على هامش ذكرى ثورة 1919م – الثورة وانشقاق النخب الوجه الآخر من التاريخ.
د: أحمد سالم سالم – كاتب وباحث في التاريخ والحضارة الإسلامية.
بريطانيا وصناعة الحدث:
تحل اليوم (9 مارس) الذكرى الأولى بعد المئة لثورة مصر الشعبية على المحتل الإنجليزي عام 1919م؛ ذلك الحراك الشعبي الذي أسس لمرحلة جديدة تمامًا، اعترف فيها الاحتلال – ولو شكليًّا – بسلطة مستقلة وحياة دستورية ونيابية؛ لكن السؤال الذي يطرح نفسه: هل كان الاختلاف الحادث في أعقاب الثورة وتطوراته يوافق الهوى الشعبي الذي انبثق منه؟ أم أنه اختلاف تمت حياكته بدقة من بعض الأطراف، ووافق هوى لدى أطراف أخرى، فصار مجرد مَعْبرًا لمصالح ومطامع برجماتية مشتركة، دون أي حساب أو نصيب للقوة المحركة الأولى، ألا وهي الشعب ؟
إن المتعمق في الأحداث المتصلة بشكل أو بآخر بالقوى الإمبريالية الحديثة في مناطق نفوذها سواء عن طريق الاحتلال المباشر أو التبعية والهيمنة، سيجد أنه ما من حدث أو خَطْب يمس أيًّا من مصالح تلك القوى إلا وكانت بداية مواجهته بالقوة الرادعة، لكنها حين تفقد زمام السيطرة على الأمور تحاول احتواء الحدث باتباع طرق ملتوية تخلق عن طريقها مفردات جديدة تشكل بدورها مشهدًا آخر يتم تصديره، لتقبض من خلاله مجددًا على كل الخيوط التي أفلتت أو كادت. ويمكن أن يتضح للرائي أن الكثير من قوانين وأسس اللعبة الجديدة في صالح الخصم، إلا أن المتفحص سرعان ما يجد أن كل هذه القوانين قد وَضَعَها طرف واحد، هو في الحقيقة الخَصْم والحَكَم؛ فكيف ولمن يكون الحُكم المنتَّظَر في النهاية ؟
لم يشفع عند المحتل استنساخ تجربة الحكم الغربية بكل مشتملاتها في نظام ما بعد 1919م، بعد أن حلت الملكية الدستورية محل نظام السلطنة الذي ابتدعته بريطانيا في مصر عام 1914م لمناهضة النظام السلطاني العثماني الذي دخل أمامها الحرب العظمى، أي أن مصر تحولت من خديوية تابعة للسلطة العثمانية إلى سلطنة تحت الحماية البريطانية، ثم إلى ملكية في ظاهرها تشبه ملكيات ما كان يُطلَق عليه العالم الحُر، ذات دستور وبرلمان يحكم الشعب من خلاله، لكن واقعها كان تبعية لما يمليه المحتل سواء على السراي الذي يقبع فيه الملك، أو على طبقة “باشاوات السياسة”، تلك الطبقة الديماغوجية التي تشكلت تحت سمعه وبصره، فصارت وسيطًا يتآلف أو يتصارع في داخله لكنه يظل في النهاية أداة لتمرير السياسة الإمبريالية والحفاظ على مصالحها.
كان على القوى الغربية عزل الشعوب الخاضعة عن محيطها الإقليمي وحَصْرها في نطاقها القُطْرِي، درءً للُحْمَتها التي كانت أساسًا لصمودها من قَبْل في ظل الحكم العثماني؛ فبدلاً من أن تنتفض الأمة انتفاضة واحدة في مواجهة التهديدات التي تحيق بها، كما كان يحدث من قبل، تمايزت شعوبها في ظل انشغالها بداخلها وسيرها في مسارات مختلفة فرضها المحتل وتلك الطبقة التي تنمو دائمًا بين الشعوب وتطلعاتها وبين المهيمن الغربي، والتي يتضح مع الوقت أنها فئة لا تعمل في المجمل إلا لصالحها الذي صار بدوره جزءً لا يتجزأ من صالح المحتل؛ لذا عمل الأخير على تغذيتها أكثر فأكثر حتى تعاظمت وصارت عقبة أخرى في طريق شعوب تطلعت إليها بوصفها ناصرًا ومعينًا بعد أن انخدعت بشعاراتها المعسولة؛ أما إذا صادف وجود أفراد من تلك الطبقة ينتمون أساسًا إلى الشعب ويرومون حقًا مصالحه، فلا مناص أن يَحدث معهم الصدام الذي يتم على إثره لفظهم بأي حيلة أو حجة، أو تَكَلُّ مجهوداتهم في ظل تيار جارف يجدون أنفسهم في النهاية منساقين مع عُبَابه. وبين هذا وذاك تنسحق الآمال وتوأد في مهادها.
السلطة وانشقاق نخب الوفد:
لكن قبل أن تُسحق هذه الآمال بالأطماع والصراعات تعلقت بما اعتبرته بطلاً مجاهدًا، رأت فيه المنقذ والمخلص، غير عابئة ولا مدركة بحقيقة الصراع الدائر وأطرافه. هكذا تندفع الشعوب وراء تطلعات ترفع سقف طموحاتها، وما تلبث أن تُسَلم الراية منتظرة من ذلك الرمز الذي رفعته لتمثيلها أن يكون ذراعها القوية لتحقيق كل ما صبت إليه، لكن الحقيقة أن وهج السلطة أخَّاذ لا فكاك منه، تنشب لأجله المعارك وتدور الدوائر؛ فلم يزل زعماء الوفد الذي طالب بالاستقلال متحدين، حتى سيقت إليهم السلطة بقوة الثورة، وها هنا دب الخلاف والنزاع الذي لم ينته أبدًا بعد أقل من عامين من تأسيس الوفد حين انشق أحد أركانه، عدلي باشا يكن، مؤسسًا حزبًا جديدًا، هو حزب الأحرار الدستوريين، بعيدًا عن رفيقه سعد زغلول، ليصير من ألد خصومه. ويصل شقاق الزعماء إلى الشارع، ليهتف فريقًا من الناس “الاحتلال على يد سعد ولا الاستقلال على يد عدلي”. ونعجب كل العجب حين نعلم – حسب كتاب “سعديون أم عدليون؟ وفاق وشقاق” لعمرو سميح طلعت – أن السبب الحقيقي لهذا الانشقاق هو النزاع على رئاسة وفد المفاوضة مع الإنجليز. وفي نفس الكتاب ما نصه: ” يتضح جليًّا من وقائع الأيام، التي تلت قدوم سعد زغلول من باريس أنه أمضى وقته في الانشغال بثلاثة أمور أساسية، وهي الاستمتاع بالزعامة، وممارسة هذه الزعامة، وأخيرًا المفاوضات بين سعد وعدلي على الشروط السعدية”. ويختتم الكاتب بقوله: ” رأينا في دراستنا كيف عجز صفوة القوم عن أن يحققوا إلا النذر اليسير، وسيطرت على الجميع روح الفردية وعقيدة الاستئثار بالقيادة “.
ولم تتوقف الانشقاقات من حينها؛ فها هو محمد محمود باشا، أحد رفاق سعد وأول من طرح فكرة تأليف الوفد في سبتمبر 1918م للمطالبة بحق تقرير المصير، ينشق هو الآخر ليصبح وكيلاً لحزب الأحرار الدستوريين، ثم خلفًا لعدلي في رئاسته، وأحد ألد أعداء الوفد. وعندما تولى رئاسة الوزارة لأول مرة عام 1928م خلفًا للوزارة الوفدية، كان أول من ينقلب على كل مكتسبات الثورة التي كان أحد رجالاتها؛ فقام بتعطيل الدستور وهو – يا للمفارقة – زعيم “الأحرار الدستوريين”، ليحكم بالاستبداد وبـ “اليد الحديدية” كما أُطلق حينها على وزارته، حتى أنه اضطهد الوفديين وفصل موظفيهم من أجهزة الدولة، وصادر الكثير من الصحف المصرية؛ وعندما تولى رئاسة الحكومة ثلاث مرات بعد ذلك، قبل وفاته عام 1941م، كان قد أصبح مقربًا من السراي، وبعيدًا كل البعد عن الجماهير، فتمادى في استخدام سياسة القوة والتنكيل بخصومه السياسيين، حتى أنه تجرأ على تزوير الانتخابات لأول مرة.
الخلاصة: نحن لا نحكم الشعوب ولكن نحكم من يحكم الشعوب باسم الوطنية:
يقول المؤرخ الراحل حسين مؤنس: “نلاحظ بصورة عامة أن طبقة الباشوات ولدت في مصر حاشية ملوكية، حتى الباشوات الوطنيون الذين ظهروا ظهورًا عظيمًا وتولوا قيادة الشعب من أيام مجلس شورى النواب، من عام 1866م، ثم أيام الحركة العرابية، ابتداء من عام 1879م، ثم قادوا ثورة 1919م، حتى هؤلاء انتهوا آخر الأمر بأن أصبحوا حاشية ملوكية.. رغم ما كان بينهم من خصومات وحزبيات وصراعات، وهم أيضًا مرتبطون بالسفارة البريطانية ارتباطًا وثيقًا.. فالمَلك ينقل الحكم من طائفة من الباشوات إلى طائفة، وعندما تسقط وزارة وتقوم وزارة يذهب الجميع ليوقعوا في دفتر التشريفات.. والملك لا يستطيع أن يعهد إلى أحد في تأليف وزارة إلا بإذن الانجليز.. وعندما أراد فاروق أن يتجاهل حق الانجليز في هذه الناحية لطموه على وجهه، وأرغموه على قبول الرئيس الذي أرادوه وهو مصطفى النحاس – زعيم الوفد – في حادث الرابع من فبراير المشهورة.. ومن الغريب أن بعض المصريين استنكروا ما وقع يوم الرابع من فبراير 1942م، مع أنهم يعرفون أنه لا يمكن أن تقوم وزارة مصرية إلا بإرادة الانجليز.. وما حدث في تلك المناسبة هو أن الملك ورجاله أرادوا مخالفة القواعد فأُرغموا على العودة إليها.. وبعد قيام وزارة النحاس عادوا جميعًا حبايب وجمعتهم كلهم مائدة السير مايلز لامبسون”.
وكأننا نري الأمس بصورة اليوم وأمام اعيوننا ولكن ما زلنا لا نريد أن نصدق ما نراه، ولا نريد أن نستوعب أن السلطة تغيير الجميع إلا صاحب القضية الجقيقية والانتماء والمتعمق في دينه بفهم وبصدق، حيث تجعل الكثير يتاجر باسم الوطن والوطنية ليبقا حبيسها للأبد، فقضبة أي أمة هو مدي وعي شعوبها، ومدي قدرتهم على فهم أحداث التاريخ وربطه بحاضرهم ليفهموه ومن ثم يتنبؤ بمستقبلهم وفق رؤية علمية تاريخية صحيحة.