الذاكرة التصويرية للأحداث التاريخية.
علاء عبدالحميد الباتع.
باحث في تاريخ مصر المعاصر
التاريخ ذاكرة الأمم:
التاريخ، هو ذاكرة الأمم، ومخزن خبرتها وأحداث تاريخها وحضارتها، هذه الذاكرة تحافظ عليها كل أمة وكل شعب بطريقة تناسبه، ولأن السلوك البشري متشابه لدى الكثير، فإن الأحداث التاريخية يتم صياغتها بطرق كثيرة، ولكن يبقى تصوير العقل والذهن للأحداث التاريخية هو محور ما ينتجه الإنسان من أشكال مختلفة لأحداث التاريخ أو تتعدد الصور الذهنية للحدث الواحد، وتختلف من شخص لآخر، بل وتختلف من مجتمع لآخر تبعاً للمبادىء القومية والحياة الاجتماعية وغيرها من العوامل المرتبطة بهذا المجتمع، والذاكرة التصويرية هي تلك الصور التي يكونها العقل عن الأحداث التاريخية نتيجة قراءة عنها أو إطلاع ودراسة أو ربما تكون صورة متوارثة من جيل لجيل داخل المجتمع الواحد، هذه الصور تعطي للحدث التاريخي ملامح ذهنية في العقل، لكن الذاكرة التصويرية لهذه الأحداث قد تتأثر وذلك لإقتران الذاكرة بالنسيان، ولو أضفنا لهم التاريخ فقد تفقد هذة الذاكرة التصويرية للأحداث بعض أجزائها بسبب عوامل كثيرة، على سبيل المثال منها السلوك الإنساني ( يتغير بتغير الزمن وظروف الحياة) فعدو الأمس قد يصبح صديق اليوم.
لكن الذاكرة تختلط فيها المشاعر بالأحداث، مما يصعب عملية الحكم على الأحداث من خلال صور ذهنية، والتاريخ يعتمد على الذاكرة كثيراً، وهو من أكثر العلوم المرهقة للذّاكرة، لأن رسم صورة لمجتمع لا تأتي بمجرد سماع اسمه أو من رؤية شخص آخر، لكن الذاكرة التصويرية تأتي بالبحث والإطلاع والدراسة، فلو تمكن المجتمع من رسم صور صحيحة عن كل شيء لبات الواقع ملائماً لما في العقل من صور، وإنما إذا تم تشويه الذاكرة التصويرية بالنسيان والتعاطف أو بالحقد أو الإنتقام أو غير ذلك…، فهذا يؤدي إلى تشوه في بنية الواقع، وتخرج صور واقعية محطمة تؤثر بطريقة قد تؤدي معها إلى جعل الناس والمجتمع يتمنى لو أنه لم يرى مثل هذه الصور، وهنا ليست دعوة لنسيان لحظات الإنكسار أو غيرها من اللحظات السيئة والعصيبة التي مرت على المجتمع، وإنما هو تصويرها في إطارها وحدودها الزمانية والمكانية وأثرها بعد ذلك، فالإنتصار يعقب الهزيمة، والهزيمة تعقب السقوط وعدم التدبير والتخطيط الجيد.
التاريخ والذاكرة التصويرية:
وهناك صور يجمع العالم كله على بشاعتها ودمارها للإنسانية والبشرية، عندما نذكر الحرب العالمية الأولى (١٩١٤-١٩١٨) تكون الذاكرة التصويرية لها هى التخريب والتدمير الذي لحق العالم نتيجة قيامها، وهكذا الصورة بطريقة أبشع في الحرب العالمية الثانية( ١٩٣٩-١٩٤٥)، وذلك بسبب استخدام أسلحة أصبحت تهدد البشرية لو تم اللجوء إليها، والذاكرة التصويرية تختلف باختلاف الظروف والزمان والمكان، فلو ذكرنا مثلاً ثورة ١٩١٩م ، تستدعى الذاكرة صور الإنجليز وكفاح المصريين ضدهم، كما تظهر صورة الزعيم سعد باشا زغلول، وهكذا، مثلاً إذا ذكر محمد علي باشا، استدعت الذاكرة إنجازاته في كافة ميادين الحياة المصرية، وكذلك ربطت اسمه بمذبحة القلعة، ولو ذكرت الحملة الفرنسية(١٧٩٨-١٨٠١م) على مصر تبادر إلى الذاكرة صورة الفرنسيين وقادة الحملة وعلى رأسهم نابليون بونابرت، وهكذا كل حدث له صورته وذاكرته التصويرية داخل العقل، ولكن تختلف تفصيلات تلك الصور باختلاف الفكر والنقد والقراءة للأحداث، فالصورة تأتي دقيقة جداً، وبعضها قد يأتي دقيق، والبعض الأخر يكون مجرد صور هامشية تكونت من بعض الأحاديث هنا وهناك، دون البحث والدراسة، مثلاً صورة المغول، يرتبط باسمهم المعنى الحرفي للهمجية والبربرية، لما قاموا به من جرائم وتخريب وتدمير لمنطقة العالم الإسلامي وشرق أوروبا، والصورة صحيحة في أن المغول كذلك، لكن هذه هى الصورة العامة عنهم.
أما الشق الثاني من الذاكرة التصويرية لهم، هو أن جزء كبير منهم دخل الإسلام مثل مغول القفجاق (القبيلة الذهبية)، ودافعوا عن الإسلام، بل وحاربوا أبناء عمومتهم لأجل حماية العالم الإسلامي، ووقف عمليات التخريب القادمة من الشرق، أيضاً أقام المغول إمبراطورية عظيمة في الهند وكانت مسلمة، وربما هذا يجعلنا نرسم الذاكرة التصويرية بطريقة حيادية في إطارها كما سبق ذكره، بحيث لا تطغى صورة على أخرى، كل في سياقه حتى نستطيع الخروج بصورة واضحة غير مشوشة نتيجة تبني فكرة أو مذهب أو فلسفة معينة، مثال أخر: وهو الحروب الصليبية ( ١٠٩٧-١٢٩١م) وأول ما يتبادر إلى الذهن هو تلك الحروب التي قامت باسم الصليب، وتقنعت بقناع الدين، وهاجمت بلاد الشرق، وقتلت أصحاب الديانات الثلاثة ( اليهود والمسيحيين والمسلمين)، وخربت ودمرت وقتلت وارتبط اسمها بالدم.
الخلاصة:
وقد تختلف الذاكرة التصويرية لها في الغرب، ولكن المنصفين منهم يعلم أنها كانت ليست مجرد حروب وإنما هجرات بشرية قامت بحروب دموية بشعة، فالذاكرة التصويرية لكل حدث يجب أن تعطيه مساحة واضحة المعالم، هذه الذاكرة بحاجة دائماً للمراجعة وقبولها عملية الحذف والإضافة والتصحيح والتدقيق، وغيرها من العوامل التي تساعد على وضوح تكوينها وبنيتها، فتخيل معي أن الذاكرة التصويرية للأحداث، هى حائط كبير تقوم بلصق أو رسم عليه الصور، ثم بعد فترة تقوم بإصلاح الصورة بمزيد من الألوان أو إضافة عنصر آخر، ولكن يبقى كل ذلك في مساحة الإطار داخل تلك الذاكرة المصغرة على الحائط لحد ما، ربما نبوح بأشياء رغم أن ذهننا يعطي صور أخرى، وربما العكس، فصياغة الذاكرة يعطي مساحة لصياغة وترتيب الواقع والحاضر برؤية ذاكرة التاريخ.