نريد من خلال هذه السطور إلقاء نظرة على بعض من أشكال الرقي والعمران في الحضارة الإسلامية من خلال آراء مستشرق فرنسي يدعى موريس لومبار، وموريس لومبار هو مؤرخ فرنسي ينتمي إلى مدرسة الحوليات التاريخية، ولد في 15 أكتوبر 1904 بجمباص أو ما يعرف حاليا بعزابة في الجزائر، توفي سنة 1965 بفرساي، كان مختصا في تاريخ الاسلام في العصر الوسيط[1]، ألف كتاب سماه الإسلام في عظمته الأولى، وتحدث فيه عن حركة الفتوحات الإسلامية ودورها كقوة عسكرية في البداية أدت إلى فتح مناطق شاسعة، ويعتبر الوازع الديني الذي مثله الإسلام، والاقتصادي خاصة الجانب التجاري منه، أهم الدوافع الأساسية للفتوحات، وذكر السهولة التي وجدها العرب في فتحهم لعدد من المناطق، ويرجع ذلك حسب رأيه إلى علاقاتهم التجارية، والقرابة اللغوية التي كانت بينهم وبين المناطق المفتوحة، كما أن الثورات الاجتماعية والدينية التي شهدتها تلك المناطق قبل فتحها، سهلت عملية الفتح، خاصة وأن رسالة الإسلام، كانت تستجيب للشعوب الثائرة على حكم الامبراطوريات السابقة، وإن عملية الفتح لم ترافقها أعمال تخريب أو نهب، مما جعلها تسير بشكل منظم ومحكم.
كل هذه العوامل حسب رأيه أدت إلى بناء دولة إسلامية قوية على المستوى السياسي[2]، وتمتد على منطقة شاسعة، حيث مكّنت عملية الفتح من انتشار اللغة العربية، وانتشار الثقافة الإسلامية، وإحداث تكتل اقتصادي كبير يلعب فيه العنصر التجاري الدور الأساسي، إضافة إلى إنشاء منطقة دينية واسعة[3]، شكّل فيها الإسلام الدعامة الرئيسية. وقد ساير هذا البناء الذي عرفته الحضارة الإسلامية، تطورًا عمرانيًا وحركة تمدين واسعة، وذلك من خلال تأسيس عدد من المدن كان تطورها يضاهي أكبر مدن العالم في تلك الفترة، وتميزت هذه المدن بأهميتها الاقتصادية، وديناميتها التجارية التي جعلت من العالم الإسلامي مركزًا يشرف على أبرز الطرق التجارية، ويلعب دور الوسيط التجاري بين مختلف الحضارات التي تزامنت مع وجوده، خاصة إنه كان يحتل موقعًا يسمح له بتمثيل هذا الدور.
لقد جاء الدور التجاري للعالم الإسلامي بناء على انتشار الإسلام في مناطق شكلت مجاله الحيوي، وهي منطقة “الغرب البربري” التي تشمل شمال إفريقيا، ثم “المنطقة البيزنطية” التي ضمت سوريا ومصر، و”المنطقة الساسانية” المحيطة بإيران والعراق. وإذا كانت حركة التمدين قد تطورت بفعل التجارة، فإن العامل الديني لعب دور وحدة الترابط والتماسك الاجتماعي والثقافي والفكري حيث تشكلت الأمة الإسلامية، وإن ما يميز أفكار لومبارد أنه تناول حركة التمدين في العالم الإسلامي في إطار نوعٍ من المقارنة بين التطور المرتبط بهذه الحركة في العالم الإسلامي والحضارات السابقة، كونه لا يقل عنها أهمية في هذا المجال. كما أن هذا التطور جاء على حساب الانحطاط الضارب في أوساط تلك الحضارات قبل خضوعها لحركة الفتوحات الإسلامية، ويعود مستوى الانحطاط هذا إلى عدة أسباب: أبرزها الأزمات الاقتصادية، وتراجع المبادلات التجارية، فضلا عن غياب “التأطير الحضاري” الذي أحدث نوعا من الخراب والتمزق وسط العديد من المدن في غياب من يدافع عنها.
وقد شملت مقارنة لومبارد في إطار حركة التمدين مستويات عديدة منها مقارنته للمدن الإسلامية مع بعضها البعض من جهة، ومع مدن حضارات تميزت بحراكها الاقتصادي والمديني من جهة أخرى، وركز في وصفه لحركة التمدين أيضا على الدور الاقتصادي لهذه المدن، وعلى أهميتها التجارية، واحتكارها لمعظم الطرق المؤدية إلى المناجم المهمة، فالازدهار الذي عرفته مدينة البصرة على سبيل المثال، يعود إلى قوتها التجارية ودورها الأساسي في تصدير البضائع واستيرادها، وقد منحها موقعها البحري أهمية اقتصادية أيام الفتح الإسلامي، شأنها في ذلك شأن الكوفة وبغداد[4].
ارتبط النشاط التجاري للمدن الإسلامية أيضا، بالصناعات الحرفية التي لعبت بدورها دورا أساسيا في المبادلات التجارية بين المدن مع بعضها البعض، وبينها وبين مدن الحضارات الأخرى، وتعتبر الأسواق رغم طابعها الاجتماعي، من أهم المراكز التجارية المساهمة في توسع المدن الإسلامية، لذلك نرى في كثير من الأحيان، أن ازدهار بعض المدن، يكون بتوسع أسواقها[5]، وتمثل مدينة وهران مثالًا حيا يبرز دور الأسواق كعنصر تاريخي يساهم في حركة التمدين، إذ كانت المدينة مجرد سوق أنشأه أندلسيون للتجارة مع المناطق القريبة. وللعامل العسكري أيضًا دوره الهام في حركة التمدين، بفعل تحول بعض المعسكرات إلى مدن ومراكز حضارية، وهذا الأمر ينطبق أيضا على أمكنة المعارك، مثل الكوفة التي شكلت منطقة للمعركة الحاسمة بين الجيوش الاسلامية والفارسية، وكذلك مدينة الفسطاط التي تأسست كمعسكر في فترة الفتوحات ثم تحولت إلى مدينة شاسعة، بالإضافة إلى مدينة القيروان التي أنشأها عقبة بن نافع كمركز للأسلحة، وقاعدة لانطلاق العمليات العسكرية للفاتحين، وكانت تسمى بمدينة “الحامية”، وارتبطت نشأة المدن عسكريا بأهداف الفتح والجهاد، وتميزت المدينة الإسلامية بسورها العسكري الحصين، وخنادقها الخارجية المتهيئة ضد أي خطر خارجي.
ومن العوامل التي ذكرها لومبار وأشار لدورها في حركة التمدين العامل الإداري، ويقصد به تلك المناطق التي حددها الخلفاء مركزًا لإقامتهم وبناء القصور، بعيدا عن أي ازدحام سكاني، ثم تحولت إلى مدن ومراكز جدب، كمدينة بغداد في المنطقة الساسانية، ومدينة القطائع في المنطقة البيزنطية، ومدينة الزاهرة في منطقة الغرب البربري، وتميزت مساهمة العامل الإداري في تطور المدن الإسلامية بظهور ما يسمى بالأمصار* والعواصم، وبرز ذلك بشكل واضح بعد تطور السيادة سياسيا في الدولة الإسلامية، من إدارة وسيادة عامة إلى سيادة أسرية، وكان هذا التطور مصحوبًا بمحاولات لتنظيم تجمع السكان وتنظيمهم تنظيمًا إداريًا، وتعيين هيأة مخلصة للإشراف على شؤون الأفراد، وتنسيق العلاقات، والسهر على استتباب الأمن[6]، مما أعطى للمدينة في الإسلام ككيان سياسي جديد، نوعا من التنظيم المحكم، وهذا بطبيعة الحال ساهم في ازدهارها وتوسعها.
أشار لومبار أيضا إلى حركة الهجرة، واندلاع الثورات، كعوامل اجتماعية وسياسية تساهم بشكل من الأشكال في حركة التمدين، ويتضح ذلك من خلال تشييد مدينة تونس، حيث تأسست هذه المدينة، بعد أن هجر سكان القيروان مدينتهم بفعل ما تعرضت له من خراب، واتجهوا نحو منطقة تسمى بـ “بتينيس”، وهي منطقة مدينة تونس الحالية. يظهر العامل الاجتماعي أيضا في تطور المدن الإسلامية، من خلال عملية التخطيط للمدينة بناء على الانتماء القبلي للكتل السكانية، ففي مدينة الموصل مثلا، كانت الأحياء والميادين الموجودة بها تسمى باسم القبائل[7]، وقد كان اختلاط القبائل في بعض المناطق من العالم الإسلامي يحمل أبعاد اجتماعية وسياسية مبنية على توثيق الروابط الدينية، وهي عوامل أدت في نفس الوقت إلى إضعاف الروابط القبلية ولو لفترة محدودة[8].
وفي إطار هذه الدراسة أشار لمبارد أيضا إلى دور أهل الذمة من المسيحيين واليهود في نمو المدن الإسلامية، فقد كان خلفاء الدولة الإسلامية وأمرائها، يعينون عدد من سبايا الفتح، وهم من النصارى واليهود في الخدمات الإدارية، على غرار تعيين أبو موسى الأشعري أثناء إمارته كاتبًا نصرانيًا لمدينة البصرة، وآخر مسيحي في إدارة السجون بمدينة الكوفة، وكان ينتشر في كل المدن الإسلامية عدد من اليهود والنصارى من الذين يشتغلون في الحرف والوظائف في الدولة الإسلامية[9].
لقد قدم لنا موريس لومبار عرضًا تاريخيًا لحركة التمدين الإسلامية وأبعاد هذه الحركة على المستويات الاجتماعية والاقتصادية وحتى السياسية، وذلك في محاولة للكشف عن دور التأطير الحضاري ومساهمته في تطور هذه الحركة، وإبراز الدور التجاري والديني في إحداث هذا التطور، والحقيقة أن كتاب موريس لومبار يعد من أهم الكتب التي نستطيع من خلالها الاطلاع على مجمل نتاجات الفكر الإسلامي والأسس المادية للحضارة الإسلامية في مناطق انتشارها، والتعرف على الأقل على دور الوحدة والتماسك الاجتماعي والديني والفكري والاقتصادي في تقدم ورقي هذه الحضارة، ورغم كون موريس لومبار من المؤرخين المستشرقين المتأثرين بالمنهج الماركسي، والذين يتناولون تاريخ الفكر الإسلامي والحضاري من مدخل ذاتي يرتكز على مركزية الحضارة الأوربية باعتبارها حضارة القيادة[10]، إلا أنه لا ينحاز كثيرا إلى هذه المركزية، وهو القائل بأن الحضارة الإسلامية فقدت وحدتها وقوتها عندما أصبح الإسلام يكتسي الطابع الوطني القصير المدى والذي لا يتأسس على وحدة الأمة الدين الفكر، فصار الإسلام أنواع وأشكال، إسلام تركي وإسلام فارسي وإسلام مصري وآخر مغربي.
[1] موريس لمبار، الإسلام في مجده الأول من القرن 5 (8-11م)، ترجمت وتعليق: إسماعيل العربي، (منشورات دار الآفاق الجديدة، المغرب)، الطبعة الثالثة، 1900، ص3-4.
[2] موريس لومبارد، الإسلام في عظمته الأولى (من القرن الثامن إلى القرن الحادي عشر ميلادي)، دار الطبعة للطباعة والنشر بيروت، الطبعة الأولى 1977، ص7.
[3] موريس لومبارد، الإسلام في عظمته الأولى (من القرن الثامن إلى القرن الحادي عشر ميلادي)، مصدر سابق، ص 6.
[4] الموسوي مصطفى عباس، العوامل التاريخية لنشأة وتطور المدن العربية الإسلامية، دار الرشيد للنشر العراق، منشورات وزارة الثقافة والاعلام 1982، ص235.
[5] بهاء موسى حبيب، العوامل المؤثرة على تخطيط المدينة العربية الإسلامية، المشرف نوال تركي موسى، مجلة كلية التربية للبنات للعلوم الإنسانية، العدد 13، نشر في جامعة الكوفة-كلية التربية للبنات 2013، من ص165 إلى 183.
* الأمصار: هي البلدان التي فتحها المسلمون أو التي بناها المسلمون أثناء التوسع والمد الإسلامي.
[6] الموسوي عباس مصطفى، مرجع سابق، ص 127 وما بعدها.
[7] الموسوي مصطفى عباس، مرجع سابق، ص295 وما بعدها.
[8] الموسوي مصطفى عباس، مرجع سابق، ص257 وما بعدها.
[9] الموسوي مصطفى عباس، مرجع سابق، ص293 وما بعدها.
[10] محمد عبد الستار عثمان، المدينة الإسلامية، إشراف أحمد مشاري العدواني، عالم المعرفة، سلسلة كتب ثقافية شهرية يصدرها المجلس الوطني للثقافة والفنون والآداب-الكويت، يناير 1978، من 5إلى 12.
بالتوفيق ان شاء الله مقال رائع ♥♥♥♥