بقلم: عبداللطيف مشرف – باحث في التاريخ السياسي- جامعة أولوداغ.
القضية والمشكلة:
هناك جوانب كثيرة يتغافل عنها أصحاب المواقف المؤيدة أو المعارضة للممارسة الديمقراطية، وكلا الفريقين يتعامل مع الديمقراطية وكأنها فلسفة موحدة المبادئ والوسائل، ويغفل هؤلاء جميعا أن الديمقراطية هي في فكرتها الأساسية لمنع احتكار القرار والسلطة بيد رجل واحد أو جهة واحدة مما يتسبب في ثورات دائمة وعدم استقرار.
ويمكن لمفهوم الخلافة أن يكون ديمقراطية حقيقية، ويمكن أن يتحول هذا الاسم إلى ديكتاتورية بغيضة باسم الخلافة، وليس لازمًا بالضرورة أن يكون حكم الشعب مضادا لحكم الشرع أو مناقضاً له فالشعب في تكوينه ينزع إلى الفطرة والتدين والمحافظة ولذلك سيسعى إلى المحافظة على خصائصه التكوينية وإذا جنح الشعب في عمومه نحو مسالك غير مرضية شرعا فإن هذا النزوع حال شيوعه وانتشاره أقوى من سلطة الحاكم أو الخليفة مما سيتسبب في صدوع اجتماعية خطيرة.
التحليل للقضية وفق الفكر الإسلامي:
إن أي أسلوب لممارسة الحكم وفق توافق اجتماعي يعتبر مطلباً شرعياً مهما كانت التسمية التي يحملها، ويأتي هنا الأمر الذي نحرص عليه نحن المسلمين أن تكون هذه الممارسة تحت مظلة التشريع الإسلامي الواسعة هذه التشريعات التي قدمت للعالم واحدة من أدق القوانين وأكثرها تفصيلا، كما أن الدساتير الكلية التي يحملها التشريع الإسلامي يستطيع الجميع أن يحملها عن قناعة واحترام وتوافق.
أشد ما يؤلم أن ترى بعض المنظّرين يجعلون بين الأحكام الشرعية وبين آلية اتخاذ التشريع القانوني العام عداوة غير قابلة للفكاك بالنظر إلى بعض الأحكام التي صدرت عن بعض المجالس البرلمانية مما يضاد الحكم الشرعي تبعاً لإرادة الديكتاتورية الحاكمة المستبدة، علما أن كثيرا من هذه التشريعات القانونية لتنظيم الحياة المدنية لا تخالف الحكم الشرعي بل هي من هَدْيه إلا أنهم لم يضعوها تحت مرجعية دستورية إسلامية مما جعل كل حكم يصدرونه مرفوضا حتى إن كان موافقا للتشريع الإسلامي.
الإسلام يخضع الإنسان لقاعدة “الحسن ما حسنه الشرع والقبيح ما قبحه الشرع” وأن بغض الإنسان أو حبه لأمر ما لا يعنيان الشيء الكثير، حيث يقول الله تعالى “وَعَسَى أَن تَكْرَهُواْ شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ وَعَسَى أَن تُحِبُّواْ شَيْئًا وَهُوَ شَرٌّ لَّكُمْ وَاللّهُ يَعْلَمُ وَأَنتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ”، وأن إجماع الغالبية العظمى من الناس على أمرٍ ليس مبرراً لقبوله حيث يقول الله تعالى: “وَإِن تُطِعْ أَكْثَرَ مَن فِي الأَرْضِ يُضِلُّوكَ عَن سَبِيلِ اللّهِ إِن يَتَّبِعُونَ إِلاَّ الظَّنَّ وَإِنْ هُمْ إِلاَّ يَخْرُصُونَ”.
أما بالنسبة لحق انتخاب الأمة لحاكم عام لها، ولممثلين ينوبون عنها يتولون شئون محاسبة الحاكم ونصحه وتقويمه وتسديد أداء الدولة وأجهزتها، إنمّا هو حكم شرعيٌ استمد من الشريعة نفسها وليس من رغبات الناس، يقول النبي الكريم (ومن بايع إماماً فأعطاه صفقة يده وثمرة قلبه فليطعه) ويقول (لا يحل لثلاثة نفر يكونون بأرض فلاة إلا أمّروا عليهم أحدهم)، فقد أناط الشرع سلطة انتخاب الحاكم بالناس أي بالأمة.
كما بين شرعية جواز النيابة وتمثيل الآخرين حيث طلب ذلك النبي الكريم صراحة من وفد المدينة، عندما سألهم أن يخرجوا له منهم اثني عشر نقيبا يكونون كفلاء له على قومهم. وأما المحاسبة والتقويم فتدخل ضمن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وضمن التعاون على البر والتقوى.. وهي عبارة عن أحكام شرعية منضبطة بأدلتها المستقاة من الكتاب والسنة ومحددة بكيفيات وترتيبات معينة.
كما أن النصح والتسديد والتقويم والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر إنما هي أحكامٌ شرعية منفصلة عن حكم الشورى، وهدفها ضمان أمثل تنفيذ للإسلام وإحسان رعاية شؤون الأمة به، وليس النزول عند رغبة الأكثرية! يقول النبي الكريم “مثل القائم على حدود الله، والواقع فيها، كمثل قومٍ استهموا على سفينة فأصاب بعضهم أعلاها، وأصاب بعضهم أسفلها، فكان الذين فى أسفلها إذا استقوا من الماء مَرُّوا على من فوقهم فآذوهم، فقالوا: لو أنا خَرَقْنا في نصيبنا خرقاَ ولم نؤذِ مَنْ فوقَنا، فإن تركوهم وما أرادوا هلكوا جميعاَ، وإن أخذوا على أيديهم نَجَوْا ونَجَوْا جميعاً” رواه البخاري عن النعمان بن بشير.
قضية الحاكم المبايع في الفكر الإسلامي:
فمهمة الحاكم المبايع من قبل الأمة وكذلك الممثلين لها هو إبقاء كيان الدولة مسيساً بالشريعة منفذاً لها على اعتبارها تعلو ولا يعلى عليها وهي السيد في المجتمع، وأنّ أية رعاية لشؤون الناس ومصالحهم ينبغي ضبطها بما يرشد إليه الإسلام نفسه، ولذلك كانت بيعة الأمة لحاكمها مشروطة بالحكم بكتاب الله وسنة نبيه .
ينسف هذا مفهوم السيادة للأمة، أوليس هذا بالنقيض مما هو عليه النظام الديموقراطي!؟ ولا ينبغي أن هذا يعني ترسيخاً للاستبداد وتكريساً للدكتاتورية في المجتمع الإسلامي، إذ أن الإسلام قد جعل الشرع، بمعنى السيادة للشرع لا للحاكم، وأوجب على الناس الاحتكام إليه، وهو فوق الحاكم والمحكوم وبينهما، وينبغي خضوعهما له سويةً، وكان الحاكم نائباً ووكيلاً عن الأمة في تنفيذ الشرع وليس سيدا وصيّا على المجتمع أو على الأمة، وكانت صلاحياته منضبطة بمدى ارتباطه بعقد البيعة الشرعي، وعلى هذا الأساس يفهم قول الخليفة أبو بكر الصديق (أيها الناس إني قد وليت عليكم ولست بخيركم، فإن أطعت فأعينوني، وإن عصيت فقوموني… أطيعوني ما أطعت الله فيكم فإن عصيته فلا طاعة لي عليكم). وكذلك تنص القاعدة الإسلامية المعروفة على أنه (لا طاعة لمخلوق في معصية الله).
الخلاصة والرؤية للقضية:
مما يلفت النظر إلى أن موضوع الحاكم الفرد المستبد لا مكان له في المجتمع الإسلامي من حيث نظام الحكم في الإسلام، اللهم إلا إذا حصل انحراف عن منهج الله، وعندها ينبغي تقويم الخلل بمعالجته وتصويبه، كما هو شأن أي نظام يقع فيه مثل ذلك.
ومن هنا جاءت الأحكام الشرعية التي تتناول معالجة كفر الحاكم أو خروجه عن الشريعة ومتى يخلع من منصبه أو ينخلع، ومتى يعزل من منصبه أو يخرج عليه لعدم استمرار شروط صحة ولايته. ولذلك ينبغي اتخاذ الآليات المناسبة وتبني الأساليب والوسائل السليمة التي تحفظ العدل في الأمة، وتمنع الجور من الاستمرار، وتضمن استقرار الإسلام كسيد في المجتمع، وهذا مما يلزم الإبداع فيه، لأن انحراف الحاكم قد يجرف الأمة إلى الهاوية، إن استهانت بحقوقها واستهترت بواجباتها، ولم تتدارك التقصير من جانب الحاكم في رعاية شؤونها بحسب الإسلام، وعليه كان لا بد من الاستفادة من كل المعطيات الحديثة من وسائل وأساليب وتقنيات تضمن الأداء الحسن للحاكم والمحكوم، فيما ينطبق عليه قاعدة: “ما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب”.
ولا يعني هذا إلغاء النظام الإسلامي واستبداله بنظام آخر بحجة الاستفادة مما توصلت إليه البشرية، فنظام الحكم في الإسلام عبارة عن أحكام شرعية ينبغي الانضباط بها وتجسيدها كما جاءت، والمطلوب هو اتخاذ الخطوات التي تؤدي إلى ذلك لا إلى نقيضه.
كما أنه ينبغي إدراك أن أي نظام سياسي في الدنيا معرضٌ طالما أن منفذيه هم من البشر للتعرض لهزات أو لخللٍ ما، سواء لهشاشة محتواه أو لسوء تنفيذه أو لكليهما، بما في ذلك النظام الديمقراطي نفسه، وما أكثر وقوع ذلك فيه. وتكون معالجة ذلك برد الأمور لنصابها والاستفادة من الثغرات التي تقع لإيجاد ما يقلل من تعرض النظام السياسي لمثلها.
وبذلك يتضح أن نظام الحكم في الإسلام هو تلاحم بين الحاكم والمحكوم لضمان إحسان تطبيق شرع الله ومنهجه. وكون أن الإسلام أجاز انتخاب الحاكم من قبل الأمة مباشرة أو من يمثلها من أهل الحل والعقد، كما هو حاصلٌ في النظام الديمقراطي الرأسمالي أو النظام الاشتراكي الشيوعي أو حتى في نظام دولة الفاتيكان حيث يجتمع الكرادلة من أنحاء مختلف العالم لاختيار البابا، فإن ذلك لا يلغي كل تلك الفوارق الشاسعة بين تلك المبادئ والإسلام، ولا يعقل دمجهم سوية بحال لتشابههم في جزئية، فيصبح أحدهما جوهر الآخر رغماً عن أنفه. كما لا يمكن جعل المبدأ كله يأخذ بحالٍ حكم واحدٍ من أحكامه الفرعية، إذ أن في ذلك تعسفاً في الفكر، وإخراجاً للأشياء عن حقيقة ما هي عليه، فالهدف هو حفظ حقوق الناس ورعايتهم وأمنهم، تحت مظلة حاكم عادل صاحب علم ورؤية، ولا يهم المسمي، ولكن الهدف ومقاصد الإسلام هي المهمة، فحقق هذه الأهداف والمقاصد بأي مسمي، ولكن المهم أن تصل لنهضة وحضارة حقيقية ببصمة وأخلاق إسلامية.
الوحدة السياسية – مركز المجدد للبحوث والدراسات.