل العالمية إبان القرن الماضي سادٌ اعتقاد بأن البشرية باتت أكثر عُرضة للأوبئة، إذ يمكن لأي فيروس أن يشق طريقه من باريس إلى طوكيو أو مكسيكو سيتي في أقل من أربع وعشرين ساعة، لكن ما حدث هو العكس تمامًا، فقد انخفض معدل هجمات الأوبئة بشكلٍ ملحوظ، وأصبح ضحاياها أقل بكثير مما كان عليه الوضع في أي وقتٍ سابق. هذا لأن أفضل وسيلة دفاع انتهجها البشر ضد الأوبئة لم تكن العُزلة والانكفاء على الذات وإغلاق الحدود، وإنما البحث العلمي وتبادل المعلومات حول مسببات الأمراض ووسائل مكافحتها. لم يكن الناس من قبل يتخيلون أن قطرة مياه واحدة قد تحتوي على أسطول كامل من الفيروسات المفترسة المُرعبة، لذا كانت وسيلتهم الوحيدة في الماضي هي إقامة الصلوات الجماعية التي قتلت المزيد والمزيد منهم، لكن العلم اليوم بإمكانه التجسس على حصون الفيروسات وكشف طفراتها، ففي غضون أسبوعين فقط من هجمة كورونا، تمكن العلماء من تحديد التسلسل الجيني للفيروس وتطوير اختبار موثوق به لتحديد الأشخاص المصابين.
نظرة فكرية تأملية. | فقد انخفض معدل هجمات الأوبئة بشكلٍ ملحوظ، وأصبح ضحاياها أقل بكثير مما كان عليه الوضع في أي وقتٍ سابق. هذا لأن أفضل وسيلة دفاع انتهجها البشر ضد الأوبئة لم تكن العُزلة والانكفاء على الذات وإغلاق الحدود، وإنما البحث العلمي وتبادل المعلومات حول مسببات الأمراض ووسائل مكافحتها. لم يكن الناس من قبل يتخيلون أن قطرة مياه واحدة قد تحتوي على أسطول كامل من الفيروسات المفترسة المُرعبة، لذا كانت وسيلتهم الوحيدة في الماضي هي إقامة الصلوات الجماعية التي قتلت المزيد والمزيد منهم، لكن العلم اليوم بإمكانه التجسس على حصون الفيروسات وكشف طفراتها، ففي غضون أسبوعين فقط من هجمة كورونا، تمكن العلماء من تحديد التسلسل الجيني للفيروس وتطوير اختبار موثوق به لتحديد الأشخاص المصابين. |
ماذا نتعلم من ذلك؟
- نتعلم أن أية دولة لن تتمكن من حماية شعبها بإغلاق الحدود بشكلٍ دائم، حتى وإن بالغت في ذلك، وإنما بالتضامن العالمي وتبادل المعلومات العلمية الموثوقة، فبينما تقرأ هذه السطور، ربما تحدث طفرة جديدة في جين واحد لذلك الفيروس الذي أصاب شخصًا ما في طهران أو ميلانو أو ووهان، ولئن حدث هذا بالفعل، فهو لا يُهدد فقط إيران أو إيطاليا أو الصين، ولكن كافة دول العالم كما حدث في الماضي!
- لقد تمكنت البشرية في السبعينات من هزيمة فيروس الجدري لأن العلم وضع لقاحه بين أيدينا، ولأن كافة بلدان العالم قامت بتطعيم مواطنيها، ولو أهملت دولة واحدة إجراء التطعيم لكانت البشرية بأكملها عُرضة للخطر، لأن وجود الفيروس في مكان ما يعني إمكانية عودته بطفرة تحمل تهديدًا مُضاعفًا!
- الأزمة التي نواجهها اليوم إذن ليست فقط بسبب كورونا وعبوره للحدود، وإنما لأن عولمتنا عارية … عارية من الثقة المتبادلة، وعارية من القيادة الرشيدة للإنسانية؛ فعلى مدى السنوات القليلة الماضية، قوَّض السياسيون عمدًا ثقة الناس في العلوم والسُلطات العامة والتعاون الدولي، وثقة الدول والحكومات في بعضها البعض، ونتيجة لذلك نواجه الآن هذه الأزمة التي تفتقر إلى قادة عالميين بإمكانهم الإلهام والتنظيم والتمويل لاستجابة عالمية مُنسقة وفعَّالة. في سنة 2014، مارست الولايات المتحدة دور القائد لمكافحة وباء الإيبولا، وقامت أيضًا بدورٍ مماثل خلال الأزمة المالية سنة 2008،لكنها في السنوات الأخيرة استقالت من دورها كقائد عالمي، وقطعت الدعم عن المنظمات الدولية الكُبرى مثل منظمة الصحة العالمية، وأعلنت بوضوح أن صداقاتها الدولية تستند أولاً وأخيرًا إلى المصلحة فقط، وعندما اندلعت أزمة كورونا ظلت الولايات المتحدة على الهامش، ولم تستطع أية دولة أن تملأ الفراغ الذي خلفته في قيادة العالم، وحتى إن حاولت فقد تآكلت الثقة بعد رؤية العولمة عارية! ومع ذلك، فقد تكون لجائحة كورونا مكاسبها، فقد يستعيد الاتحاد الأوربي الدعم الشعبي الذي افتقده في مسيرته خلف الولايات المتحدة، وقد يُدرك أرباب رأس المال والهيمنة أن الطوفان لن يستثني منهم أحدًا، وقد تموج الإنسانية بنضالٍ يُسفر عن تعاون دولي أوثق وأصدق!
-
الحدث ورؤية مستقبلية مارست الولايات المتحدة دور القائد لمكافحة وباء الإيبولا، وقامت أيضًا بدورٍ مماثل خلال الأزمة المالية سنة 2008، لكنها في السنوات الأخيرة استقالت من دورها كقائد عالمي، وقطعت الدعم عن المنظمات الدولية الكُبرى مثل منظمة الصحة العالمية، وأعلنت بوضوح أن صداقاتها الدولية تستند أولاً وأخيرًا إلى المصلحة فقط، وعندما اندلعت أزمة كورونا ظلت الولايات المتحدة على الهامش، ولم تستطع أية دولة أن تملأ الفراغ الذي خلفته في قيادة العالم، وحتى إن حاولت فقد تآكلت الثقة بعد رؤية العولمة عارية! ومع ذلك، فقد تكون لجائحة كورونا مكاسبها، فقد يستعيد الاتحاد الأوربي الدعم الشعبي الذي افتقده في مسيرته خلف الولايات المتحدة، وقد يُدرك أرباب رأس المال والهيمنة أن الطوفان لن يستثني منهم أحدًا، وقد تموج الإنسانية بنضالٍ يُسفر عن تعاون دولي أوثق وأصدق!
مركز المجدد للبحوث والدراسات.